موقع المغرب العربي الإخباري :
حاولت عبثــا أن أبدأ في كتابة هذه المقالة بالمقدمة التي تليق، لكنني لم أستطع الهرب من حيث علقت ذاكرتي في مشهدين داخل غزة أمسكا بي خلال الأسبوع الماضي، الأول هو فيديو لطفلة صغيرة ربما لا يتجاوز عمرها سنواتٍ خمـس، تجلس على أرض المشفى وهي في حالة صدمة كاملة، عجزٌ عن النطق أو حتى البكاء، ارتعاش جسدها الغَضِّ يؤكد بأنها قاب قوسين أو أدنى من الموت ألمـــاً، الحروق تغطي يديها وساقيها ونصفاً من وجهها الذي تقبله الملائكة، أما النصف الآخر فكان يكسوه مع جسدها المدمي مسحوق الاسمنت الذي خلفته القذيفة الأمريكية، لا أعلم ماذا يمكنني أن أقول لكنني شعرت بحروق شديدة تنتشر في جلدي وأصبحت واثقا أن الحروق الأمريكية والاسرائيلية أصبحت نوعا من الجَرَب يطارد كل عربي وكل مسلم، ولا شك أيضــا أن فيروس شلل الأطفال وجراثيم الكوليرا أصبحت تبحث عنا في كل مكان، يا رسول الله إن قومي اتخذوا هذا الكتاب مهجورا وقعدوا مع الخوالف وأكلوا القصعة مع أعدائك ورضوا بأن تبــاد غــزة الأبيـة!
المشهد الثاني تسبب في بكائي في الطابق الأسفل من قلبي وحيدا حتى لا يراني احد ويضحك عليّ ، حماس في بيان موجز لها تستنفر همة الأمة وتدعو شعوب العرب إلى النفير في كل مكان عقب اقتحام المسجد الأقصى وجرائم العدو في غزة والضفة! بكيت لأن صوت النداء كان أشد ألما من صورة الطفلة المحروقة ، حيث أن الحروق في المشهد الثاني لا تغطي جسدا واحدا بل تغطي مساحة الجلـد العربي بأكمله والألم هنا يتغلغل حتى الشعيرات الدموية ، بمن تستغيثين أيتها المقاومة ؟ لقد اعتقل ملوك الطوائف النفير بنفسه وحبسوا حتى صدى الصوت وهدير الغضب، أي نفيرٍ والأمـة تلعب المَيسِر وحكام العرب يعصرون العنب؟ لقد تقطع قلبي عليك يا أبا عبيدة البطل ويَعز عليَّ أنني أعيش هذا الزمان، أنتم وحدكم يا سادة الزمان ولا شيء إلا الوحــدة في صحراء الربع الكبير ولا مجيب سوى رمال العواصف ورنين الكؤوس، ما نوع الحديث أو التحليل السياسي الذي يمكن أن نقدمه إلا ونحن مطأطو الرؤوس أمامكم ؟
كان الظن المرجح السطحي طيلة الشهورالأولى من العداون بأن هذا العدو يرغب في قتل رقم ثقيل من فئة عشرين ألف فلسطيني كي يشبع دمويته ويلبي ما يطلبه الجمهور الاسرائيلي ثم تتنازل رغباته ، كنا نعتقد بأن حجم الوحشية سوف يخفت مع هذا الدمار الواسع والاعتقال والمظاهرات الغربية الهائلة والضغوط الأممية والمؤسساتية، كنا نظن بأن الأمريكان سيشبعوا من سيل الدماء بسرعة، لكن تبين بعد كل هذه الأشواط أن الوحشية تتمدد وتتخذ أبعادا وانماطا أكثر تشددا وتضرب بعرض الحائط كل قراءاتنا وتطلعاتنا ، لقد تغول اللفياثان الأمريكي من معقله وأصبح العالم الجديد مسرحا للقتل الرقمي السريع، آخر فصول الوحشية جاءت مع حملات الاغتيال ثم برنامج التصفيات الدائر طيلة الأسبوع الماضي في جنين وطولكرم ، فما الذي نراه وسط هذه الهجمة المزدوجة في الضفة وغزة ؟
-
إن التنقل الجغرافي للضربات الصهيونية من اليمن إلى ايران ولبنان والتحرك من غزة نحو مدن الضفة لا تعكس إلا روح الويسترن الأمريكية بكل تجلياتها ، إنها شخصية (البونتي كيلر ) الذي يتجول صائدا ومطاردا المطلوبين ( للعدالة الأمريكية ) على مساحة واسعة ويتمدد في هيبته وسطوته طولا وعرضا لاحداث حالة اشغالٍ واشتعال متواصلة لا تسمح لاحد بالتقاط انفاسه ، إن البصمة الأمريكية واضحة بإمعان وهي الوحيدة التي تمنح الكيان (ذراعها الضاربة ) هذه التغطية بلا حسيب ولا رقيب في كل العالم من الاعتداء وكسر كل العهود الدولية والقتل خارج القانون ، إن استعراض التغطية العسكرية الضاربة على نطاق جغرافي واسع يحمل دلالات متعددة تبدأ من محاولة تعويض الفشل الذريع في غزة والذي كانت رفح وخان يونس أخر فصوله ، ولا تنتهي عند ضبابية وتخبط الإدارة الأمريكية في تقرير أي الإجراءات هي الأصح في ظل معركة فاشلة مع روسيا ، إنها عقلية ضيقة تعتمد المعالجات الموضعية ونهج التخويف وفرد العضلات دون رؤية واعية حقيقية.
