موقع المغرب العربي الإخباري :
مع كلّ يوم جديد يمر على حرب الإبادة والتهجير الصهيو ـ أمريكيّة الممنهجة ضد الشعب الفلسطينيّ في غزّة وجبهات إسناده.. هل ينبغي أن نشعر بالثقة والتفاؤل أم نشعر باليأس والقنوط؟
إذا كنتَ تشعر بالثقة والتفاؤل فاعلم انّ فطرتك وإيمانك ما يزالان بخير حتى وإن اعتراهما ما اعتراهما من شوائب وتشويه.. أمّا إذا كنتَ تشعر باليأس والقنوط فإعلم أنّك شخص فيه صهيونيّة حتى لو ظننتَ بنفسك خلاف ذلك!
في سيرته الذاتيّة يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى مقال كتبه أثناء حرب أكتوبر سنة 1973 بعنوان “لا نهاية التاريخ” ناقش فيه “نظرية الأمن الإسرائيليّ” التي استندت في حينه إلى “إدراك المكان (الحدود الآمنة وخط بارليف) دون إدراك الزمان (التاريخ ومقدرة الإنسان على النهوض)”.
وهذا الإسقاط لسهم التاريخ يتماهى مع كون الصهيونيّة فكراً وثنيّاً ماديّاً معادياً للتاريخ ويعيش في اللحظة والآن والتوّ، وذلك بكون التاريخ قد انتهى منذ أن حلّ إلإله أو المطلق أو المتجاوز في التاريخ/ التاريخ اليهوديّ (حتى لو كان هذا التاريخ ملفّقاً ومحرّفاً)، والأمّة المقدّسة/ اليهود/ بني صهيون (حتى وإن كان غالبيتهم لا يمتّون لبعضهم البعض بقرابة عرقيّة/ قوميّة)، والأرض المقدّسة/ فلسطين التوراتيّة/ صهيون (حتى لو لم تتطابق الحقائق الماديّة مع حقائق الأسطورة والخرافة).
هذا الإيمان المتطرّف بـ “وحدة الوجود” (البانثيزم) يجعل أصحابه يتخذون “عن وعي ودون وعي موقفاً معادياً من الإنسان والتاريخ والوعي والثورة”، ومن هنا يأتي تصالحهم مع عنصريّتهم وكلّ القسوة والقمع والعنف والدمويّة والوحشية التي يقترفونها ويمارسونها، بل ويعتبرون ذلك ضرباً من التعبّد والالتزام الديني والرسالة الدينيّة!
وفي المقابل، هذا الإيمان المتطرّف يتسبب لأصحابه بهزّة عنيفة تزلزل يقينهم بتاريخهم وأنفسهم، وخوف وهلع كبيرين من شبح المستقبل وإشاحة الربّ لوجهه عنهم (وهو الذي يُفترض أنّه يعمل لديهم ومن أجلهم).. وذلك في حال وجدوا أنفسهم إزاء شعب تاريخيّ حيّ مثل الشعب الفلسطينيّ والشعوب العربيّة والإسلاميّة (مَن رحم ربّي منّا طبعاً)، أو سيرورات تاريخيّة حيّة مثل الانتفاضة والفدائيّين والاستشهاديّين والمقاومة و”طوفان الأقصى” والصمود الأسطوري لأهالي غزّة، والتي تتعارض جميعها مع يقينهم بالتاريخ الذي انتهى، والصراع الذي حُسم مرّة واحدة وللأبد لصالحم، وللارتباط العضوّي بينهم وبين أرض ميعادهم التي سيقيمون عليها فردوسهم الموعود/ صهيونهم هنا في الأرض وليس هناك في السماء أو الآخرة التي لم يعد لها وجود نتيجة لهذا الحلول.
ويزداد وقع هذا الخوف والهلع وانعدام اليقين عندما يصبح “الفاعل الصهيونيّ” بفعل العلمنة المتزايدة “محايداً غير مكترث بما يسمّى المثاليّات الصهيونيّة، متمركزاً حول ذاته، يدرك العالم من خلال حرصه الشديد على المعدّلات الاستهلاكيّة الماديّة العاليّة التي يتمتع بها”.. وعندما يصبح تعويل الكيان الأساسيّ قائماً على قطعان “المستوطنين الجدد” الذين هم من حيث الأساس “مرتزقة.. يصرّون على تحقيق مستويات معيشيّة وأمنيّة عالية عاجلة دون تأجيل”، ويضطر الكيان لأن “يدفع لهم الرشا الباهظة على هيئة منازل مريحة وطرق معدّة خصيصاً لهم ومدارس لأطفالهم وحراسة مشدّدة حتى ينعموا بالعيش في هواء أرض الميعاد المكيّف”!
من هنا مثلاً تأتي معضلة المستوطنات التي تفرغ من أهلها لدى أول رصاصة كما في حالة مستوطنات غلاف غزّة ومستوطنات شمال فلسطين المحتلّة (مع أنّها يُفترض أن تكون خطوط دفاع أولى). ومن هنا تأتي معضلة “شعب الله المختار” الذي يهرع لدى أول صاروخ إلى “مطار بن غوريون” عائداً إلى نعيم ودعة وأمان الشتات و”الديسابورا”، متخلّياً عن أرضه المقدّسة وأرض ميعاده!
