موقع المغرب العربي الإخباري :
حطّت القضية الفلسطينية على مفارق طرق بين البقاء والفناء، وهذا الترقب يحتم على الشعب الفلسطيني أن يضع النقاط على حروف العلاقة مع الإسرائيليين، وهل هم جيراننا؟ أم هم أعداؤنا الذين ينامون على فراشنا، ويشربون قهوتنا، ويوثقون لنا تاريخنا؟
قبل أيام معدوداتٍ، وقف الشعب الفلسطيني حائراً ومندهشاً من الموقف السياسي المائع للقيادة الفلسطينية، قيادة لم تحرك ساكناً وهي ترى الجيش الإسرائيلي يقتحم بدباباته مدن وقرى ومخيمات شمال الضفة، والشعب في حيرة أمام المجازر، وأمام السؤال: أين هي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية؟ لماذا لا نسمع لها صوتاً في الملمات؟ وأين هي السلطة الفلسطينية من العدوان؟ وأين هم عشرات آلاف الجنود والضباط الفلسطينيين المنتسبين للأجهزة الأمنية؟ لماذا لا يشاركون الشعب في الدفاع عن الوطن؟ لماذا لا يتصدون لعدوان المستوطنين والجيش الإسرائيلي على بيوتهم، وعلى أمهاتهم وأزواجهم واولادهم؟ ومن المسؤول عن هذه الحالة من التردي السياسي والميداني التي تعصف بالقضية الفلسطينية؟ وما المصلحة الفلسطينية في مواصلة احترام الشق الأمني من اتفاقية أوسلو؟
الفلسطينيون بحاجة إلى حسم علاقتهم مع الإسرائيليين، وأقصد بالتحديد علاقة التنسيق والتعاون الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والمخابرات الإسرائيلية، فهذه العلاقة المشبوهة غير منطقية في ظل تواصل العدوان على غزة والضفة الغربية، وهذه العلاقة المشبوهة ليست ضرورية، طالما لم يلتزم الإسرائيليون بكامل بنود اتفاقية أوسلو البائسة، ولاسيما أن العلاقة الأمنية مع العدو الإسرائيلي، وعبر عشرات السنين، لم تثمر استقراراً أمنياً للفلسطينيين، ولم تعطهم لا سلاماً ولا دولة، ولم تخدم إلا المصالح الإسرائيلية.
ولا يكره الفلسطينيون شيئاً على وجه الأرض مثل كراهيتهم للتنسيق والتعاون الأمني، لذلك يحاول بعض المسؤولين الفلسطينيين التنصل من هذه الجريمة أحياناً، ويدّعي بعضهم أنهم أوقفوا التنسيق والتعاون الأمني، أو أنهم يدرسون فكرة وقف التنسيق والتعاون الأمني، وأحياناً أخرى يخرج رئيس السلطة الفلسطينية بتصريح يقول فيه: إن التنسيق والتعاون الأمني مقدس، ولا يمكن التخلي عنه، وأحياناً يقول: قررنا وقف التنسيق إلى حين، ليبدو المشهد مختلاً بين تصريحات إعلامية تنفي التنسيق والتعاون الأمني، وبين ممارسات عملية تؤكد تواصل التنسيق والتعاون الأمني، ودون ضجيج إعلامي.
من طرفهم؛ يزعم الإسرائيليون أن التنسيق والتعاون الأمني مصلحة مشتركة بين الطرفين؛ السلطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، ويذهب بعض الإسرائيليين إلى أن التنسيق والتعاون الأمني مصلحة خالصة للسلطة الفلسطينية، ولولا التنسيق والتعاون الأمني، لتمكنت تنظيمات المقاومة الفلسطينية من السيطرة على أرض الضفة الغربية، والتخلص من قيادة السلطة الفلسطينية.
