أسباب عدة تفرغ أية دولة من كوادرها العلمية، ويستمر هذا الفراغ إلى أن تصبح هذه الدولة بحاجة إلى أقل الاختصاصات، كونها الطبية أو الهندسية وغيرها، وتتجذر هذه الأسباب في طرق التعامل الحكومي مع هذه الكوادر، فأكثر أسباب هجرة العقول هي:
1- الإهمال المتعمد من قبل المسؤولين الذي يصب في تنمية مصالحهم.
2- الأزمات التي تؤدي إلى إضعاف العملة المحلية وهذا ما يدفع هؤلاء المتخصصين للبحث عن مدخول أفضل في دول أخرى.
3- سياسات التدخل الخارجية والتي تسعى إلى الهيمنة على الدول المجاورة لها من الناحية الجغرافية، وتستورد منها العمال والطاقات العلمية وهذا ما يؤدي إلى التشجيع على الهجرة.
4- تفاقم الأزمات السياسية والذي ينعكس وبشكل مباشر على الداخل ويؤثر على الاقتصاد والأمن والاستقرار المعيشي.
ورغم هذه الأسباب إلا أن هناك حلول كثيرة موجودة أمام أية حكومة تسعى لمنع الهجرة كونها هجرة العقول أو هجرة اليد العاملة، ومن الدول العربية التي تدفع أثمان هذه الظاهرة في شمال إفريقيا هي المغرب، ففي الوقت الذي يستعدّ فيه هذا البلد لإنجاح رهان تعميم الحماية الاجتماعية لفائدة جميع المواطنين، ومحاربة العجز في مجال الأطر الصحية، كشفت نقابة أطباء القطاع الحر أن حوالي 300 طبيب يغادرون المغرب سنويا.
وقالت النقابة إن الغالبية العظمى من هؤلاء اختاروا فرنسا وألمانيا، مشيرةً إلى أنه بحلول نهاية سنة 2018، هاجر ما يقارب 5300 طبيب مغربي نحو بلدان مختلفة تسمح سياساتها الخاصة بتوظيف الأطباء الأجانب.
أرقام مخيفة، أكدها تقرير أجنبي دق ناقوس الخطر حول هجرة الأدمغة لا سيما الأطر الطبية. وكشفت المجلة الطبية البريطانية BMJ ، أن هجرة الأطباء ومهنيي الصحة المغاربة صوب بلدان أخرى تتواصل، متسببة في العديد من التبعات، الاقتصادية والصحية على حدّ سواء، إذ أن هجرة هذه النخب تكلّف المغرب ما بين 0.10 و 0.25 بالمئة من الناتج الداخلي الخام، وهو ما يعادل ما بين مليار و100 مليون درهم ومليارين و767 مليون درهم في السنة.
وتقدّر مصادر صحية عدد الأطباء الذين هاجروا إلى فرنسا، على وجه التحديد، بأكثر من 8 آلاف طبيب.
وتعليقا على هذه الأرقام قال الدكتور محمد زكيري، الكاتب الجهوي للجامعة الوطنية لقطاع الصحة بجهة الدار البيضاء سطات، أن “ظروف العمل وضعف الأجور هو ما يدفع بعدد من الأطر المغاربة إلى مغادرة التراب الوطني للاستقرار بدول أوروبية أو بكندا”.
وأكد أن “الطبيب الذي يدرس لمدة ثمان سنوات بعد الباكالوريا، ويتخرج كطبيب عام، يتقاضى حوالي 8 آلاف درهم (نحو 800 دولار) كأجر في الوظيفة العمومية، وأعلى راتب يمكن أن يبلغه الطبيب المتخصص هو 22.600 درهم (نحو 2200 دولار)، أما الأطر الإدارية فلا تتجاوز تعويضاتها عن المداومة الليلية 600 درهم (60 دولارا) في الشهر. وهذه أجور هزيلة مقابل قيمة العمل الذي يقدمه هؤلاء الأطر، خصوصا خلال الجائحة”.
نقص حاد في الأطر
تعترف الحكومة المغربية بمحدودية المنظومة الصحية الحالية. ففي جواب كتابي لوزارة الصحة على أسئلة النواب داخل قبة البرلمان، بتاريخ 26 أبريل 2021، حول استعدادات المغرب لتعميم التغطية الصحية الشاملة، لم تُخف الوزارة وقوفها على عدد من الإشكالات التي تواجه القطاع، مؤكدة “تعاقب مجموعة من الإصلاحات التي عرفتها المنظومة الصحية دون إحداث نقلة حقيقية وبلوغ الأهداف المنشودة”.
