موقع المغرب العربي الإخباري :
أشرت في مقال “إسرائيل نسخة كاربونية لأمريكا التي قامت على الإرهاب و النهب و الإبادات الجماعية” إلى أن واجب الوقت يتطلب و يقتضي توسيع مجال رؤيتنا و تقييمنا لطبيعة الصراع الدائر في غزة و نواحيها ، بل و إعادة تعريفنا لكثير من المفاهيم ، و من ذلك مفهوم الصهيونية و التصهين ، فليس بالضرورة كل يهودي صهيوني، فالصهيونية وفق منطق العصر و تطور الأحداث، هي التبني المطلق لعقيدة العجل الذهبي و تغليب منطق البيترودولار و المادة على منطق القيم ، و تسييد المؤشرات الكمية المادية على حساب المقدسات و الثوابت و الأصول ..
-
عجل بني إسرائيل:
غلبت علينا عقيدة العجل الذهبي و التي هي صناعة إسرائيلية بإمتياز.. فبعد أن نجّى الله بني إسرائيل من فرعون وجنودِه وعبورهم البحر، حمَدوا الله وشكَروه، ثم ما لبثوا فترةً وجيزة إلا ومرّوا على قومٍ يعبدون الأصنام، فطلبوا من نبي الله موسى عليه السلام أن يجعل لهم صنماً إلهً يعبدوه.و قد أخبرنا رب العالمين بذلك في محكم كتابه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. [الأعراف – 140:138]
وبالرغم من أنّ بني إسرائيل من أكثر الأقوام رؤيةً للمعجزات؛ إلا أنّ الكفر كان لا يزال مستقراً في قلوبهم ولم يكن الإيمان قد دخل إليها، فاتّبعوا أهوائهم ومصالحهم، وهذا شأنهم على مر الزمان.
وأثناء هجرة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام إلى فلسطين؛ جاء الوحي إلى موسى أن تعال بقومك إلى جبل الطور في سيناء (حيث التقى موسى مع الله في اللقاء الأول) ليعطيه التوراة شريعة لبني إسرائيل.
وقال الله لموسى عليه السلام أن أتِ إليّ ثلاثين يوماً، ولكن موسى من شوقه وحبه للقاء الله؛ استعجل وسبق قومه إلى الميعاد، وقال لهم اتبعوني إلى جبل الطور، وترك معهم أخاه هارون عليه السلام لقيادتهم.
و في هذه الأثناء كان بنو اسرائيل قد توقفوا عن الحركة وخيّموا في أماكنهم انتظاراً لموسى عليه السلام، رافضين أن يتبعوه، فلما تأخّر موسى عن الثلاثين يوماً (الوقت الأول للميقات)؛ قالوا: “نبي الله لا يمكن أن يتأخر، ولا يخلف ميعاده من المؤكد أنّ شيئاً ما حصل له”.
ووسط هذا الاضطراب جاؤوا هارون عليه السلام فسألوه فقال لهم لعلّكم اقترفتم معصية!
-
ذهب وحلي منهوب:
فتذكروا أنّ كثيراً من نسائهم اللاتي كنّ يخدمن في بيوت المصريات؛ كنّ يستعرن الذهب من سيداتهن لبعض المناسبات، وبقي هذا الذهب معهم عندما خرجوا، ولم يتثنى لهنّ إعادته.
فقال لهم هارون أنّ هذا الذهب لا يحل لكم وفي ذات الوقت لا يمكن لنا أنّ نعيده، فجمعوا الذهب ودفنوه.
-
غسيل الأموال:
هنا جاء رجلٌ اسمه “السامري” فاستخرج هذا الذهب وصنع منه عجلاً، إذ حوّل الذهب الذي هو كلّه آثام وأوزار إلى مجسم عجل. و بذلك كان أول شخصية في التاريخ تخترع ما أصبح يعرف ب “غسيل الأموال أو تبييضها” .. وكان للسامري قدرة عجيبة وهبها الله له، حيث يرى مالا يراه الآخرون، فقد رأى جبريل عليه السلام وهو آتيٍ إلى موسى عليه السلام على فرس، ورأى آثار الفرس تضرب في الأرض، كلما ضرب الفرس الأرض نبت منه الزرع، كأن فيه حياة.
فأخذ السامري جزء من هذا التراب الذي أصابه الفرس، وقذفه على العجل الذي من ذهب، فصار العجل يصدر صوتَ خوار يشبه صوته الحقيقي.