وقارن هذا الفرار الصهيونيّ بالصمود الأسطوريّ للشعب الفلسطينيّ عموماً، ولأهالي غزّة، ولأهالي جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون وسائر شمال القطاع الذين يصرّون على التمسك بأرضهم رغم تعرّضهم لأبشع وأشرس إبادة جماعيّة موثّقة في التاريخ الحديث، ليس لأنّ هذه الأرض التي يتمسّكون بها هي أرض سمنهم وعسلهم (وكم رفضوا وعوداً بالسمن والعسل في المهجر)، ولكن هذه الأرض وهذا التمسّك هما تعبيران مجازيّان عن إيمانهم المتجاوز، وعن نموذجهم الإدراكيّ، وعن وعيهم بحقهم التاريخيّ كشعب تاريخيّ بالبقاء والاستمرار!
بالعودة إلى “نظرية الأمن الإسرائيليّ”، فيبدو أنّ مكابرة وغطرسة وعنجهيّة العدو الصهيونيّ تجعله يصرّ على الإدراك المكانيّ فقط، ومن هنا نجد أنّ كلّ حديثه وتعويله ما زال ينصبّ على مفاهيم مكانيّة: احتلال غزّة، احتلال الضفّة، احتلال جنوب لبنان، (بل واحتلال الأردن وسيناء وأجزاء من سوريا والعراق والجزيرة العربيّة)، المناطق العازلة، الجدران العازلة.. الخ، في حين أنّ الإدراك الزمانيّ ما يزال مُسقطاً لديه، سواء من حيث أخذ العبرة التاريخيّة من تجارب المشاريع والجيوب الاستيطانيّة المشابهة، أو من حيث تجربة الكيان نفسه الذي سبق له وأن جرّب احتلال غزّة والضفة وجنوب لبنان، أو من حيث قدرة الشعب الفلسطينيّ كشعب تاريخيّ على النهوض مرّة بعد مرّة بعد مرّة!
ما هي حصيلة هذا الكلام الذي قد يبدو للبعض متقعّراً أو “مفزلكاً” أو لا يخلو من تنظير؟!
الحصيلة الأولى: أنّ كلّ يوم إضافيّ يمرّ هو بمثابة نصر للمقاومة وللشعب الفلسطينيّ والقضيّة الفلسطينيّة، ليس فقط بالمعنى المعنويّ للكلمة من حيث الصمود والثبات والشهادة، بل وأيضاً بالمعنى الماديّ من حيث مسار القتال، ومنحنى المواجهة على الأرض، وخسائر العدو، وتضعضع جبهته الداخليّة.
وهذا الكلام ليس فيه تقليل من هول المذابح والفضائع التصاعديّة التي تتعرّض لها الحاضنة الشعبيّة للمقاومة خاصة في غزّة وشمالها، وليس فيه مزاودة على هؤلاء البشر من لحم ودم على طريقة “إللي إيده بالميّة مش زي إللي إيده في النار”!
بل هذا الكلام فيه إنصاف لهؤلاء البشر المُخلِصين والمُخلَصين الذين كفّوا ووفّوا منذ اليوم الأول، وألزمونا وألزموا البشريّة كلّها الحُجّة منذ اليوم الأول، والذين تعدّوا في “تقواهم” و”رباطهم” مرحلة “الصبر” إلى مرحلة “المصابرة” منذ وقت طويل؛ والصبر والمصابرة هما عبادتان زمانيّتان متجاوزتان لحدود المكان واللحظة والشعائريّة والطقوسيّة، ومن هنا يأتي استحقاق أصحابهما أن يُوفّوا أجورهم بغير حساب!
الحصيلة الثانية: إذا كان كلّ يوم يمرّ يجعلك أقرب إلى استشعار الهزيمة والاستيقان بها بما يمنحك الذريعة بينك وبين نفسك للركون إلى صمتك، أو خوفك، أو تخاذلك، أو إحجامك عن القيام بأصغر الأمور نصرة للمقاومة، أو تبرير نوازع العنصريّة والإقليميّة والطائفيّة المستحكمة داخلك.. فاعلم أنّ مردّ ذلك إلى أنّك شخص قد تمّت “صهينته” من الداخل من حيث يدري ولا يدري، أي شخص متمركز حول ذاته، ينظر للعالم والآخرين باعتبارهم “مادة استعمالية” مسخّرة لرفاهه ومنفعته الذاتيّة (تعظيم اللّذة/ الكسب وتقليل الألم/ الثمن)، وعبدٌ للحظة والإشباع الفوريّ ونمط العيش الاستهلاكيّ الذي يحكمه “إيقاع ثلاثيّ” كما يبيّن “المسيري”: المصنع حيث ينتج الإنسان (ومن جملة ما ينتجه الأفكار الانهزاميّة والتحليلات “الخنفشاريّة” والخطاب المبرّر للخيانة والخذلان والتطبيع)، والسوق حيث يشتري ويبيع (ومن جملة ما يبيعه نفسه وقوّة عمله وذمته وضميره ومواقفه)، وأماكن الترفيه حيث يفرّغ ما فيه من طاقة وتوترات وعُقد وأبعاد (ومن جملة ذلك الميديا والسوشال ميديا ومجمل الفضاء التواصليّ)!