كما أشارت الوزارة، ضمن الوثيقة التي اطلعت عليها “سكاي نيوز عربية”، إلى النقص المزمن في الموارد البشرية، وغياب التوازن الجهوي في توزيعها: إذ تعرف الوضعية الراهنة عجزاً بنيوياً كمّياً ونوعياً في مهنيي الصحية بحاجيات تصل إلى 97.566، (32.522 من الأطباء و65.044 من الممرضين) حيث لا تتعدى الكثافة الحالية 1,7 إطار طبي لكل ألف نسمة، مما يعني أن هناك خصاصاً مُهولاً في الموارد البشرية، حسب الأرقام الرسمية.
واستطردت الوزارة في معرض جوابها مؤكدة “عدم تكافُؤ العرض الصحي الذي لا يستجيب لتطلّعات المواطنين، إذ يتميز عرض العلاجات الصحية بضعف مؤشّرات الولوج، ووجود فوارق بين الجهات وبين الوسطين القروي والحضري، وكذا تقادم البنيات التّحتية وضعف سياسة الصيانة، وعدم احترام معايير الخريطة الصحية في إحداث المؤسسات الصحية العمومية، وغياب التّحفيزات من أجل جلب القطاع الخاص وتشجيعه على الاستثمار في المجال الصحي وفقا لمعايير الخريطة الصحية.
وسجلت الوزارة في السياق ذاته، محدودية تمويل القطاع الصحي الذي يعتمد، بشكل رئيسي، على المساهمة المباشرة للأسر التي تصل إلى 50,7% وهو رقم مهول بالمقارنة مع توصيات منظمة الصحة العالمية.
إضرابات بالجملة
أعلنت حركة الممرضين وتقنيي الصحة، خوض إضراب وطني لمدة 48 ساعة، يومي 29 و30 أبريل الجاري، بجميع المصالح الاستشفائية والوقائية، ما عدا المستعجلات والإنعاش.
يأتي ذلك في وقت أعلنت فيه الحركة المذكورة أيضا الـ25 و26 من ماي المقبل موعدا لإضراب وطني لمدة 48 ساعة بجميع المصالح الاستشفائية والوقائية ما عدا المستعجلات والإنعاش مصحوبا بوقفات احتجاجية إقليمية أو جهوية خلال اليوم الأول من الإضراب.
وأعلن المجلس الوطني لِحركة الممرضين وتقنيي الصحة، في بلاغ له، “رفضه جملة وتفصيلا سن قوانين وتشريعات للمهن التمريضية وتقنيات الصحة في غياب مقاربة تشاركية”، مؤكدا تشبثه بكافة المطالب التمريضية.
كما خاض أطباء القطاع العام عددا من الإضرابات احتجاجا على أوضاع القطاع، وللمطالبة بتحقيق ملفهم المطلبي، وعلى رأسه، الرقم الاستدلالي 509 كاملاً كمدخل لرد الاعتبار للدكتوراه في الطب، دون إسقاطٍ لبقية الحقوق من ضمنها “درجتين بعد خارج الإطار” -وهي رتبة في سلالم أجور الوظيفة العمومية- وتحسين ظروف العمل لعلاج المواطن المغربي، وكذا تخويل الاختصاص في طب العائلة وتقنين الحق المشروع في الإستقالة والتقاعد النسبي والحق في الانتقال، ورفع الحيف الذي يعيشه الأطباء في ظل قانون الحراسة والإلزامية.
ويُلخص هذا الغليان الذي يعيشه القطاع في المغرب، بلاغ للنقابة المستقلة لأطباء القطاع العام، صدر في نوفمبر الماضي، اطلعت عليه سكاي نيوز عربية: “الطبيب المغربي لم يعد يستسغ المبررات والحجج التي تتوارى وراءها الحكومة للتهرب والتنصل من الالتزام بوعودها والتعامل مع ملفه المطلبي بكل جدية وما أصبحت تفرضه وضعيته الاجتماعية والمادية. وعلى هذه الحكومة أن تعي جيداً أن الطبيب لم يعد لديه ما يخسره، فإن كانت على الطبيب واجبات، فإن له أيضاً حقوقا ومطالب مشروعة لن يتنازل عنها”.
واستطرد البلاغ قائلاً: “إن آخر شيء كان يتوقعه طبيب القطاع العام المغربي، بعد كل ما أبانَ عنه من عطاء ونكران للذات، هو أن تتنكر الحكومة المغربية لكل تضحياته ولروحه الوطنية العالية التي أبان عليها خلال هذا الظرف الاستثنائي الذي عاشه ويعيشه المغرب، فبمجرد ما نادى صوت الواجب الوطني لم يتردد طبيب القطاع العام ولم يتهاون أو يتخاذل في تلبية النداء”.