أمام هذه الحقائق، يحرص بعض المسؤولين الفلسطينيين على خلط الأوراق، والادعاء بان ممارسة التنسيق والتعاون الأمني ضرورة فرضتها حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن هذه العلاقة الجبرية تشبه العلاقة بين السجين الفلسطيني والسجان الإسرائيلي، بل ويذهب بعض المسؤولين إلى تزييف الحقائق، ويدعي أن التنسيق يخدم المواطن الفلسطيني، فلولا التنسيق لما تمكن الفلسطينيون من إدخال المواد الغذائية والوقود والتبادل التجاري عبر المعابر الإسرائيلية، ويزعمون أن تحصيل الضرائب، وسفر المرضى وعلاجهم، ومنافع أخرى للفلسطينيين، تفرض عليهم مواصلة التنسيق الأمني، وهؤلاء المسؤولون يتعمدون خلط التنسيق والتعاون الأمني مع أنواع التنسيق الأخرى، والتي وردت في اتفاقية أوسلو الثانية 1995على النحو كالتالي:
أولاً: تنسيق الارتباط العسكري، وهذا الشكل من التنسيق يختص بعمل قوات الأمن الفلسطينية، وأماكن تواجدها، وزمن إخلائها لمواقعها مع تحركات الجيش الإسرائيلي، وأزعم أن التوسع الاستيطاني، وإرهاب المستوطنين أغلق الباب على هذا الشكل من التنسيق العسكري، وهو التنسيق الأقل انتقاداً من قبل الفلسطينيين.
ثانياً: التنسيق المدني: وهذا النوع من التنسيق يختص بالشؤون المدنية، مثل السفر، وإدخال المواد الغذائية والوقود، وزمن فتح المعابر وإغلاقها، وكل ما يتعلق بالعلاقة الجبرية بين المحتل ومن يعيش تحت الاحتلال، ويتفهم الفلسطينيون هذا الشكل من التنسيق المدني، ولا يعترضون إلا على المحسوبية والواسطة في هذه العلاقة.
ثالثاً: التنسيق الجنائي: ويختص هذا الشكل من التنسيق في ملاحقة المجرمين، وضبط السرقات، والمارقين على القانون، ومنع التهريب، ولا كثير اعتراض على هذا الشكل من التنسيق الذي يتم من خلال أجهزة الشرطة.
رابعاً: آفة الآفات، وجريمة الجرائم، هو التنسيق والتعاون الأمني، وهذا هو الطعنة النجلاء التي تركت الجسد الفلسطيني ينزف دماً على مدار الوقت، هذا الشكل من التنسيق هو مدار النقد والاعتراض الفلسطيني، وهو مجال الطعن والتشكيك، وهو محطة خجل يحرص المسؤولون الفلسطينيين على الابتعاد عنها.
وهنا لا بد من توضيح نقطة خطيرة في هذا الشأن، حيث يحجم المسؤولون الفلسطينيون عن استخدام مصطلح التنسيق والتعاون الأمني، وهو المصطلح الذي ورد في نص اتفاقية أوسلو، ويكتفي المسؤولون بالترويج لمصطلح “التنسيق الأمني” فقط، بعد أن أسقطوا لفظة “تعاون”.
وللتسمية حكاية ترجع إلى المفاوضات التي جرت قبل التوقيع على اتفاقية أوسلو 2 في طابا بتاريخ 1995، يومها عرض المفاوض الإسرائيلي البند 12 من الاتفاقية، والمتعلق بترتيبات الأمن والنظام، فقد جاء في الفقرة الثالثة:
(سيتم تشكيل لجنة تعاون أمني مشتركة، هدفها حفظ الأمن للطرفين، وتسمى من الآن فصاعداً “JSC“.)
وهنا اعترض الوفد الفلسطيني، وقال: إن ذكر لفظة “لجنة تعاون أمني” تجعل منا عملاء لكم، وجواسيس، وشعبنا يتحسس من لفظة “تعاون أمني”، عدلوا الصيغة، وبدلاً من لجنة تعاون أمني، سنكتب “لجنة تنسيق مشتركة”.
وهنا رفض الوفد الإسرائيلي المفاوض تعديل اللفظة، وقال: المطلوب منكم وفق الاتفاق هو التعاون الأمني مع المخابرات الإسرائيلية!
وبعد نقاش ومداولات، تم التوافق على الصيغة التالية:
“سيتم تشكيل لجنة تنسيق وتعاون مشتركة من أجل الأمن المتبادل، ستسمى من الآن فصاعداً “JSC“”
ومنذ ذاك التاريخ، يستخدم الفلسطينيون مصطلح التنسيق الأمني، للتهرب من لفظة التعاون الأمني الذي يمارسونه على الأرض، بينما يستخدم الإسرائيليون مصطلح ”שיתוף פעולה ביטחוני” والتي تعني “التعاون الأمني” متجاهلين لفظة التنسيق.
