موقع المغرب العربي الإخباري :
ارتحل السنوار في الميدان، لم يكُن مختبئًا، كما صوّره الإعلام الإسرائيليّ على مدار عامٍ. الرجل، الذي أعلن مرارًا وتكرارًا، جهارًا ونهارًا، أنّه مشروع شهادة نالها وارتقى ككلّ مُقاومٍ للغبن والظلم والقهر، وككلّ إنسانٍ يتعرّض للعبوديّة وينشأ في بيئةٍ تُخيِّره، إمّا أنْ يُدافِع عن وطنه وشعبه، أوْ أنْ يعيش ذليلاً تحت نعال الاحتلال، وبالمناسبة فإنّ الاحتلال هو قمّة قمم الإرهاب، أمّا عن موبقاته فالحديث فسيكون طويلاً وتأثيراته ستكون من نصيب الشعب العربيّ الفلسطينيّ على مدار أجيالٍ.
***
كتبنا هنا في هذه الصحيفة كثيرًا عن الإعلام الإسرائيليّ المُتطوِّع، وليس المُجنّد، لصالح السرديّة الصهيونيّة، وأكّدنا في الوقت عينه أنّ هذا الإعلام، إنْ جاز التعبير، حرّض وما زال يُؤلّب جمهور الهدف ضدّ كلّ ناطقٍ أوْ ناطقةٍ بالضاد، ويشيطنهم ويستأسد عليهم، بهدف نزع صبغة الإنسانيّة عنهم، ربّما لأنّه ما زال أسير ورهينة مقولة رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق، الإرهابيّ مناحيم بيغن، الذي وصف العربيّ بالحيوان الذي يمشي على رجليْن اثنتيْن، وهي مقولة تؤكِّد مدى الاستكبار والاستعلاء وازدراء الآخر، وغنيٌّ عن القول إنّ هذه صفات تُميِّز المجتمع الصهيونيّ، الذي انتقل من العنصريّة مباشرةً إلى الفاشيّة.
***
وأمس الخميس، السابع عشر من تشرين الأوّل (أكتوبر)، أطلق هذا الإعلام العنان لنفسه ليُصفي الحسابات مع السنوار. في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر أمس بتوقيت فلسطين المحليّ، بدأت محطات التلفزة العبريّة بالاحتفال البربريّ والهمجيّ لاستشهاد “أكبر قاتلٍ لليهود منذ الحرب العالميّة الثانيّة” (!)، كان الاحتفاء وحشيًا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ ودلائل ومؤشراتٍ، وربّما الصراخ على قدّ الوجع، الإعلام فَقَدَ صوابه وبوصلته واجتاز جميع الضوابط الأخلاقيّة المُعترف بها عالميًا، وبثَّ صورًا للسنوار مقتولاً في ساحة المعركة، ولم يكتفِ بذلك، بل أبرز الصور بشكلٍ مقززٍ، واقتربت الكاميرا (Close-up) لتُظهر جثّة الرجل المقتول ورأسه المُمزّق بسبب الكمية الهائلة من الرصاص التي أطلقها جنود الاحتلال عليه.
***
المشاهد التي تمّ بثّها أكّدت المؤكّد: البربريّة الإسرائيليّة فاقت المُنهى والمُنكَر، وتفوّقت على نفسها، وعندما استشهد الأمين العّام لحزب الله، السيّد حسن نصر الله، احتفلوا في أستوديو القناة الـ 12 بالحدث واحتسوا العرق، تعبيرًا عن فرحتهم، وأمس رغم أنّهم لم يحتسوا نخب “الانتصار”، وجّهوا رسالةً للعالم أنّ ما ورد بالتوراة (لا تفرح إذا قُتِل عدوّك) لم يعُد صالحًا ولا أخلاقيًا بالنسبة لهم، وعندما تتحدّى هذه الأقليّة الدينيّة أوْ غيرها كتبها المُقدسّة وما ورد فيها، فنحن نعلم أنّ الكوابح اختُرِقَت بشكلٍ فظٍ، ولن نسمع في قادم الأيّام عن حاخامٍ هنا أوْ هناك يُصدِر فتوى تُدين هذه التصرّفات الهمجيّة، المُخالِفة للدّين، ربّما لأنّه عند الحديث عن قتلٍ عربيٍّ بوحشيّةٍ يجعل الأمر حلالاً.
