الكتابة عن غزة اليوم ليست عملية عصف ذهني أو رواية أو تحليل أو تبرير. الأمر أكثر من كل ذلك بكثير: أن يستخدم المرء كل قوته وتركيزه ومرونته للكتابة أثناء تعرضه للقصف هو شكل من أشكال المأساة.
اليوم، أنسج هذه السطور معًا تحت ظل شجرة في أحد مستشفيات غزة، وأمدد ساقي وجهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي في حضني. لقد استعرت كابل شحن من بعض الصحفيين الذين كانوا يجلسون بالقرب مني. إنهم يتصرفون بنفس السوء مثلي إن لم يكن أسوأ. ما يمر به البعض منهم لا يوصف. بعضهم هلكت عائلاته بالكامل تحت الأنقاض، والبعض كان يوثق المحرقة قبل أن يتفاجأ بأن الجرحى والشهداء هم من ذويهم.
قبل أيام قليلة فقط، في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان صديقي الصحفي جمال الفكاوي يجلس بجواري حيث كنا نتقاسم الطعام والماء. ذهب ليلاً للاطمئنان على عائلته، وعند الفجر وصلنا خبر مقتله وعائلته بأكملها بعد قصف منزلهم. لم ينج أي منهم.
الكتابة في غزة اليوم ليست مجرد عملية عصف ذهني، أو رواية، أو تحليل، أو تبرير، بل هي أكثر من كل ذلك بكثير؛ أن تتذكر قوتك وتركيزك ومرونتك حتى تتمكن من الكتابة أثناء تعرضك للقصف الجوي العنيف هو شكل من أشكال المأساة. هناك شيئان يحفزانني على الكتابة: الأول هو أنني أريد الهروب من كل السيناريوهات التي تدور في رأسي باستمرار، من المشاهد التي رأيتها في غرفة الطوارئ وأطراف الأطفال المشوهة في المشرحة، والثاني أنني يمكن أن أستشهد في أي لحظة، ولا أريد أن تبقى المشاهد العالقة في ذاكرتي هناك دون أن أترجمها بالكلمات وأقوم بترجمة هذه الصور إلى نصوص لتكون بمثابة شهادة حية على ما شاهدته.
زرت منزلي سابقاً، ولعل هذه الزيارة كانت بمثابة دافع إضافي لي للكتابة والتنفيس وإبعاد تفكيري عما كان يحدث. منذ أن بدأت المحرقة، غادرت منزلي، خاصة بعد أن بدأوا باستهداف الصحفيين ومنازلهم وعائلاتهم دون سابق إنذار. لقد استشهد بعض زملائي وأصدقائي، وكذلك عائلاتهم. قررت الرحيل. لا أريد تعريض عائلتي وأطفالي للخطر الذين قد يفقدون حياتهم بسبب جريمة أن يكون لهم أب صحفي. هذا هو التكتيك الوحيد، فالقصف على غزة عشوائي، وهناك عائلات دُفنت تحت الأنقاض دون أن يكون لها فرد صحفي أو كاتب أو حتى سياسي.
الزيارة الطارئة التي قمت بها إلى منزلي جاءت بعد أن اتصلت زوجتي وأخبرتني أن المنزل المجاور لنا تعرض للقصف دون سابق إنذار، وأن سكانه ما زالوا تحت الأنقاض، وأن طفلي الصغيرين، يوسف البالغ من العمر 6 سنوات و5 سنوات لم يستطع يحيى البالغ من العمر عامين التوقف عن البكاء، وأرادوا أن أكون هناك لأشعر بالأمان. عندما دخلت المنزل، لم تكن هناك نوافذ، كانت جميعها مكسورة وتطايرت من مكانها. ولم يصب أحد بأذى إلا بفضل رحمة الله. منذ أن بدأت الحرب، كانت عائلتي تسكن في المطبخ لأنه يقع في منتصف المنزل ولا يوجد به سوى نافذة واحدة صغيرة وأمامها الثلاجة، بحيث إذا تحطمت أثناء أي غارة جوية، فلن تنكسر شظايا الزجاج. يطير ويجرح أي شخص، ويبدو أن الأمر نجح هذه المرة.
