كاد النعاس أن يغلبني وأنا في في طريقي عائدة إلى البيت لولا الأغنية المزعجة التي كانت تهز كل ارجاء الميكروباص الذي أستقله، لم أفهم ولا كلمة كل ما كان يصل إلى أذني ضجيج ثابت وفجأة سأل أحد الركاب بطريقة ساخرة “هو اللي بيغني دا أنت يا زعيم” رد السائق بالإيجاب ” أيوه يا صحبي عرفت منين” تجمد المشهد وكدت أسقط من شدة الضحك حتى سائق الميكروباص أصبح نجم لامع في سماء المهرجانات.
ليس سائق الميكروباص الوحيد الذي يغني هذا النوع من الأغاني التي انتشرت في المقاهي والحواري والأزقة والعشوائيات وأصبح بعض مغنيها من المشاهير الذين تستضيفهم الصحف والقنوات التلفزيونية ولهم قنوات على اليوتيوب تحقق ملايين المشاهدات.
بالنسبة لي كان الأمر لغز لا بد من حله ففي كل مرة أسمع فيها تلك الأغاني لم أكن أفهم ولا كلمة ولا حرف واحد، كل ما أعرفه عنها أن نقابة الموسيقيين قد شنت حملة كبيرة لوقف المغنين الذين يمارسون هذا النوع من الغناء دون تصريح منهم حمو بيكا، ومجدي شطة، وان العديد من العاملين في الحقل الموسيقي اتهموا هؤلاء المطربين بإفساد الذوق العام.
هنا بدأت بالبحث عن كلمات هذه الأغاني فلا فائدة من الاستماع إليها وبالفعل وجدت بعضها يشجع على الجريمة مثلا تقول أغنية منهم: (تفتحلي المطوة ألا افتحلك موس، وفي عز الليل تلاقيني كابوس، زلزال في الرمل حرب ممنوع النوم بالليل).
وفي الأغلب تتكلم هذه الأغاني عن الغيرة بين الناس والحسد، وكيف أن الشخص سيقوم بالقضاء على أعدائه ونسيانهم من شدة تفاهتهم مقارنة به.
والسؤال المطروح هنا هل أغاني المهرجانات تعبير عن طبقة معينة في مصر أم أنها تعبر عن ثقافة جديدة للشعب ظهرت مع حدوث ثورة 25 يناير وما تبعها من إختلاف شديد في أخلاقيات الشعب المصري؟ أم أن الضغوط الاقتصادية والسياسية التى عانى منها المصريون على مدار القرن الماضي السبب في نسيان المجتمع المصرى لقيمه الروحية و مبادئه التى عاش عليها طوال تاريخه فالضغوطات تشوه أى جمال فى الإنسان حيث أنه مع الدخول المحدودة و متطلبات الحياة التي تزيد يوما عن يوم أصبح المصريين يتحولون إلى شخصية أخرى جديدة عليهم و لم يعرفونها أبداً، وبالتالي يمكن أن تكون أغانى المهرجانات الشعبية هي تعبير عن تمرد المصريين و أحيانا تعبر عن العنف الذي انتشر في العشوائيات وأصبح التعبير عنه مسموحا وبلا قيد أو خوف بعد ثورة 25 يناير.
فمن الملاحظ أن هناك نماذج غريبة ظهرت مؤخرا في المجتمع منها الفتوة أو البلطجي والعصابات الصغيرة وكان لهذه النماذج تأثير كبير في تشويه ثقافة الأطفال والمراهقين حيث عوضاً عن استخدامهم للسلاح للدفاع عن الوطن ضد الأعداء أصبحوا يستخدمون السلاح فى الرقص و من الممكن أن يحدث شجار ما داخل فرح شعبى وبالتالى يستخدمون السلاح ضد بعضهم البعض حيث أنه أصبح من السهل أن يحملوه، وأن يستخدموه.
