موقع المغرب العربي الإخباري :
أما وقد دخلنا آتون الحرب وجرت علينا آلة القتل والتدمير على الرغم من التحذيرات والتنبيهات الغربية والعربية، وبتنا في عين الإعصار الذي لا خلاص منه سوى بمقاومته عبر التمسك والتشبث بجذورنا في هذه الأرض، وحيث أن لا حديث اليوم سوى توجيه اللوم والعتاب وأسباب التقصير فيما حصل ويحصل، مما أفضى إلى ارتداد بعض الأنفس الضعيفة، وإلى تراجع بعض القلوب المريضة، فعَلَت أصوات الشامتين والشتامين وارتفعت معها النبرة الانهزامية بوجوب رمي السلاح والاستسلام للعدو، مترافقة مع قذف التهم ذات اليمين وذات الشمال، فيما حدث ويحدث ضد فئة معينة أو بحق طائفة محددة أو حتى على حزب واحد، كل هذا في أصل أسبابه لا يكمن في حرصهم على وحدة الوطن أو لحماية الشعب اللبناني كل الشعب من العدوان الاسرائيلي أو لدرء الفتنة بين اللبنانيين، إنما هو ناجم عن جهل في قراءة التاريخ فوقه جهل لمحاولة صياغته من جديد وفقدان للبصر والبصيرة ما بعده فقدان…
ذلك لأن جميع من حمل أو يحمل رتبة مسؤول في هذا الوطن منذ الاستقلال إلى اليوم هو شريك فيما جرى ويجري الآن، فالمسؤولون اليوم هم الورثة لمن كانوا بالأمس، وكلهم مذنبون في هذا ولا أحد بريء بينهم، فهم المتورطون في معمودية الدم هذه بالأصالة أو بالوكالة، وكل طفل جنوبيّ قتلته رصاصة هم فيها إما شركاء وإما مقصرين، بدءاً بمجزرة حولا العام 1948، كيف كانت ردة فعل رؤوساء ووزراء ونواب وأحزاب الجمهورية اللبنانية؟ وماذ فعلوا؟ لاشيء، سوى بيانات الاستنكار ومن ثم دفن الرأس في التراب، وما تبعها بعد ذلك من مجازر اسرائيلية أخرى وانتهاكات فاضحة للسيادة اللبنانية، كيف تمت معالجتها؟ وماذا كانت خطتهم للدفاع عن الجنوب وأهله؟ لاشيء، كل هذا كان قبل دخول منظمة التحرير الفلسطينية الميدان الجنوبي بعقدين، حين تنازلت بعدها الدولة عن واجب الدفاع وأوكلته للمقاومة الفلسطينية….
وما قبل ذلك منذ العام 1943 عندما قام الكيان اللبناني على أسس التفرقة الطائفية والمناطقية، فقسّم مواطنيه إلى درجات وصنفهم ضمن فئات فجعل منهم الفئة الأولى والفئة الثانية والثالثة… وأهمل سكان الأطراف في الشمال والجنوب والبقاع، وتلهى بتعزيز المذهبية في مؤسسات الدولة بدل من الغائها …حتى بات التمييز المذهبي ضمن الجمهورية لا يقل عن التمييز العنصري في الكيان المحتل بتاتاً، لا بل أخطر وأدهى من ذلك إذ سهّل أمور الأحزاب فكان لكل مذهب حزباً إن لم يكن عدة أحزاب فئوية، وكل حزب فرح بما لديه في تكريس الانقسام الأفقي والعامودي للمجتمع اللبناني وفي إضعاف سلطة الدولة من خلال تعزيز المحسوبيات والوساطات، فغابت الوطنية وسيطرت الطائفية وغلبت التبعية، ونُثرت بذور الفتنة ودفع الناس دفعاً لخوض الحرب الأهلية منذ العام 1975.