التنسيق والتعاون الأمني جريمة دقت أوتادها على أرض الضفة الغربية وغزة على مدار ثلاثين سنة، ولم تقتلعها كل المصائب التي حطت على رأس الشعب الفلسطيني، إنه التنسيق والتعاون الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية، والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهذا التعاون يشمل قيام الأجهزة الأمنية الفلسطينية باعتقال كل فلسطيني يشارك في عمل مقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي، لذلك تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالتجسس على خلايا التنظيمات الفلسطينية المقاومة، وتعتقلهم، وتضمن التنسيق والتعاون الأمني قيام الأجهزة الأمنية الفلسطينية باعتقال كل فلسطيني تشير إليه المخابرات الإسرائيلية بالخطير أو المشبوه أمنياً، على أن تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالتحقيق مع هذا المشتبه، وانتزاع المعلومات من خلال وسائل التعذيب نفسها التي تمارسها المخابرات الإسرائيلية، ومن ثم تقديم ناتج التحقيق إلى المخابرات الإسرائيلية، وهذا الذي جرى على أرض الواقع مع آلاف حالات الاعتقال على أرض الضفة الغربية، وحتى يومنا هذا، وعلى أرض غزة من سنوات خلت.
ألا يعني كل ما سبق أن التنسيق والتعاون الأمني خيانة للوطن، وخيانة لدم الشهداء، وخيانة لجهد الشباب المقاوم المحتلين، وخيانة للوجود الفلسطيني نفسه فوق أرض فلسطين، وخيانة لفكرة رفض الاحتلال والاستيطان، فالتعاون الأمني لا يخدم إلا المستوطنين، ولا يصب إلا في مصلحة المتطرفين الساعين إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم، وأن هذه التنسيق والتعاون الأمني هو السبب في انقسام الحالة الفلسطينية، وهو الذي طمأن الإسرائيليين على مستقبلهم، وهو السبب في المماطلة السياسية الغربية والأمريكية في حل القضية الفلسطينية، وهو السبب في نظرة الإسرائيليين إلى الفلسطينيين نظرة دونية، فيها الاحتقار والاستخفاف والاستصغار، ولن نتجاهل دور التنسيق والتعاون الأمني في تشجيع المطبعين العرب، على ممارسة الرذيلة السياسية بلا وجل.
بعد كل هذا الشرح، هل يصح أن يجامل الفلسطينيون بعضهم على حساب الوطن؟ وهل يصح أن تغض بعض التنظيمات الفلسطينية الطرف عن جريمة التنسيق والتعاون الأمني، وهي تنسج علاقاتها التنظيمية مع من يمارس تلك المفسدة السياسية؟
وبعد كل هذا الشرح، ألا يتوجب على الشعب الفلسطيني أفراداً وعائلات وتجمعات ومؤسسات وتنظيمات أن يصرخ بأعلى صوته: التنسيق والتعاون الأمني خيانة!
وبعد كل هذا الشرح، ألا يصح أن تقاطع الجماهير الفلسطينية كل منتسب إلى لأجهزة الأمنية المتعاونة مع العدو الإسرائيلي، لأنه يمارس فاحشة تعذيب المقاومين الشرفاء باسم الوطنية؛ وعلى مسمع ومرأى من أمهات الضحايا وأبنائهم وأقاربهم؟
وبعد كل هذا الشرح، ألا يصح أن يقول الفلسطينيون: إن الدفاع عن التنسيق والتعاون الأمني خيانة للوطن، وإهانة للتاريخ الفلسطيني، وتدليس على الأمة العربية؟
وبعد كل هذا الشرح، هل يقعد الفلسطينيون في بيوتهم، ويلتزمون الصمت؟ وهم يسمعون رئيس السلطة محمود عباس، وهو يقول: التنسيق والتعاون الأمني مقدس، مقدس، مقدس!
كاتب فلسطيني/ غزة
انسخ الرابط :
Copied