ونادى السامري بني إسرائيل، وقال لهم انظروا هذا إلهكم، هذا الإله الذي ذهب موسى ليلقاه ولكنه نسي وذهب إلى جبل الطور، وسيرجع موسى ليعبد هذا العجل..انظروا هذا عجل جسد له صوت خوار، هل رأيتم يوماً ذهباً يصدر أصواتاً؟!
فاقتنع بنو اسرائيل بكلام السامري، صدّقوه وعبدوا العجل، لم تؤثر فيهم كل هذه المعجزات التي شهدوها، لأنّ الإيمان لم يدخل قلوبهم.
-
مقاومة موسى و هارون:
وبالرغم من محاولات هارون عليه السلام أن ينهاهم عن ضلالهم وانحرافهم بعبادة العجل؛ يقول الله تعالى إخبارًا عن هارون عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ﴾ [سورة طه/90] ، إلا أنهم تمادوا وطغوا وهددوه بالقتل إن لم يصمت، متذرعين بأنّ موسى تأخر عن العودة من جبل الطور، وبأنه نسي إلهه، زاعمين أنّ موسى سوف يؤيدهم على فعلتهم عند عودته.
ولَمّا رجع نبيُّ الله موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وفيهم هؤلاء الذين عبدوا هذا العجل، ورأى عليه السلام ما هم عليه غضب غضبًا شديدًا وكان معه الألواحُ المتضمنة التوراة، فألقى الألواح التي كانت معه من غير استخفاف بها على مكان طاهر ، ثم أقبل على هؤلاء الذين عبدوا العجل يعنفهم ويوبخهم على صنيعهم القبيح هذا.ثم أقبل عليه السلام على أخيه هارون عليه السلام الذي كان قد استخلفه عليهم في أثناء غيبته وأخذ برأسه ولحيته يجرُّه إليه ليدنيه ويتفحص الواقعة والأخبار منه من غير أن يقصد موسى عليه السلام أن يهينه ويستخفَّ به، فقال لموسى عليه السلام: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [سورة طه/94]، عند ذلك دعا موسى عليه السلام ربه وكان قد هدأ غضبه: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [سورة الأعراف/151] ..
-
ذهنية متجذرة:
و قد عمدت لذكر هذه القصة التي أوردها القران الكريم، و هي قصة تساعدنا في فهم سيكولوجية و ذهنية أعداء الله و أعداء الأنبياء ..فهي عقلية مادية بدرجة أولى، و هذه العقلية هي التي أصبحت سائدة و متجذرة في زماننا حتى عند غير اليهود..و لذلك لا غرابة أن نجد من ينتقد المقاومة من منطلق عدم تكافؤ القوى، و من أن الكيان الصهيوني متقدم عسكريا و تكنولوجيا و يصعب مواجهته و التصدي له..
-
لكل فرعون موسى يقومه:
و طوفان الأقصى أكد أن الضعيف قادر على مواجهة فرعون العصر، كما إستطاع موسى بالأمس مواجهة فرعون و سحرته، و تمكن من إنقاذ شعبه من العبودية و التقتيل بدعم رباني و معجزات ربانية لا حد لها ..
و اليوم أيضا نجد ان المقاومة نجحت في صناعة و إنجاز ” معجزات ” و إنتصارات يصعب تفسيرها او التصديق بها من منطلق ذهنية و عقيدة العجل الإنهزامية و الإستسلامية ..
-
أسطورة السنوار:
و لأوضح الفكرة سأعود بالقارئ الكريم إلى حدث إستشهاد السنوار رحمه الله، و ما خلقه من تفاعل و تعاطف غير مسبوق مع شخصه و مع المقاومة و بالأخص حركة “حماس” ، و السبب أن مشهد الاستشهاد البطولي فاق كل تصور، فأكبر المؤلفين والمخرجين السينمائيين لن يفكر في نهاية لقصة أو رواية ما توازي عظمة وأثر نهاية قصة يحي السنوار..
فالمشهد خيالي و يتجاوز تفكيرنا الترابي المربوط بالمادة ، رجل ملثم يجلس على كرسي، مصاب ويده تنزف، يلتفت نصف التفاتة وبنصف عين يشاهد طائرة مسيرة، جراحه تنزف و مع ذلك تغلب عن جراحه وحرك يده الأخرى وأخذ عصا و قام برميها على الطائرة.