هذه الحرب التي من أحد اسبابها عدم قدرة الدولة العتيدة على توحيد البندقية اللبنانية باتجاه العدو الحقيقي، وفشلها في حماية سيادتها، وجُلّ ما كانت تفعله هو تسجيل أعداد الخروقات والإصابات في البشر والحجر، فضلاً عن تقديم الشكاوى الصفراء في الأمم المتحدة ضد اسرائيل، فحيّدت نفسها ونأت بجانبها عن تسليح الجيش لحماية ناسها في الجنوب، وتحصنت بمقولة “قوة لبنان في ضعفه” ولسان حالها يقول للجنوبيين “لكم دولتكم الأخرى ففتشوا عن جيش آخر يحميكم، فلا موازنة كافية لدينا للجيش اللبناني تمكنه من الدفاع عن ممتلكاتكم”، فحمل عندها أبناء الجنوب عبء الدفاع عن أنفسهم، فانضموا بداية إلى المقاومة الفلسطينية ومن ثم اللبنانية في ستينيات القرن الماضي، وتضاعفت الاعتداءات والخروقات الصهيونية، ولم تُحرك الحكومات المتعاقبة ساكناً حتى كان فجر 16 سبتمبر العام 1972 حين توغل جيش الاحتلال في قرى الجنوب واصطدم بالجيش اللبناني الذي أثبت جدارته بالتصدي لجيش الاحتلال، وتبنت الحكومة آنذاك معركة الدفاع فكانت المواجهة الأولى والوحيدة، وبدل أن تستفيد السلطة من الدروس والعبر بأن تنكب على وضع خطة دفاعية شاملة على مستوى الوطن، ماذا فعلت؟ لا شيء…
إلى أن كان الاجتياح الكبير منذ العام 1982 فحمل معه سياسات القمع التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الثانية وعهد الحزب الواحد، فنشأت المقاومة المسلحة التي جلبتها اسرائيل على ذاتها فكانت وبالاً عليها، وأُعلن عن “جمول” أي جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية من قبل رواد الحركة الوطنية في حينها، ودخلت حركة أمل في ميدان العمليات ضد العدو، وبرز “حزب الله” كنتيجة حتمية للاحتلال والظلم الاسرائيلي الواقع على اللبنانيين من خلال مجموعة مؤمنة صغيرة لم تتجاوز في بدايتها عدد أصابع اليدين، ونتج من بعدها انتفاضة 6 شباط 1984 ضد العهد الأمريكي- الإسرائيلي، وانقسم البلد من جديد، وجاء الطائف ليزيد من النظام الطائفي طائفية المحاصصة، في كل هذا الوقت لم تتطلع أي من الحكومات لإعادة تسليح الجيش وتجهيزه جدياً بما يلزم لمواجهة العدو الاسرائيلي ولحماية الحدود والمواطنين في الجنوب …
وسُلم أمر تحرير الجنرب للمقاومة ، فحققت الانتصارات في العام 2000 و تموز العام 2006. ووصل الأمر إلى ما وصل إليه اليوم فكانت تفجيرات البيجر والأجهزة اللاسلكية بين أيدي المقاومين، التي كان قد خُطط لها على مدار السنوات الماضية باعتراف العدو نفسه، ليؤكد المؤكد حول نواياه المبيتة وبمنأى عن غزة وطوفانها الأقصى في افتعال حرب استباقية مفاجئة ومدمرة على المقاومة في مهلة كانت أقصاها خلال العام 2024، تهدف إلى اجتياح لبنان سريعاً بعد أن يعمد في البداية إلى تفجير الأجهزة تزامناً مع ضربات جوية مباغتة وقاسية تطال قيادات الحزب ومنظومة القيادة والسيطرة، لكن أحداث 7 أكتوبر 2023 عرقل خطته إلى حين، ليعود إليها من جديد، فبدأ بضرباته المؤلمة ضد حزب الله، وحاول من بعدها التوغل براً من عدة محاور حيث فوجىء بتماسك الجبهة وأصيب بالفشل المرة تلو الأخرى، أبرزها يومي 9 و10 أكتوبر حين حاولت الفرقة 91 التقدم على محوري راس الناقورة واللبونة فسقط لها ما يقارب 400 ضابط وجندي بين قتيل وجريح وأجبرت على التراجع في كل مرة.
