تشهد المدارس التونسية في السنوات الأخيرة ظاهرة أرقت المضاجع وجعلت الكثيرين يطلقون صيحات الفزع جراءها وينادون بإيجاد الحلول الكفيلة بمعالجتها قبل فوات الأوان وحين لا ينفع الندم. وتتمثل هذه الظاهرة في استشراء العنف المادي واللفظي في صفوف التلاميذ حتى وصل الأمر إلى تسجيل خسائر في الأرواح بسبب تهور أطفال قصر لم يلقوا الرعاية والتأطير اللازمين في الوسط العائلي والمدرسي على حد سواء.
لقد أصبحت شكاوي ضحايا التلاميذ، سواء تعلق الأمر بتلاميذ آخرين أو بمنتمين إلى الإطار التربوي، لدى السلطات الأمنية أو لدى إدارات المدارس، أمرا مألوفا بسبب تنامي العنف بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وهو ما تؤكده الأرقام المفزعة الصادرة عن جهات رسمية. وهي أرقام إن دلت على شيء، فتدل على أن هناك خللا ما يعيشه المجتمع التونسي أنتج هذه الظاهرة الغريبة عن عادات وتقاليد هذا المجتمع المنفتح على محيطه وغير الميال إلى العنف وإقصاء الآخر. ومن بين الأطراف التي عبرت عن انزعاجها الشديد من تنامي هذه الظاهرة نقابات التعليم المنضوية تحت الاتحاد العام التونسي للشغل ومن ذلك الجامعة العامة للتعليم الثانوي التي نبهت منذ قرابة السنتين إلى خطورة هذه الظاهرة وانعكاساتها السلبية على المجتمع. كما انتقد الطرف النقابي وزارة التربية على عدم قيامها بما يجب القيام به للقضاء على هذه الظاهرة وهو ما يستوجب برأيها القيام بحركات احتجاجية تنديدا بالعنف وبصمت الوزارة وعجزها عن الدفاع على حرمة المؤسسات التربوية وكرامة العاملين بها.
واكتفت الوزارة إلى حد الآن، ومع تعدد الحكومات، بالتنديد فقط بالعنف والدعوة إلى معالجة هذه الظاهرة واتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من الاعتداءات المتكررة سواء تعلق الأمر بالإجراءات القانونية أو ببلورة منهج تربوي يربي الناشئة على نبذ العنف. لكن السؤال الذي يطرح لماذا لم تقم الوزارة بخطوات عملية بهذا الاتجاه؟ أهو تعدد الحكومات في السنوات الأخيرة الذي يجعل وزراء التربية لا يستقرون طويلا بوزارتهم فلا يجدون الوقت الكافي للإنجاز؟ أم هو غياب الكفاءة لدى أغلب الذين مروا بذلك المبنى العتيق والعريق بباب بنات والملاصق لمدينة تونس القديمة؟
لقد بلغت حالات العنف المسجلة في المرحلة الاعدادية وفقا لوزارة التربية التونسية أكثر من 44 ألف حالة وفي المرحلة الثانوية أكثر من 23 ألف حالة وذلك خلال الفترة الممتدة بين 2012 و2015. وتشير ذات المصادر إلى أنه تم تسجيل 14792 حالة عنف مادي و 5552 حالة عنف لفظي صادرة عن التلاميذ وذلك في سنة 2017. كما تشير الأرقام إلى بلوغ عدد الاعتداءات الصادرة عن تلاميذ تجاه الإطار التربوي 4568 حالة سنة 2019 منها 2266 اعتداءً لفظيًا و2302 اعتداءً ماديًا. وعرفت سنة 2021 جرائم بشعة اهتز لها الشارع التونسي وفتحت المجال لجدل واسع هدفه تشخيص الأسباب لإيجاد الحلول، ومن أبشع هذه الجرائم التي عرفها الوسط المدرسي تلك التي جدت في بداية شهر كانون الثاني/يناير بمعتمدية فرنانة من ولاية جندوبة، حيث تم خنق تلميذ من قبل زميل له في دورات المياه بعد مشادة كلامية بينهما وهو ما أدى إلى وفاة التلميذ ذي الـ14 ربيعا خنقا. كما تعرض أستاذ تاريخ وجغرافيا بمعهد ابن رشيق بمدينة الزهراء بضواحي العاصمة في تشرين الثاني/نوفمبر إلى اعتداء من قبل تلميذ بساطور وسكين داخل الفصل وهو ما جعل الأستاذ ينزف بشدة وينقل إلى المستشفى بحالة حرجة وكاد يفقد حياته في غرفة الإنعاش. كما تم في نفس الشهر تتبع خمسة أطفال بمدينة سوسة الساحلية وسط البلاد كانوا يعدون العدة لحرق مؤسسة تربوية.
ويرجع البعض استفحال ظاهرة العنف في السنوات الأخيرة داخل المؤسسات التربوية إلى عوامل عديدة من بينها إهمال الأولياء لأطفالهم وانخراطهم في العمل من أجل الكسب المادي على حساب تربية الأبناء. كما أن محيط المؤسسات التربوية بات يجلب المجرمين واللصوص وقطاع الطرق وشذاذ الآفاق ومروجي المخدرات والأقراص التي تُذهب العقل والإدراك، والذين يستقطبون التلاميذ في غياب الرقابة الأمنية التي كانت فاعلة في الماضي حيث كان عناصر الأمن يتواجدون أمام المؤسسات التربوية من مدارس وإعداديات ومعاهد.