توظيف كفاءات أجنبية
يستعد المغرب لفتح قطاع الصحة أمام الكفاءات الأجنبية، باللجوء إلى استقدام أطباء من الخارج، لسد الخصاص في القطاع، والاستجابة للمتطلبات التي ينتظر أن تتزايد مع تعميم التغطية الصحية.
وفي هذا السياق، قال وزير الاقتصاد والمالية محمد بنشعبون، خلال حفل إعطاء انطلاق مشروع تعميم التغطية الاجتماعية، أمام الملك محمد السادس، في 14 من أبريل بفاس: إن تعميم التغطية الصحية يقتضي رفع مجموعة من التحديات تهم، على الخصوص، مواجهة ضعف معدل التأطير الطبي والعجز الكبير في الموارد البشرية وعدم تكافؤ توزيعها الجغرافي.
ويتطلب الأمر، على الخصوص، حسب المسؤول، اتخاذ إجراءات مواكبة تهم أساسا تكثيف برامج التكوين، والتدريب، والتوظيف للمهارات الطبية والمهنيين الصحيين، لمواجهة الطلب الذي سيتزايد بوتيرة مرتفعة، مع تنزيل هذا الورش المجتمعي الكبير.
وأضاف بنشعبون أن الأمر يتعلق أيضا بتعزيز الإمكانات والقدرات الطبية الوطنية، ومواجهة النقص في الأطر الصحية التي يقتضيها نجاح هذا الإصلاح، عبر “فتح“ مزاولة مهنة الطب أمام الكفاءات الأجنبية.
خطة الوزارة
كشف وزير الصحة، خالد آيت طالب، يوم 26 أبريل بالرباط، مخطط تأهيل وإصلاح المنظومة الصحية لمواكبة الورش الملكي الكبير المتعلق بتعميم الحماية الاجتماعية.
ويرتكز هذا الإصلاح المستعجل، وفق المسؤول، على أربع نقاط تتمثل في تثمين الموارد البشرية، وتأهيل العرض الصحي عبر تدعيم البعد الجهوي، واعتماد حكامة جديدة بالمنظومة الصحية، فضلا عن تطوير النظام المعلوماتي.
وبخصوص تثمين الموارد البشرية، فستتم بحسب آيت طالب، من خلال إحداث وظيفة عمومية صحية عبر مراجعة القانون-الإطار رقم 34.09 المتعلق بالمنظومة الصحية وعرض العلاجات لملاءمة تدبير الرأسمال البشري للقطاع الصحي مع خصوصيات المهن الصحية، وتحسين جاذبية القطاع الصحي العمومي وتحفيز العنصر البشري، وإصلاح التكوين في المجال الصحي.
كما شدد الوزير على ضرورة مراجعة القانون رقم 131.31 المتعلق بمزاولة مهنة الطب لرفع المعيقات والقيود التي يفرضها على مزاولة الأطباء الأجانب بالمغرب، حيث سيمكن ذلك من فتح الباب أمامهم لمزاولة المهنة وبنفس الشروط التي يضمنها القانون لنظرائهم المغاربة.
من جهة أخرى، اعتبر الوزير أن تجسيد إصلاح المنظومة الصحية سيحتم الإسراع بإصدار جميع النصوص التشريعية والمراسيم التطبيقية المتعلقة بها وتعديل النصوص القائمة.
وأكد آيت الطالب أن الوزارة ستحرص على تسريع وتيرة إتمام عدد من المؤسسات الاستشفائية الجديدة لضمان دخولها الخدمة سنة 2021، مما سيمكن من رفع الطاقة السريرية بـ 2.475 سرير إضافي، إلى جانب تأهيل قرابة 1.500 من وحدات الصحة الأساسية باعتبارها البوابة الرئيسية للولوج للخدمات الصحية.
كما ستنكب الوزارة على تسريع ورش تعميم التغطية الصحية الشاملة من خلال إعداد برامج مهيكلة تستند إلى مراجعة القانون رقم 65.00 المتعلق بمنظومة التغطية الصحية الأساسية ليستوعب كل المتغيرات التي تفرضها المرحلة، وتقييم سلة العلاجات المعتمدة حاليا وغيرها، بغية تقليص المصاريف المتبقية على عاتق المؤمَّن.
وفي النتيجة نرى أن لجوء المغرب لسد حاجاته في القطاع الصحي، تولد من تلك الأسباب التي تم ذكرها، وتبقى الحلول أشد صعوبة من معالجة أصل الأزمة وهو من خلال الاهتمام بالكوادر الطبية وغيرها من الخريجين وتأمين فرص العمل لهم، وتهيئة الظروف المناسبة في تحسين مستوى عيشهم للعدول عن أي فكرة في الهجرة وترك بلادهم.