موقع المغرب العربي الإخباري :
عادة ما تخطر في البال افكار، لتصبح فيما بعد عناوين لمواضيع، ثم تعود اليها بعد حين لكتابة مقالات مستوحاة من تلك العناوين. هذا ما حصل بالضبط لدى إعداد هذا المقال: وضعت عنوانا فنسيته لبعض الوقت، لكن تصريحات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف الغريبة لقناة “روسيا – 1” في 28 كانون الثاني / يناير أحيت في ذاكرتي هذا العنوان: “إشكالية المقارنة بين أوكرانيا وغزة”.
ان تصريحات لافروف في تلك المقابلة التي اجراها معه دميتري كيسيليوف، المدير العام لوكالة الإعلام الدولية الروسية “روسيا اليوم” ومقدم حصاد الأسبوع الإخباري على القناة الحكومية الاولى للتلفزيون الروسي “روسيا – 1″، أقل ما يمكن ان تصوف به، تبدو غير موفقة من حيث صيغة الإدلاء. لكن في الواقع جاءت صادمة ومحيرة في مضمونها ومغزاها. بل اسمحوا لي ان افترض إنها تأتي كاستخلاص لموقف روسيا من مجزرة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني البربري والغاشم ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وحتى في الضفة الغربية، بشكل ممنهج على مدى نحو ثلاثة أشهر. لماذا يمكن الافتراض إنها إستخلاص لموقف روسيا؟ لأنها آخر تصريحات يدلي به مسؤول رسمي رفيع قبل نهاية عام 2023.
ماذا نقرأ في تصريحات رئيس الدبلوماسية الروسية وكيف نفهمها؟
-
لافروف وصف “طوفان الأقصى” بالعمل الارهابي، ليشطب على موقف بلاده المعلن في مجلس الأمن الدولي من قبل مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، الذي قال إن “إسرائيل” لا تملك حق الدفاع عن النفس كونها دولة محتلة لاراضي الغير، ما يمنح الشعب الذي يقع تحت الاحتلال حق المقاومة بكل الوسائل المتاحة، وفق الشرعية الدولية؛
-
لافروف سمّى حماس “منظمة إرهابية”، وهذا يتناقض مع الموقف المعروف لروسيا من حركة المقاومة الاسلامية، ما يطرح تساؤلاً: هل غيرت روسيا تصنيفها لحماس؟ ولأي إعتبارات؟
-
لافروف إستنتج من تصريحات رئيس وزراء العدوان بنيامين نتن – ياهو أن “إسرائيل” بسعيها إلى تدمير القدرات العسكرية لحماس إنما تنفذ عملية “نزع سلاح” في غزة، وأنها بمحاولتها القضاء على رجال المقاومة – تقوم ب”اجتثاث المتطرفين”. وبمنطق وزير الخارجية الروسية فان “إسرائيل” تقوم بشيء مماثل لما تقوم به روسيا في أوكرانيا – نزع سلاح أوكرانيا واجتثاث النازيين فيها.
-
لافروف أبدى ارتياحا لان النتن – ياهو لم يسمح لنفسه بان يتفوه بألفاظ لاذعة تجاه روسيا وقيادتها، كما فعل قادة كثيرون سواء في الغرب او في الكيان الصهيوني نفسه، بعد بدء العملية العسكرية الخاصة؛
-
لافروف اشاد “بجهود” الكيان الصهيوني ومصر في الإفراج عن المحتجزين “اليهود – الروس” في غزة، بالرغم من ان الإفراج عنهم كان بمثابة إبداء حسن نية من طرف حماس تجاه روسيا الصديقة!
-
لافروف تحدث عن التاريخ المشترك والشفرة الجينية المشتركة لكل من روسيا والكيان الصهيوني مسترشدا بما يسمى محرقة (“هولوكوست”) اليهود، المشكوك في الكثير من تفاصيلها، إبان الحرب العالمية الثانية.
مرةً أخرى علينا أن نتسآءل: هل تصريحات السيد لافروف زلة لسان أم أنها إنعكاس لتبلور الموقف الروسي بصيغته النهائية مع نهاية عام 2023؟ إذا كانت زلة لسان، فعلينا ان نحصي ست زلات لسان على أقل تقدير كما أسلفنا أعلاه. إذا الموضوع أكبر بكثير من زلة لسان، أخذاً في نظر الاعتبار التوقيت والمنبر الإعلامي الذي وقع عليهما الاختيار!
