ولد سنة 1820 في قرية بجبال القوقاز وكل ما يعرفه عن نفسه أنه عبد مملوك ينتمي إلى قبيلة أباظه ببلاد الشركس بالجنوب الغربي من جبال القوقاز وأن والده توفي في إحدى الوقائع العثمانية ضد روسيا، فأسر وهو طفل على اثر غارة، ثم بيع في سوق العبيد بإسطنبول، فتربى في بيت نقيب الأشراف تحسين بك، وانتهى به المطاف إلى قصر باي تونس عندما اشتراه رجال الباي من سيده، وجيء بخير الدين إلى تونس وهو في السابعة عشر من عمره سنة 1837، وأصبح مملوكا لأحمد باشا باي الذي قربه وحرص على تربيته وتعليمه. ولحدة ذهنه أقبل على تحصيل الفنون العسكرية والسياسية والتاريخ. عُيّن مشرفاً على مكتب العلوم الحربية. اتضحت خصاله الحربية جلية وفاز بالمراتب العسكرية عن جدارة فولّاه أحمد باي أميرا للواء الخيالة سنة 1849.
تعلم اللغات العربيّة والفرنسيّة والتركيّة في إسطنبول وتلقى العلوم الشرعيّة واللغويّة من علماء معهد الزيتونة في تونس. وفي سنة 1852 سافر إلى باريس وأقام فيها ثلاث سنوات حيث أثرى معارفه في الإدارة والقضاء.
ساهم في إصدار قانون عهد الأمان وتولّى رئاسة المجلس الكبير الّذي أقرّه محمّد الصّادق باي والّذي اخرج أوّل دستور في تونس وفي العالم العربي والإسلامي سنة 1861، الدستور الّذي تضمّن منع الرقّ في بادرة سبقت الولايات المتّحدة الأمريكية وبعض البلدان الأوروبية. تصادم مع الوزير مصطفى خزندار فاستقال ليعتني بشؤونه الخاصّة وليهتمّ بإثراء زاده الفكري حيث كانت له نقاشات عميقة مع رواد الإصلاح حينها مثل الجنرالين حسين ورستم والزّيتونيين أحمد ابن أبي ضياف ومحمّد بيرم الخامس وسالم بوحاجب.
نشب خلاف بين “خير الدين” وبين الوزير “مصطفى الخزندار” على الرغم من صلة النسب التي جمعت بينهما؛ فقد كان “خير الدين” زوجًا لابنة الوزير الكبير، وكان سبب الخلاف رفض “خير الدين” لممارسات الوزير المالية حول أمر الاستدانة من المُرَابين الأوروبيين، فآثر الاستقالة من منصبيه في آخر (جمادى الأولى 1279هـ =23 من نوفمبر 1862م). ولم تمنعه الاستقالة من القيام بالسفر إلى أوروبا وإستانبول، كما كان يحضر اجتماعات المجلس الخاص الذي كان “الباي” يستشيره في بعض الأمور، ثم عاش في شبه عزلة عن الحياة العامة في الفترة ما بين (1282هـ –1286هـ= 1865م –1869)، مبتعدًا عن السياسة ومنصرفًا إلى الدراسة والتأمل.
أصدر كتابه الشهير “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” سنة 1867 والّذي قال فيه المستشرق الألماني الرحّالة “هاينريش فرن مالتزن” أنّه أهمّ ما ألّف في الشرق في عصرنا هذا، وهو عبارة عن برنامج إصلاحي متكامل للنّهوض بالعالم العربي والإسلامي وتهيئته لدخول الحداثة دون التخلّي عن مقوّماته الذّاتية وهويّته وعقيدته وقد اتّخذ مرجعا وترجم إلى اللغات التركية والفرنسية والفارسية.