***
وبما أنّنا نعتبر الانتماء الإنسانيّة أهّم من كلّ انتماءٍ وفوق كلّ اعتبارٍ، نرى من واجبنا الإنسانيّ والأخلاقيّ والوطنيّ الإشارة إلى أنّ المُحلِّل روغِل ألفِر في صحيفة (هآرتس) العبريّة، الذي يُغرِّد خارج سرب الإجماع القوميّ الصهيونيّ، تناول اليوم الجمعة في مقاله هذه الظاهرة، أيْ وحشيّة الإعلام العبريّ المرئيّ، وأكّد دون لفٍّ أوْ دورانٍ، أنّ القناة الـ 12 بالتلفزيون العبريّ تحولّت أمس إلى قناةٍ بربريّةٍ، عندما نشرت الصور المُقززّة عن قربٍ لجثة السنوار ملقاة في أرض المعركة، لافتًا إلى أنّ البثّ تحوّل لاحتفالٍ وطنيٍّ بربريٍّ ومتوحشٍ، مُضيفًا أنّ محطات التلفزة الإسرائيليّة قامت بتسويق عملية تصفية حسابات الجيش الإسرائيليّ مع السنوار على شاكلة العالم السفلي (المافيا)، ومؤكِّدًا أنّ الأجواء كانت غرائزيّةً وحيوانيّةً.
***
المُحلِّل ألفِر، أضاف قائلاً إنّ نظام الحكم البربريّ يُجبِر المواطنين كي يتعوّدوا على مشاهدة الميّت الذي تمّ اغتياله، أوْ الإنسان الذي تمّ إعدامه، كوسيلةٍ للقضاء على المشاعر نحو المقتول، وأنْ يكونوا مع قلبٍ قاسٍ لا يتأثّر بذلك، مُشدّدًا في الوقت عينه على أنّ نظام الحكم البربريّ يُثقّف مواطنيه منذ صغرهم أنْ يفرحوا إزّاء هذه المناظر، لا أنْ يحتجوا، على حدّ تعبيره.
***
ألفِر، الذي لا أعرفه شخصيًا بالمرّة، إنّما أتابع مقالاته في (هآرتس) العبريّة منذ سنواتٍ طويلةٍ، شدّدّ في الختام على أنّ “ما فعلته القناة الـ 12 للمُشاهدين هو بمثابة إرهابٍ نفسيٍّ، العقليّة ترتعش وتتعرّض للوخز أيضًا في المركز، ولا تقتصِر على الهوامش والهامشيين فقط، ويتِّم شطب الفروقات اللازمة للعقلانية والتعقّل، فالعمق الإسرائيليّ بات الجبهة، وانتقلت المعركة إلى صالونات الإسرائيليين، دون عمليات ردعٍ أوْ ضوابطٍ، القناة الـ 12 تحولّت لمدة أكثر من 12 دقيقة لقناةٍ إرهابيّةٍ، على حدّ تعبيره. ونمتنع في هذه العُجالة من التطرّق إلى الكمية الهائلة من الحقد والكراهيّة التي نشرها الإسرائيليون عن السنوار في وسائط التواصل الاجتماعيّ على مختلف مشاربها.
***
وفي الختام، ورد في مقال المُحلِّل ألفِر أنّ مقدِّمة البرنامج في هيئة البثّ الرسميّة الإسرائيليّة (كان) قالت بملء الفمّ إنّه يجِب عرض الصور، أيْ صور جثّة الشهيد السنوار، دون تعتيمٍ أوْ طمسٍ أوْ ضبابيّةٍ، حسنًا، نحن كبشرٍ أولاً، وكعربٍ ثانيًا، وكفلسطينيين ثالثًا، نُطالِب، وهذا أضعف الإيمان، أنْ يُطبِّق الكيان المارِق هذا الأمر، أيْ عدم التعتيم على نفسه، ويسمح لوسائل إعلامه بنشر الجرائم الفظيعة التي يرتكبها جيش الاحتلال على مدار الساعة ضدّ البشر والحجر والشجر في قطاع غزّة وفي الضفّة الغربيّة المُحتلّة، ونسأل في الوقت عينه قادة تل أبيب: لماذا تمنعون حتى اللحظة الصحافيين الأجانب من دخول القطاع؟ ونسمح لأنفسنا بالتساؤل: هل إصدار أوامر اعتقال ضدّ كلٍّ من رئيس الوزراء الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه، يوآف غالانط، من قبل محكمة الجنايات الدوليّة في لاهايّ، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، جاء من قبيل الصدفة؟
***
إيماننا بعدالة قضيتنا، رغم الجراح والآلام، أصبح اليوم أكثر صلابةً وتصلبًا من أيّ وقتٍ مضى، ولذا نُخبِر أنفسنا والعالم برّمته بما كان قاله الإمام علي كرّم الله وجهه: “ما ضاع حقٌّ وراءه مُطالِبٌ”.
كاتبٌ عربيٌّ من بلدة ترشيحا، شمال فلسطين
انسخ الرابط :
Copied