-
إن ما يحدث في غزة والضفة بموازاة بعضه البعض له رسائل جيوسياسية خلافا للأهداف التقليدية الضيقة التي يدور الكلام حولها منذ فترة طويلة ، على صعيد غزة التي يجري تدميرها وإبادة أهلها فالمعني في رموز الشيفرة هي مصر بالدرجة الأولى، ومهما بدا من سياسات تأمينية إلا أن شعب مصر بالذات يمثل خزانا للمخاوف لدى الطرف الصهيوني بغض النظر عن أفعال النظام ، إن منهجية محاصرة مصر جارية داخليا وخارجيا ، عنوانها الأول الظاهر هو التلويح بتعطيش مصر بأول قنبلة هيدروسياسية اسمها سَـدُّ النهضة ، محاولة إزالة المقاومة من غزة تعني إزالة عائق كبير أمام ابتلاع اجزاء كبيرة من مصر وتحويلها إلى دولة مُهددة ، واللعب الدموي الذي يجري في السودان وليبيا لا يعني في نهاية المطاف إلا إشغال واستنزاف مصر ومحاصرتها من جهتي الجنوب والغرب خلافا للحصار المالي والاقتصادي وبرامج الإفلاس والإفقار وصهينة الإعلام وحملات الاعتقالات ، وعلى صعيد الضفة فالخطط تتجاوز قصة وطن بديل التي أصبحت موضة قديمة سوف يتم الترحم عليها وربما تنتقل إلى مسميات جديدة تقضي بالدفع الاستيطاني إلى أراض جديدة خارج فلسطين ، وتسوير فلسطين التاريخية بحزام كامل من المستوطنات المتمددة بأكثر مما يتخيل البعض ، وعلى صعيد السلطة الفلسطينية وما يسمى (مشروع الدولة الفلسطينية ) فالجواب واضح ولا حاجة لشرحه ، إن ابتلاع المنطقة العربية لقمةً سائغة لا ينتظر سوى تفكيك هذه القطع الصغيرة المتناثرة من المقاومة التي تعيق بشدة كل الخطط الجيوسياسية الأمريكية .
-
عندما تم اعلان قيام (دولة اسرائيل) ضمن ميثاق إعلان (الاستقلال ) 1948 عن الانتداب البريطاني كانت الاهداف المعلنة المنصوص عليها في هذه الوثيقة الركيزية التي تمثل شكلا الدستور الصهيوني ، تتضمن نفس الديباجة المستهلكة من الدولة الديموقراطية متعددة الاعراق ومتساوية الحقوق واحترام الاديان والجوار ، خلال ما يقارب السبعين سنة تحولت هذه الوثيقة إلى دستور في مبادىء الاحتلال والمذابح والاغتيالات والاعتقالات والعبث السري في المحيط العربي و تمكنت هذه المستعمرة من التضخم بتأثيرها واللعب بأكبر من حجمها استنادا إلى دعم غربي مفتوح تتزعمه الولايات المتحدة وريثة الاستعمار البريطاني ، اليوم وعلى المكشوف تخرج هذه الدويلة عن الاطار الذي حفظ وجودها طيلة العقود الماضية ومكنها من اللعب بالنار والبقاء وسط مخاطر متعددة ، إنها تصنع الانتفاضة الاسرائيلية الكبرى المكتوبة بعقود الدم والنار والمصابة بهوس القضاء التام على كل شيء فلسطيني من الإنسان إلى الأرض ، وهوس العظمة التي يمثلها أمثال نتانياهو والقذرين الآخرين ، لتضع يدها على كامل الإقليم ولا تريد أن ينازعها أحد ، إنها انتفاضة الحلزون الرخو اللزج الذي قرر الخروج من قوقعته الصلبة ظانا انه اقوى بكثير مما يراه على حاله.
-
إن حالة الإفلاس الوجودي التي تعيشها الأنظمة العربية سحبت كل شيء معها إلى الهاوية ، لا توجد أية مشاريع يمكن ذكرها في دفتر التاريخ ، لا نهضوية ولا علمية ولا صناعية ولا سياسية ولا سخامية ، كل المتاح والمقروء هي مشاريع تبعية وتسول وتقزيم و تركيع واستعباد للشعوب وخلق بيئات عدمية غير منتجة على أي صعيد ، هذا الفَلَس المصنوع والمخلق خصيصا لعالم العرب هو جزء اساسي في التغول الأمريكي -الصهيوني ، هؤلاء لديهم مشروع واضح ونافذ قاضم للمنطقة بلا هوداة ، لقد كان مشروع الضعف الرسمي العربي المنفذ الأساسي للأدارات الامريكية المتعاقبة من نقل المنطقة من خدعة السلام والتعايش ثم موجة التطبيع وانتهاءا إلى فكرة الإملاءات القادمة وفرض الأمر الواقع والرضوخ الاستعبادي لتحويل المستعمرة الأمريكية إلى المدير والشرطي المطلق للمنطقة.