و بالعودة الى أهمّ الإصلاحات الّتي شرع فيها خير الدّين نرى انّه حاول إصلاح التعليم الزيتوني وتحديث مناهجه في حين سعى الآخرون إلى تهميشه وتدميره، وهو أيضا من قام بإصلاح نظام الأوقاف في حين أنّ من جاؤوا بعده ألغوه بالكامل وتقاسموه كغنيمة بينهم حارمين آلاف المنتفعين به من المستضعفين وهو ما جعل من أعلن ذلك سنة 1956 (السّيد مصطفى الفيلالي الّذي وافته المنيّة منذ أيّام، رحمه الله) يعتذر مؤخّرا للشعب التونسي ويطلب المغفرة من الله ودموعه تنهمر، اعتذار مرّ مرور الكرام في ظلّ غياب أيّة نيّة للمراجعة أو نقد الذّات لتجربة فاشلة لم تنتج سوى الفشل.
عتزل العمل الرسمي عام 1862، وعكف سنوات على قراءة كتب السياسة والفكر. وفي عام 1871 عاد خير الدين للمشهد السياسي رئيسا لجنة مراقبة المالية، وبعد عامين عين رئيسا لوزراء تونس. وقد نفذ خلال توليه هذا المنصب مشاريع عديدة حيث أصلح نظام الضرائب وعمل على تطوير التعليم وتشجيع زراعة الزيتون والنخيل.
لم يكن “خير الدين” إداريًا عظيمًا ومصلحًا فَذًّا فحسب، وإنما كان مفكرًا إصلاحيًا دوَّن أفكاره في كتابه “أقوم المسالك”، وهو يتألف من مقدمة طويلة، وجزأيْن؛ يحوي الجزء الأول عشرين بابًا، كل باب مخصص لبلد من البلاد الأوروبية، وتضم الأبواب فصولا تتضمن الحديث عن تاريخ البلد، وجغرافيته، وموقعه، ومساحته، وأهم ملوكه، وتنظيماته الإدارية والسياسية والعسكرية. أما الجزء الثاني فيحتوي على ستة أبواب؛ خمسة منها في جغرافية القارات الخمس، وخصص الباب السادس للبحار. غير أن أهم ما في كتابه هو مقدمته التي تجاوز الاهتمام بها سائر الكتاب، وأصبحت الإشارة إلى كتاب “أقوم المسالك” تعني الإشارة إلى المقدمة وحدها، وهي تلخص تجربة “خير الدين” كلها التي تركز على مقاومة أوروبا عن طريق الاستعارة منها، والتمسك بالجامعة الإسلامية لدعم هذه المقاومة، ومحاولة إصلاح الولايات الإسلامية المختلفة وبثّ روح اليقظة والنهوض فيها. وتقوم الحركة الإصلاحية عند “خير الدين” على دعامتين رئيسيتين: الأولى: ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية، وعدم قصرها على ما ورد فيه نصٌّ من كتاب الله وسنة رسوله، وذكرهم بمناهج السلف في هذا المجال الذين جعلوا نطاق السياسية الشرعية يتسع ليشمل كل ما لا يخالف الكتاب والسنة وإن لم يرد نص فيه؛ لأن في ذلك تحقيقَ مقصد من مقاصد الشريعة. والثانية: ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على دعامتيْ الحرية والعدل، فإن هاتين الدعامتين تُعدان أصليتيْن في الشريعة الإسلامية، وليستا غريبتين عن المجتمعات التي ينادي بإصلاحها “خير الدين”. وكان “خير الدين” داعية إلى الإصلاح الشامل الذي يقوم على أساس تحقيق العدل والمساواة في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والتعسف عن كاهله، واحترام حقوقه الإنسانية، ولن يتحقق هذا إلا من خلال نظام حكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة في تصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن في الاستبداد والانفراد مدعاة للتفريط في الحقوق. وفي مقابل ذلك اشترط أن تكون الأمة واعية مستنيرة تدرك مسؤولياتها، وتحسن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بما لها من حقوق.