وفي الوقت الذي يُسطر فيه المقاومون أنبل الملاحم البطولية على الحدود الجنوبية، ينبري بعض المراهنين على انكسار المقاومة ليقول “أن اسرائيل لن تبقي على سكينة واحدة بيد حزب الله” وفي أن وضع البلد الحالي يشبه سيناريو العام 1982، لا بل أكثر من ذلك بدأ البعض يروج أن دخول أرض جنوب لبنان بعد انتهاء الحرب سيصبح حكراً على من هم ليسوا من المقاومين وعائلاتهم، وغيرها من الإملاءات الأميركية وكأن حتمية انتصار اسرائيل واقع لا محالة، وربما قد يكون للمخطط الاسرائيلي أهداف هي أبعد من ذلك… إلى تغيير ديمغرافي كبير …لكن السؤال القديم يعود ليُطرح مجدداً، ألم تتعلم من هزائمها المتكررة في لبنان؟ وألم تستخلص العبر في أن نبض المقاومة لا يموت في هذا الوطن؟ فهل ستكرر تجربة العام 1982؟ في حينها ظنت أنها قد قضت على المقاومة الفلسطينية، ففوجئت بخروج مقاومات لبنانية عديدة ضدها…واليوم كم من مقاومة ستخرج من لبنان أو ستأتي اليه من الخارج إن هي استمرت في عدوانها؟ إن المشكلة الحقيقية لدى القيادة الاسرائيلية الحالية أنها تخطط فتنفذ من دون دراسة عواقب مخططاتها، إنها “الاستراتيجية الحمقاء”، المبنية على محاولة إحداث الصدمة في نفوس الناس من خلال القتل والتدمير والترهيب الإعلامي، مستفيدة من الصمت الأمريكي الذي أعطاها فترة سماح إلى حين؟…
وبغض النظر في أن واشنطن تنتقم من حزب الله بسبب تفجيرات المارينز في بيروت، إلا أن البعض قد تناسى أن قوات المارينز بذاتها قد خرجت في فبراير/ شباط 1984 تاركة كميات كبيرة من الذخائر على شواطئ الأوزاعي وكذلك في المطار …لمن ولماذا خلفتهم وراءها؟ ومكمن الجواب هو أن أي بلد دخله الجيش الأمريكي وعاد فخرج منه إلا وترك فيه حرب أهلية، وهذا ما حصل بعد انسحابه من بيروت في فبراير/شباط العام 1984، وكذلك هذا ما حصل بعد الانسحاب الاسرائيلي من جبل لبنان العام 1983. وكما في الأمس كذلك اليوم فعلى الرغم من القتل والتدمير فإن “استراتجية العدو الحمقاء” هذه، تقدم هدية مجانية لحزب الله، فمن كان يقف على الحافة بين المقاومة أو ضدها، أصبح معها بوجه العدوان…ومن كان ضد السلاح أصبح أقرب إليه، ومن دُمر منزله وفقد أهله أصبح مشروع مقاوم. ليعود فينتصر خيار المقاومة الذي فُرض علينا…
وما التصدي البطولي الآن لرجال حزب الله في الميدان ضد محاولات توغل العدو إنما يأتي دفاعاً عن لبنان كله، فهي مقاومة شعب أذله الإهمال وقهره انعدام الأستقرار الأمني كماعلى الحدود كذلك في الداخل، كل ذلك بسبب ضعف النظام المتراكم على مدى عقود، مما أدى إلى اهتراء مؤسساته التي فتكت فيها المذهبية ونهشت من جسمها المحسوبية، قبل أن يفكر العدو الآن بالقضاء عليها وإلتهام ما تبقى منها، من أجل هذا ومن حيث يدرون أو لا يدرون هم جميعهم شركاء بتقديم الوطن على المذبح الصهيوني، كل تبعاً لطقوسه في الصلاة والعبادة… إلا المقاتلين الصامدين في جنوب لبنان ففي صلاتهم صبر ومقاومة وتلك هي عبادة الأحرار…
عميد لبناني متقاعد
انسخ الرابط :
Copied