-
إن الانجازات المحققة على الأرض التي يسميها العدو بإسم ( انتصارات ) من قتل وتدمير وتجريف في مدن ومخيمات الضفة وغزة لا تمثل في عرف التاريخ إلا إنجازات ظرفية عاملة على البطاريات لفترة وجيزة ، انتصارات بلاستيكية ناجمة عن تفوق تقني مادي قسري يتولد عنها الأذى والقتل والاعتداء على نظم الكون الثابتة من إحقاق العدل واحترام قيمة الإنسان وإزهاق الأرواح البريئة ، أما انجازات المقاومة في غزة والضفة ولبنان واليمن فهي إنجازات أخلاقية عالية المكانة تأتي من رحم أصعب الظروف وفي شبه العدم ، صغيرة في حجمها ضخمة في مفعولها ، متناغمة مع الإنسانية والفطرة الربانية وقوانين الكون العادلة وهذا هو السر الكبير في قابليتها للديمومة والتفوق واختراق أعتى الترسانات ، إن من له الديمومة والبقاء هو الانجاز الثاني وليس الأول .
-
إن لعبة الإلهاء عن الأولويات الكبرى في المفاوضات وصناعة مسرحيات محور فيلادلفيا إلى تعيين حاكم ادراي لقطاع غزة إلى التلويح بحروب واسعة ، لن توقف مشروع التحرير الفلسطيني ثم العربي ، ومهما كان عدد الشهداء أو سعة الخراب أو موجات الإفساد التي تجتاح الداخل العربي فهذا لن يلغي مسار الطبيعة عن فعلها ولن يوقف صحوة الشعوب ولا ذهاب هذا الكيان إلى نهايته ونهاية الاستكبار الأمريكي ونهاية الأنظمة التي أعلنت مواتها منذ لحظة تواطئها مع العدوان.
-
نحن نحتاج فقط الضربة الأولى المؤلمة ، لا نعلم من ومتى سوف يوجهها ، لكنها ستكون حجر الدومينو الأول الذي سيفتح باب الجحيم على دولة الشر ونظام الجبروت الذي اغرق الأرض بدمائنا واستعلى وتكبر على شعوبنا ، إنها قادمة لا محالة ، والصدام الكبير الموعود قادم لا محالة.
دعونا نتذكر ان من ردع ابتلاع الضفة طيلة الوقت كانت هي غزة ورأينا ذلك تماما في معركة سيف القدس حيث لبت غزةُ نداء الضفة ، ولذلك فمشروع ابتلاع الضفة كان يتطلب أولا تدمير غزة التي طالما كانت على تناغم روحي ونضالي مع الضفة ومع كل فلسطين.
على الرغم من حجم العربدة والضرب واللعب على نطاق واسع لكن قواعد الدنيا التي يعبدها جيش الشيطان تضع ايقاعها القسري على الجيش الجبان والمتعب والذي يخوض حربا لأول مرة في حياته الفانية مدتها سنة كاملة ، إن الانهيار السريع قادم مهما بدا عكس ذلك على كل الصعد أمام صلابة المقاومة الفلسطينية وتمسكها وثباتها، ولا توجد إلا هذه القراءة الوحيدة المنتظرة .
لا تحزن يا أبا عبيدة فهنالك من سيجيب نفيرك ويستدعي جندك، انظر من حولك، ها هو شعبك في الضفة وفي كل مكان، شعبك في اليمن العربي وفي لبنان وفي العراق والأردن ومصر والجزائروالمغرب كله يلبي نداءك ويتنتظر سقوط الجدران، من الذي سيخاف بوارج البحر والفالكون المعدنية؟ هل هو شعب اليمن الذي نذر حياته لفلسطين ولنصرة الأمة وتنازل عن كل متاع الحياة؟ من الذي سيخفيه نتانياهو وترامب وعصابة الأنذال؟ هل هي قوات الرضوان الجاهزة للشهادة؟ من هو الذي سيوقع أوراق الاستسلام ويقبل البسطار الأمريكي؟ هل هو الذي يقدم حياته للشهادة بأسهل من شربة ماء؟ هل يخاف مثل هذا من دباباتكم وطياراتكم وجنودكم المخربين؟ أنتم من سيصل إلى الركوع والاستسلام مهما طال الزمان وزاد الشهداء، أنتم من ستركعون وتستسلمون حتى النهاية، أنتم من سيرحل ويخسر وينسحب مكسور الرمح، قد تنتظر بلادنا أيام صعبة ولكن أيامكم ستكون أشد وبالا وعسرة وصعوبة! .
كاتب عربي من فلسطين
انسخ الرابط :
Copied