لم أختبر هذا القهر من قبل، أن أقف وسط منزلك، أحتضن أطفالك الستة وأمهم تنظر إليك وأنت لا تملك جواباً. أنت تنظر حولك، ولا تعرف ماذا تفعل أو تقول؛ إنهم يرونني كأب قوي لديه دائمًا حلول لأي مشكلة يواجهونها، ويفعل دائمًا كل ما يحتاجون إليه ويجيب على أي أسئلة لديهم، لكن هذه المرة كنت عاجزًا. جلست على الأرض ودعوت الله ألا أبكي أمامهم. منذ ساعة ونصف كنت أبكي على صديقي الطبيب الذي قضيت معه سنوات الدراسة في الخارج. استشهد مع زوجته. احتضنت أطفالي بقوة وبدأت سيناريوهات لا حدود لها تلعب في رأسي: قد يكون منزلي هو التالي. وبينما كنت أحلق في اللولب، قاطعني صغيري يحيى، الذي أخبرني أنه عندما تم قصف المنزل المجاور لمنزلنا، “بكيت وبدأت أبحث عنك بشكل محموم. لا تترك المنزل، فأنا أشعر بالخوف وحدي”. تدخل يوسف ليخبرني أنه رأى عدة شهداء وأشخاص يركضون في الشارع. وقال “لست خائفا. أنا قوي وشجاع”.
قضيت حوالي 15 دقيقة في منزلي. لقد شعروا وكأنهم إلى الأبد. كان علي أن أقرر ما سأفعله بعد ذلك، وكان علي أن أتخلص تمامًا من كل المشاعر الأبوية والخوف وكل ما كنت أمر به. اضطررت إلى تأجيل كل شيء حتى أكون واقعيًا، واقترحت تقسيم الأسرة: البعض سيبقى في المنزل، والبعض الآخر سيذهب إلى أقاربنا، والبعض الآخر سيذهب معي. زوجتي ورفضت هذا الاقتراح رفضًا قاطعًا قائلة: “سأبقى مع أطفالي. إما أن نموت معًا أو نعيش معًا. لا أحد يمر بألم فقدان شخص ما”. لقد امتثلت لشرط أن أغادر وأعود إلى المستشفى.
كيف يمكنني المغادرة؟ كيف أتركهم وقد تكون هذه آخر مرة أراهم أو يرونني فيها؟ قد تكون هذه آخر مرة لنا معًا كعائلة. ماذا أقول ليوسف ويحيى بعد مجيئي لأنهما كانا مرعوبين من القصف الذي عايشاه مباشرة؟ كيف يمكنني الخروج من الباب؟ كيف سأتجاوز اللحظة التي أدرت لهم ظهري وأغلقت الباب خلفي؟ ماذا عن بناتي؟ استجمعت كل ما تبقى لي من قوة، وعانقتهم، وقبلتهم واحدًا تلو الآخر، واستدرت قبل مغادرة المنزل. كانت تطاردني نظرات يحيى ويوسف المحملة بالتوسلات لي بالبقاء والخوف من أن أكون وحدي دون والدهم، كانت محملة بمشاعر وكلمات لا توصف، ولآخر حياتي أسئلة “” ماذا كانوا يفكرون في تلك اللحظة؟” و”ماذا بقي من صورتي الأبوية في أذهانهم؟” سوف تطاردني إلى القبر.