كما أن الأزمة الاجتماعية التي عاشها التونسيون طيلة العشرية الماضية، وما زالت مستمرة، تخلق توترا أسريا ينعكس سلبا على الوضع النفسي للطفل الذي يعيش مع أسرته الظروف المالية الصعبة والخلافات المتواصلة بسبب العجز عن توفير الحاجيات الضرورية. وقد ازدادت الفاقة خلال جائحة كورونا وهو ما ساهم في ارتفاع منسوب العنف بشكل عام ولدى الأطفال بشكل خاص.
ويرى البعض أن وسائل الإعلام ساهمت بدرجة كبيرة في تراجع صورة المربي وهيبته خلافا لما كان يتمتع به في السابق من احترام وتقدير من الأولياء والتلاميذ على حد سواء. والحقيقة أن التحقير شمل كل النخب بعد الثورة وبطريقة ممنهجة، حيث تطال حملات التشويه قطاعا من القطاعات لمدة زمنية، ثم تتجه نحو قطاع آخر، فلم يسلم رجال التعليم والأطباء والمحامون والقضاة والمهندسون والإعلاميون والأمنيون وغيرهم من هذه الحملات الشعواء.
وهناك أسباب أخرى عديدة منها ظاهرة الاكتظاظ في الأقسام وما يسببه من ضغط على المربي وتوتر لدى التلميذ، وكذلك غياب الأنشطة الثقافية التي تهذب الذوق عن بعض المدارس والمعاهد، وغياب الرياضة المدرسية ومنافساتها والتي كانت قبل الثورة متنفسا للتلاميذ لإخراج الطاقات التي بداخلهم. ومن الأسباب أيضا وجود بعض البرامج المدرسية والبرامج الموازية التي تتضمن نصوصا تحرض ضمنيا على العنف شأنها شأن وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية التي لا تخضع إلى رقابة وتحرض كثير من مضامينها على العنف.
أوضاع مزرية
وفي هذا الإطار يرى ابراهيم الريحاني الخبير التونسي في الطفولة والأسرة ومستشار قاضي الأطفال أن المتأمل في المؤسسات التربوية يلاحظ جليا انتشار نسبة العنف والجريمة في هذا الفضاء العام. ولكن هذا الارتفاع يدخل، برأيه، في سياق الأحداث والوقائع التي عاشتها بلادنا خلال العشرية الأخيرة وما رافقتها من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وخاصة منها الصحية في مواجهة كوفيد وما فرضه من حجر صحي وتغيير لنمط ونسق الحياة العادية.
ويقول لـ«القدس العربي»: «إن ذلك يجرنا بالضرورة للبحث في تداعيات هذا الوضع على نفسية الطفل والتي ترجمت في ارتفاع نسب العنف بشكل مفزع فأصبحنا اليوم لا نتحدث على العنف كمجرّد سلوك منعزل بل كظاهرة اجتماعيّة وثقافة. بتنا نتحدث عن ثقافة العنف التي نجدها في كل مكان، وأينما ولينا وجوهنا، عند الكبير والصغير، في المدينة والريف، وعند العامة وعند النخبة على حد سواء.
فالأطفال اليوم يستبطنون صور العنف داخل الأسرة أو في الألعاب الإلكترونية، ومن الاقران، والمجتمع، لنصل في الأخير إلى التطبيع مع العنف خاصة أمام غياب القدوة لأن النخبة هي نفسها تمارس العنف، ليصبح العنف هو اللغة الوحيدة للتعبير عما يختلج في أنفسهم من مشاعر وأفكار خاصة وانه لم يتم تدربيهم على كيفية التحكم في الانفعالات وضبط النفس. كما أن المؤسسات التربوية اختصرت نفسها في الوظيفة التعليمية وأهملت وظيفتها التربوية والترفيهية فلم تعد تلبي الحاجيات النفسية للتلاميذ.
ولغياب نوادي الاختصاص من مسرح وموسيقى ورياضة، دور في استشراء العنف، فلم يعد هناك متنفس للتلاميذ إلا ما يتم استقطابه سواء من الشارع أو من العالم الافتراضي. فانتشرت المخدرات في هذا الوسط (حوالي 9/100 من التلاميذ يتعاطون المخدرات) وغابت هيبة هذه المؤسسات لأنها لم تعد صديقة للتلاميذ.
كما يعود استشراء العنف في الوسط المدرسي أيضا إلى أسباب فردية ترتبط باختلال النمو العاطفي للطفل داخل الأسرة. فالأخيرة، وبحكم التحديات التي تواجهها اليوم، تفككت ولم تعد تقوم بدورها الأساسي واستقالت كليا عن دورها الحقيقي. لهذا لابد من إعادة المدرسة وإصلاح المنظومة التربوية وفق مقاربة شاملة لأن هذا جوهر الإصلاح الحقيقي، ويجب في هذا الإطار أن تتحد وتتواجد مختلف هياكل الدولة المعنية بالتنشئة الاجتماعية والصحة والثقافة من أجل هذا التغيير حتى تصبح المدرسة صديقة للطفل تتنوع فيها الأنشطة من رياضة وثقافة وتعليم وغيرها.
ولابد من عدالة اجتماعية ورسائل طمأنة إيجابية للجميع وإعادة هيبة الدولة وعلوية سلطة القانون وفتح حوار حقيقي داخل الفضاءات المدرسية يكون بمشاركة الأطفال والتلاميذ وكافة المكونات، في كيفية التصدي لهذه الظاهرة. ولا بد من إعادة هيبة المدرسة إلى جانب تغيير الزمن المدرسي لتخفيف الضغط على التلميذ».
القدس العربي