في كل حرب طاحنة تدمر أي بلد، ترى أن هناك مسببات خلف الكواليس ناتجة عن مطامع دول تسعى للهيمنة، وهذا ما خطه التاريخ في المغرب العربي، الذي تعرض لحقبات متعددة من الاستعمار ونهب الثروات واستغلال التمزق الاجتماعي والشعبي.
ليبيا كغيرها من الدول التي يسلط الضزء عليها من زوايا عدة، فالنفط هو أحد أهم المطامع الغربية في ليبيا، عدا عن الموقع الجغرافي المهم.
من يتابع تطورات الوضع في ليبيا، يرصد الديناميكية الملحوظة التي تشهدها علاقات طرابلس بعواصم العالم. فمنذ تشكيل الحكومة الجديدة لا يكاد يمر يوم دون أن تستقبل طرابلس وفودا رفيعة المستوى بين رؤساء دول وحكومات ووزراء خارجية، وأحدث زوار طرابلس هو رئيس وزراء إيطاليا الجارة الشمالية النافذة في الشأن الليبي.
حسب تقرير حديث لوكالة الطاقة الأمريكية فقد ارتفع احتياطي النفط الليبي من 48 مليار إلى 74 مليار برميل، لتحتل بذلك المركز الخامس عالميا. وبمخزونها الاستراتيجي من الطاقة ترفع ليبيا العمر الافتراضي لإنتاجها النفطي من 70 إلى 112 عاما.
كما كشفت الوكالة الأمريكية عن ارتفاع احتياطات الغاز الليبي إلى ثلاثة أضعاف حيث بلغ 177 ترليون قدم مكعب. وفي تقرير للمجلس الليبي للنفط والغاز يؤكد وجود مناجم يورانيوم بجنوب غرب ليبيا القريبة للحدود مع الجزائر، ومناجم ذهب خام في المنطقة الشرقية القريبة من الحدود مع مصر.
لم تتدخل تركيا في ليبيا، لنصرتها، وإنما، فقط، لتحقيق مطامعها، التي يمكن تلخيصها في خمسة أطماع، أساسية؛ أولها، الاستيلاء على النفط الليبي، الذي تمثل احتياطاته المركز الأول إفريقياً، والتاسع عالمياً، وثانياً تثبيت أقدامها في ليبيا، للانقضاض على نصيب الأسد من خطة إعادة الإعمار، وثالثاً الاشتراك في إعادة تسليح، وتدريب، الجيش الليبي الجديد، ورابعاً تأسيس قاعدة عسكرية بحرية، تركية، في مصراته، على البحر المتوسط، وأخرى جوية، في مطار الوطية، الليبي، بما يحقق لها وجودا عسكريا قويا، في شمال إفريقيا، وخامساً هناك مطمع بعيد المدى، إقليمي الامتداد، يتمثل في حلم عودة الحكم العثماني، إلى شمال إفريقيا، عبر الاستعانة بأحزاب تونسية جارة لليبيا.
وأما عن فرنسا فيعود الحضور الفرنسي في ليبيا إلى أربعينيات القرن الماضي ولا يمكن قراءته بمعزل عن مطامع دول أخرى. وقد غزت القوات الإيطالية صيف 1940 التي كان يقودها موسوليني، الجنوب الفرنسي دعما للحليف الألماني في حربه ضد فرنسا، لتنتقم الأخيرة منها عام 1943، ثم قامت بإنهاء وجودها في ليبيا والشمال الإفريقي، ليبقى الجنوب الليبي، أو ما عرف بإقليم فزان خالصا لفرنسا. وقبل اندلاع ثورة فبراير بثلاث سنوات زار القذافي عاصمة الأنوار في أول زيارة من نوعها منذ بداية السبعينات، وقد رحّب به نيكولا ساركوزي أيّما ترحيب، لكن تلك العلاقة بقيت متقلّبة، ولا تزال نتائجها غير معلومة، وجنت فرنسا أرباحا اقتصادية، عقود بمليارات الدولارات، في مجال شراء طائرات “آير باص” و”رافال” وسلاح آخر، إضافة لاستثمارات كبيرة لشركة “توتال” للنفط والغاز غربي ليبيا.
وبالنسبة لإيطاليا فحدود العام 2011، كانت إيطاليا هي الشريك الاقتصادي الأول لليبيا باستثمارات كبيرة تتجاوز 25 مليار دولار في مجال النفط فقط، عبر شركة إيني، بالإضافة إلى استثمارها في مجالات خدمية أخرى، وُعِدت بها روما بعد لقاء بنغازي التاريخي بين القذافي وبرلسكوني في 2008، وكان فاتحة لعلاقة مربحة بين البلدين عكّرت صفوها تحولات “الربيع العربي” التي لم تكن في صالح إيطاليا وعلى ذلك الأساس كان موقفها من الأحداث في ليبيا وقتها غير واضح واعتبر أنه وقوف إلى جانب القذافي ضد خصومه. وعلى ضوء تلك التطوّرات كانت إيطاليا تتحرك تحت ضغط المنافسين الخارجيين والوقت، وكانت تصريحات مسؤوليها متوترة تقترب في بعض الأحيان من التهديد.
أرقام المبادلات والاستثمارات من المؤكّد أن روما تسعى إلى المحافظة عليها في ظل وجود منافسين أقوياء معها، وخاصة جارتها فرنسا التي تحاول وضع كل نفوذها خاصة أنها تعتبر نفسها صاحبة الفضل في إسقاط النظام في 2011، وقد نالت على ذلك عقودا موقعة من المجلس الانتقالي الذي لم يكن في تلك الفترة قادرا على رفض أي طلب لباريس التي كانت أعلامها ترفرف فوق الأرض الليبية في مشهد لا يريد الليبيون استذكاره.
الوضع الذي تعيشه ليبيا منذ العام 2011، جعلها ساحة مستباحة للقوى الخارجية التي استغلت الفوضى والانقسامات من أجل التدخّل وإيطاليا الشريك الاقتصادي الأول لن تكون الاستثناء بالنظر إلى مصالحها الاقتصادية التي أصبحت تتنافس فيها مع قوى جديدة بدورها تكرر نواياها للتدخل العسكري من أجل السيطرة والهيمنة.
فمتى يصحو الشعب الليبي ويعي حقيقة هذه العلاقات، فهناك من يرى بأن الاستعمار جاء إلى ليبيا بصورة وبقناع آخر، لإخفاء تلك النوايا التي ستتكشف قريباً.