أخذت كل تلك الأسئلة والمشاهد وعدت إلى المستشفى. مررت بغرفة الطوارئ الممتلئة؛ كانت غرفة الانتظار ممتلئة، وكانت وحدة العناية المركزة ممتلئة، وجميع الأسرة مشغولة، ولم تعد بعض سيارات الإسعاف تتوقف عند مدخل غرفة الطوارئ بل كانت تتجه مباشرة إلى المشرحة. ذهبت إلى المشرحة، وبدا أن الخوف من الموت لم يعد موجودًا هناك. لقد تجاوز الناس الموت. رأيت رجلاً في السبعينيات من عمره أعرفه جيدًا. لقد كان مدرسي في المدرسة الثانوية. سألته ماذا كان يفعل هناك، فقال بثبات: “أنا أنتظر أن أكفن ابني وحفيدي لأدفنهما”. رن هاتفه وأنا هناك، فقال للمتصل: “أخبر أهل زوجة أخيك أن يسرعوا ويلتقطوا جثتها”.
سيارة تضررت بشدة من القصف ولكن ليس بما يكفي لإخراجها من الخدمة، فهي صامدة مثل أهل غزة، جلس في المقعد الأمامي، يعانق حفيده بقوة بعد أن وضع ابنه في المقعد الخلفي، وغادر . الصورة لا تزال عالقة في ذهني، ولا أستطيع إخراجها.
لإكمال هذه الشهادة الحية، يجب أن أتوقف للحظة للحديث عن مشهدين آخرين. عندما بدأت الكتابة، سمعت صوتًا عاليًا ومكثفًا، وفجأة انطلق وابل من الصواريخ من منصة إطلاق قريبة. تابعت الأخبار وعلمت بسقوطهما في “تل أبيب”، وفشلت القبة الحديدية في اعتراضهما. ومنهم من ضرب منزلا. شعرت بموجة من الفخر، وشعرت بالدم يتدفق في عروقي، وكانت تلك هي المرة الأولى. المشهد الثاني: هتاف الناس وفرحهم وزغاريدهم وتصفيقهم؛ كيف كانوا يهتفون للصواريخ وهي تحلق فوق غزة وهم يصلون من أجل المقاومة. كان هؤلاء الناس مستلقين على الأرض وليس لديهم سوى النجوم في سماء الليل كغطاء لهم، يحتفلون باستشهاد أحبائهم، ويقفون في طوابير طويلة للحصول على رشفة من الماء أو بعض الخبز، يكتمون حزنهم، ويرحبون بحزن العالم. العداء مع ابتسامة مرنة وملابس الحداد لا تزال على حالها، وكل ذلك لم يستطع أن يكسر خطوتهم.
هؤلاء يشكلون البيئة التي ولدت المقاومة والدعامة التي تقوم عليها، إذ يظن العدو أن قصفهم سيقوضها، كما يظن أن تهجيرهم سيغير رأيه في المقاومة، ويوقع إسفيناً بينهم وبين المقاومة. ولأنها تعتقد أن أفعالها ستدفعهم إلى الاستسلام والتلويح بالراية البيضاء. ما لا يفهمه العدو وداعموه في واشنطن وأوروبا هو أن هؤلاء الناس لا يسامحون ولا يغفرون. لن ينسوا حقهم في العدالة، ولن يسامحوا دون الحصول عليه. إن هذه الجرائم وهذه المحرقة التي ترتكب في قطاع غزة سيكون لها تداعيات خطيرة عليها، وستظل هذه العواقب تتكشف عبر الأجيال القادمة بحجم لا يمكن تصوره.
وهذا كله دون مبالغة، فالمقاومة لديها فائض من هؤلاء الثوار، وإذا فُتح باب التطوع أو التجنيد غداً، فإن هؤلاء الثوار لن يعبروا حاجز الفصل إلى غلاف غزة فحسب، بل سيتوغلون في عمق الأرض الفلسطينية المحتلة. الأراضي ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى القدس.
وهذا واقع مدعم بما نراه يومياً أكثر من كونه مجرد إسقاط؛ كل فلسطيني في غزة قصف منزله، وسلبت عائلته، وتهجر من مسقط رأسه، يتوق إلى الشهادة، وهو مناضل من أجل الحرية. وهذا أمر لم يفهمه العالم الداعم للعدو حتى الآن.
قطاع غزة
فلسطين
إسرائيل
الاحتلال الإسرائيلي
غزة