هنا لا بد ان نتطرق إلى الشطر الآخر من عنوان المقال – الشأن الاوكراني. روسيا حققت قبل أيام بعض النجاحات العسكرية، ومنها السيطرة على مدينة ماريينكا المتاخمة لمدينة دونيتسك – عاصمة ما يسمى “جمهورية دونيتسك الشعبية”. كما يلاحظ في الاونة الأخيرة، إزدياد في كثافة القصف الجوي الروسي لأوكرانيا باستخدام الصواريخ والمسيرات. كل ذلك يترافق مع احاديث في العلن وفي الكواليس عن احتمال تجميد الجبهات وفتح قنوات للتفاوض بين موسكو وكييف. وهذا ان دلّ على شيء فانه يدل على ان اتصالات معينة تجري وتبادل رسائل يجري بين الأطراف المنخرطة في الصراع الاوكراني (روسيا – الولايات المتحدة والغرب – أوكرانيا – وسطاء (؟)). عملية “طوفان الأقصى” أفرزت واقعاً جديداً في العالم، يظهر انه من دون حل القضايا الدولية المزمنة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، لا يمكن حل القضايا المستجدة، كالصراع في أوكرانيا، من أجل المضي قدما في مشروع بناء عالم جديد، يراد له أن يكون تعدديا ومتكافئا ويحترم التنوع. لدينا من جهة الولايات المتحدة وحلفاؤها، لا يريدون فقدان هيمنة الغرب الجماعي على القرارات الدولية، ومن جهة أخرى، مجموعة أخرى تضم دولا مثل روسيا والصين والهند وايران، تريد ان تكسر معادلة القطبية الاحادية. بات واضحا للطرفين، أن انتصار احدهما على الآخر أمر مستبعد في المستقبل القريب وأنه لا بد من عقد هدنة لكي يرتب كل طرف أموره استعداداً للمرحلة المقبلة. فهل ستلدغ روسيا من الجحر مرتين وتخدع بدور اسرائيلي وسيط مع واشنطن؟ بالمناسبة، فان الهدنة التي عقدت بين الاتحاد السوفييتي من جهة والتحالف الأنغلوسكسوني من جهة اخرى للقضاء على المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، تمخض عنها تأسيس الأمم المتحدة وتبني قرار تقسيم فلسطين ونكبة عام 1948. من هذه الزاوية، فان اي هدنة ممكنة بين روسيا والغرب الجماعي بشأن الصراع في أوكرانيا يمكن ان تكون مرة أخرى على حساب الشعب الفلسطيني وعلى ما تبقى من أرضه. هكذا يمكن ان نستنتج من كلام السيد لافروف، إذا كان يعني ما قاله!
ما يؤخذ على وزير الخارجية الروسية، وهو دبلوماسي محنك ومخضرم، أن مقارنته بين أوكرانيا وغزة غير موفقة تماما: روسيا تدعي انها تحارب في أوكرانيا الغرب الجماعي، وبصورة أساسية، التحالف الانغلوساكسوني، وهو نفس الخصم الذي يدعم الكيان الصهيوني في حربه الاجرامية على الشعب الفلسطيني. السيد لافروف يصف المقاومة المشروعة للاحتلال بانها إرهاب. إذا عليه ان يسلم بان نضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي ارهابا، وحرب المقاتلين الفيتناميين ضد الغزاة الاميركيين ارهابا، وكفاح نيلسون مانديلا والمؤتمر الوطني الأفريقي ضد نظام القهر العنصري في جنوب أفريقيا ارهابا، بل عليه ان يعتبر حرب العصابات التي شنها اجداده السوفييت ضد الغزاة النازيين ارهابا ايضا. اما بالنسبة للشفرة الوراثية المشتركة لكل من روسيا وكيان دولة الاحتلال، فلا يسعنا إلا ان ندعو حملة الشفرة الوراثية المشتركة من يهود روسيا ان يعودوا إلى وطنهم الذي جاؤا منه ويعيشوا فيه بأمان وسلام وسكينة، بدلا من ان يسلبوا ارض الفلسطينيين ويستوطنوها، وان تكف السلطات الروسية عن تجنيس اللاجئين الفلسطينيين من غزة وتوطينهم في جمهوريات القوقاز.
يجب ان نقول الحقيقة: الاتحاد السوفييتي الذي خلفته روسيا، لعب دورا اساسياً في نكبة عام 1948، وساهم بتعميقها عن طريق فتح باب هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة بعد انهياره في عام 1991. لذا، فان روسيا تتحمل مسؤولية تاريخيّة وسياسية واخلاقية امام الشعب الفلسطيني وعليها ان تكون بحجم هذه المسؤولية اليوم وتقف بوضوح إلى جانب فلسطين، مصغية إلى الرأي العام الفعلي للشعب الروسي، لا إلى ما يروج له صناع الدعاية الصهيونية في الإعلام الروسي. ننتظر من السيد لافروف المحترم ان يوضح موقفه، لكيلا تشكك شعوب العالم الحر في مصداقية روسيا وعدالتها.
انسخ الرابط :
Copied