وفي اعتقادي أن انتشار هذا النوع من الأغاني جاء نتيجة سنوات طويلة من التهميش لفئات كثيرة من المواطنين وانتقاص حقهم فى التعليم والصحة و في عيش حياة طبيعية مثل باقي طبقات المجتمع. كل هذا جعلهم يخترعون هذا النوع من الأغانى من أجل أن يجعلوا صوتهم يسمع و يتأثر بهم الكثيرين و بالتالي فهؤلاء لم يتعلموا ثقافة سياسية جيدة، لكن عبروا بكل ما يستطيعون و بلغتهم البسيطة عما يشعرون به و عما يرغبون فى تحقيقه فى الحياة.
إن ظهور أغاني المهرجانات شبيه ببدايات الراب في أمريكا والتي نشأت وسط جموع الأمريكيين من أصول أفريقية وعبرت عن القضايا الاجتماعية والسياسية كالعنصرية وشعورهم بالقهر والاضطهاد وحمل المراهقات ووحشية الشرطة، ولأن هذا النوع من الكلمات كان يعبر عن جموع عريضة من البشر حول العالم انتشر الراب حتى وصل إلى العالمية لكن في ثمانينات القرن الماضي صاحب الراب أعمال عنف أدت إلى مقتل العديد من مغني الراب لعل أشهرهم المغني توباك، كما كان بعضها سببا في اندلاع اعمال عنف خاصة في ولاية لوس انجلوس الأمريكية.
واستنادا إلى هذا فيمكن القول أن الفن احيانا يحمل في طياته تحريض على العنف والانحراف وتناول المخدرات، وفي أقل الدرجات فهو يشجع على أخلاقيات سيئة مثل الحقد والغيرة وعدم التسامح والقضاء على الخصم فهذا مقطع من مهرجان ” مافيش صاحب يتصاحب” (هنتعامل ويتعامل طلع سلاحك متكامل، هتعورني أعورك هنبوظلك منظرك) ويستكمل المهرجان في وصف ان الذى يتراجع و يحبذ المصالحة و السلام يكون متشبه بالنساء فى الضعف و العجز و لم يكن له اعتبار بين باقى البشر و كأن المجتمع من وجهة نظر هذه الطبقة أصبح غابه و ليس مجتمع يتكون من مجموعه من البشر الأسوياء الذين يتحدثون بالرفق و بالمودة و على الرغم من اعتراضى على هذا العنف إلا أنه لكى نكون واقعيين يجب أن نبحث لماذا أظهرت هذه الطبقة مهرجان يحمل كل هذه القيم العنيفة ؟! من المؤكد أن هذا لم يحدث بين يوم و ليله و لكن صعوبة الظروف الاقتصادية و السياسية التى تحدثنا عنها سابقا أظهر أن هذا الكم من المعاناة والتراكمات القاسية التى أصبحت فى نفوس هؤلاء الشباب تجبرهم أن ينظروا للمجتمع أنه غابه وتجبرهم أن يتعاملوا مع بعضهم البعض بسلوك عدائى، فكأن قانون المجتمع الذى يصفه هذا المهرجان هو قانون البقاء للأقوى و فقط فهم يرون أن المجتمع بأكمله هو المسئول عن تحويل العلاقات إلى هذا الحد من السوء فهم يكتشفون أن المجتمع يدعى المثالية والقيم العليا المتماسكة فى حين أن كل هذا زيف فالشخص السيئ هو الشخص الذى له الوجاهة و له كل المميزات و كأن المعايير فى المجتمع أصبحت مزيفة بالأساس.
ختاما لا أعرف من عين مهرجي المهرجانات حراسا على المجتمع و مصدرا للقيم وللأخلاق فيه، لكنه واقع تغرق فيه مصر ويفرض نفسه بشكل ضخم والحل أن يكون هناك مهرجانات صالحة بمعنى أن يكون هناك كتاب مهرجانات يدعون للقيم والتسامح والألفة بين الناس ويروجون لأفكار إيجابية فالمهرجانات أصبحت واقعا لا بد من التعامل معه وليس القضاء عليه.
بقلم أمل محمد أمين