-
حمولة رمزية و رسائل قدرية:
المشهد له حمولة سيميائية و رمزية و رسائل قدرية ، مواجهة بين عقيدة العجل ممثلة في القوة و التكنولوجية المتقدمة و المتطورة و بين عقيدة الإيمان بالله و بعدالة القضية ، هذه العقدية الصحيحة و السليمة تؤمن بأن العصا و الحجر أقوى من كل أسلحة العصر .. هذه المواجهة بين العصا البسيطة و الدرون المتطور تكشف الفجوة العميقة ليس فقط المادية بين محور المقاومة و إسرائيل…بل الفجوة بين الأيديولوجيات و المعتقدات بشكل عام ..
صحيح أن العصا ليست هي الطائرة المسيرة و لكن العبرة بالمقاومة و عدم الإستسلام، لم يستشهد مستسلما لأعداءه، بل قتل منهم ما إستطاع إلى ذلك سبيلا ، و عندما إنتهت ذخيرته و ضعفت قوته إستعمل العصا، فالعقيدة الصحيحة تحفز على المقاومة و إعداد العدة بقدر الاستطاعة ، و أن تفعل كل ما تسطيعه من أجل المواجهة قال تعالى : ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾( الأنفال-60) ..
-
كرسي البطولة :
بل الكرسي المنسي بالبيت المهجور الذي استـشهد عليه سيد الشـهـداء و أيقونة الأبطال السـنـوار ، ولدوا و بعثوا من جديد و أصبحوا حديث الساعة ..فالكرسي الذي إستشهد عليه السنوار يستحق أن نتنافس عليه و أخذ صورة بجانبه بل و يوضع في متحف او يكون كرسي رئيس دولة فلسطين المحررة من النهر إلى البحر ..
لأنه كرسي الشرف و الشهامة و التضحية ، كرسي يرفعنا باتجاه القيم السامقة و المعاني الإنسانية الراقية ، هذا الكرسي الذي يرفع صاحبه ..إنه الكرسي الذي اختلط بدماء أشرف الناس و ليس كرسي الذل و الخنوع و العبودية..
تعسا لكراسيكم ”العفنة” التي بعتم بها شرفكم و اوطانكم و شعوبكم و دينكم ..
-
صالون السنوار:
كرسي السنوار ينبغي ان يصنع في كل بلاد وان يكون في مدخل كل بيت لعلنا نذكر أنفسنا و ابناءنا بان الاشياء لا قيمة لها إلا بسيرة و إنجازاتنا السامقة و المشرفة خدمة للناس و للأوطان و دفاعا عن العرض و الدين و مصالح شعوبنا..فالأبطال و الشرفاء يجعلون من البيت المهدم قصرا و الأريكة المهجورة رمزا…
و لا أخفيك أخي القارئ أني قررت أن أجعل الصالون الذي يجاور مكتبي في البيت، بنفس تصميم أريكة السنوار و سأسميه صالون السنوار لعل أبنائي يتعلمون معنى البطولة و الشجاعة و الشهامة ، و لا يكونوا من عباد العجل الذهبي !
-
الطيور على أشكالها تقع:
و سبحان الله هذا الحدث كان سببا في إعادة اكتشاف البيت الذي هدمه الاحتلال، فرأينا جميعا جماليته السابقة و أيضا جمالية و سمو اخلاق أهله ، فسبحان الله الجمال و الاناقة لا تأتي إلا من نفوس راقية مؤمنة و بطلة..
ففي بلداننا تجده أحدهم يعيش الذل و الضنك ، “يعيش عيشة الذبانة في البطانة” و يخشى من كل دعوة للإصلاح او التغيير، يحلم بالاستقرار خوفا من ان يمسه سوء يخاف على الزلط ان يهجره…
حقا من يدافع عن الحق و الكرامة والعدل هم احسن الناس وأعلمهم واغناهم وأتقاهم، وغزة اليوم في مقدمة هؤلاء وكما يقال الطيور على أشكالها تقع.. فغزة ليست ضعيفة أو مهزومة على العكس غزة المحاصرة صانعة لسلاحها، واهلها على اعلى درجات العلم والاخلاق والتدين.. ونمط عيشهم رغم سنوات الحصار أرقى من كثير من الشعوب التي تربت على الذلة و المسكنة وعلى العلف و عبادة العجل .. رحم الله سيد الشهداء وسنوار الأمة ورحم الله كل شهداء معركة الكرامة والنهضة والتحرير.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
كاتب وأستاذ جامعي مغربي
انسخ الرابط :
Copied