هذا على الأقل ما حدث في حالة الأنظمة العربيّة والإسلاميّة وشعوبها على مستوى وجودها الجمعيّ، فقد تمّ إخضاعها وما تزال إلى عملية “صهينة” حثيثة باسم التحديث والتطوير والتحوّل والتمكين والريادة والرقمنة، حيث الصهيونيّة هنا تكافئ معرفيّاً قيم الرأسماليّة والعولمة وما بعد الحداثة، وبهذا الصدد يورد “المسيري” نقلاً عن الناقد الأمريكي “فريدريك جيمسون”:
“إنّ روح ما بعد الحداثة تعبّر عن روح رأسماليّة عصر الشركات متعددة القوميّات، حيث قام رأس المال (هذا الشيء المجرّد المتحرّك الذي لا يكترث بالحدود أو الزمان أو المكان) بإلغاء كلّ الخصوصيّات، كما ألغى الذات المتماسكة التي يتحد فيها التاريخ والعمق والذاتيّة، وحلّت القيمة التبادليّة العامّة محل القيمة الأصيلة للأشياء”.
ومن هنا يأتي سرّ عداء “الجميع” الوجوديّ لـ “طوفان الأقصى” صرّحوا بذلك أم لم يصرّحوا، والذي يعتبر حالة متقدّمة لـ “النموذج الانتفاضيّ” الذي سبق للمسيري استخلاصه من تجربة “الانتفاضة الفلسطينيّة” التي عنت له من الناحية المعرفيّة: “تجنيد الكتلة البشريّة الفلسطينيّة من خلال مخزونها الحضاريّ الذي أثبت مقدرته التعبويّة الهائلة. فهي عمليّة عودة عن الحداثة الماديّة الغربيّة المنفصلة عن القيمة لنبدع حداثة خاصة بنا”.
وهذا “النموذج الانتفاضيّ/ الطوفانيّ” يقوم على ثلاث مقوّمات أساسيّة هي:
ـ ازدراء فلسطينيّي الداخل للإسرائيليّين وعدم خوفهم منهم، حيث الفاعل الإنسانيّ العربي هنا قويّ ومتماسك وغير منكسر إزاء العدو عكسنا نحن عرب الخارج (والسنوار حالة نماذجيّة كارزميّة بهذا الخصوص).
ـ النموذج الإدراكيّ الذي يرى الفلسطينيّون أنفسهم من خلاله، ورفضهم الانصياع للنموذج الاستهلاكيّ الاختزاليّ الماديّ الذي يدور في إطاره المستوطنون الصهاينة ويسقطونه عليهم.
ـ إدراك فلسطينيّي الداخل أنّ كلّ ما ينغصّ على المستوطنين حياتهم هو في نهاية الأمر إحباط للمخطط الصهيونيّ.
بل إنّنا من خلال هذه المقوّمات نستطيع رصد وإدراك “الانقسامات” والتغيّرات النوعيّة التي شهدتها الحالة الجمعيّة الفلسطينيّة الداخليّة نفسها منذ الانتفاضة الأولى ولغاية الآن، ما بين “الحالة الضفّاويّة” في ضوء “التنسيق الأمنيّ”، و”الدايتونيّة”، وتزاوج السلطة والسياسة ورأس المال، ودخول البنوك والمستثمرين والـ NGOs.. وما بين “الحالة الغزّاويّة” التي أفرزت “طوفان الأقصى”، ويُراد حاليّاً إجهاضها، واستنساخ التجربة الضفاويّة وإحلالها مكانها برعاية عربيّة ومباركة أمميّة!
لكن مرّة أخرى، الشاهد التاريخيّ وسهم الزمان (كما يتبدّيان في الميدان) يشيران إلى استحالة تحقيق هذا الهدف “اللاعقلانيّ” مهما اتُخِذَت في سبيله من إجراءات ووسائل “عقلانيّة”؛ فالنموذج الغزّاوي ولو على مستوى الوعي هو الذي يغزو شيئاً فشيئاً وجدان الضفة وسائر مجتمعات المنطقة والعالم (وهذا سبب إضافيّ للخوف من هذا النموذج ومحاربته والتكالب عليه)، كما أنّ هناك كما يقول “المسيري” حقائق تاريخيّة وإنسانيّة ثابتة لا تتحرّك مهما حرّكت لها من دبابات، ومن جملة هذه الحقائق أنّه لا يمكن لشعب طارئ أو مفتَعل أو مختلَق أن يهزم شعباً تاريخيّاً حيّاً مهما طال الزمان!
كاتب اردني
انسخ الرابط :
Copied