موقع المغرب العربي الإخباري :
مهما حاول الكثيرون توصيف ما حصل في لبنان يوم 17 سبتمبر/ ايلول يوم الإنفجار الطويل لأجهزة “البيجر” بمواطنين لبنانيين، تلاها يوم آخر لأجهزة “الآيكوم”، تارةً على أنها جرائم حرب أو إرهاب دولي وتارة أخرى على أنها مجازر ضد الإنسانية أو محاولة إبادة جماعية، لن يؤتي ثماره وسط هذا الجنون التكنولوجي المعقد في العالم، ومهما صدرت بيانات دولية و إقليمية وحتى محلية تدين وتستنكر وتشجب ما حصل، لن تعدو سوى فقاعات في الهواء مماثلة للبيانات “التراجيدية” التي تكرر ذاتها لتُغطي تآمر الغرب وتخاذل العرب وتقصيرنا الذاتي، ومهما رُفعت شكاوى إلى مجلس الأمن الدولي وتم استدعاء سفراء الدول الكبرى إلى الخارجية اللبنانية للغاية ذاتها، لن “تفلق البحر” وستبقى تراوح مكانها، ومهما تداولت وسائل الإعلام من صور للمدنيين اللبنانيين في بيوتهم مع أطفالهم وعلى دراجاتهم وفي سياراتهم وداخل الدكاكين ووسط الشوارع وفي المستشفيات.. يسقطون أرضاً بالآلاف في توقيت واحد مضرجين بالدماء بين لبنان والشام، لن تُجدي نفعاً لدى الدول العربية والإسلامية والغربية، بعد أن اعتادوا على رؤية “بانورامية” المجازر في غزة والضفة وكأنها أمراً روتينياً يفتقدونها إذا ما غابت يوماً عن شاشاتهم…
لتبقى التساؤلات في الأهداف الكامنة وراء هذه العملية، التي يمكن حصرها في ستة احتمالات، أولها أن تكون ضمن الخطة الأصلية للعدو، في السعي إلى قتل أكبر عدد ممكن من المقاومين، ومحاولة تدمير منظومة القيادة والسيطرة لحزب الله بغية تحقيق تفوق ميداني في حال اندلاع حرب شاملة، إضافة إلى تفوق استراتيجي على محور المقاومة كونه سيؤدي الى تغيير طريقة التواصل فيما بينهم مما سيؤثر سلباً على سرعة الأداء ودقة التنسيق في شن الهجمات، فلماذا لم يتزامن الهجوم البري مع عمليتي التفجير؟ وهل تراجع عن ذلك نتيجة فشله في قتل العديد من المقاومين كما كان مخططاً له؟ وثانيها أن تكون بمثابة تحضير لحملة عسكرية طويلة الأمد على لبنان، في وقت أعلن عن سحبه للفرقة 98 من غزة ولبعض قواته من الضفة الغربية إلى الشمال، فهل يستعد لشن حملته البرية؟ وثالثها أن تكون مجرد عملية سرية أخرى في حرب الظل الطويلة بين العدو ومحور المقاومة، ويبقى السؤال ما هي إجراءات المقاومة للردع التكنولوجي؟ ورابعها أن يكون الموساد قد نفذ العملية لأن هناك حدًا زمنيًا قبل اكتشافها، فهل كاد حزب الله على وشك أن يُمسك “بالخيط الرفيع” مما عجّل التفجير؟. أما خامسها أنّ تكون ضمن محاولات الضغط على المقاومة للوصول إلى تفاهم ما على الجبهة الشمالية بمنأى عن غزة، وهذا ما لا ولن تقبله المقاومة؟ وسادسها أن يساعد الهجوم أجهزة الأمن الصهيونية على إعادة بناء سمعتها التي فقدتها بعد 7 أكتوبر، فهل تستطيع ذلك؟ أم أنّ دم الأبرياء سيبقى يطارد قادتها؟
وعلى الرغم من تنادي البعض ضمن بيئة المقاومة عقب التفجيرين بالطلب من سيد المقاومة المبادرة إلى الحرب الشاملة التي طال انتظار المقاومين لها أو الخروج من المراوحة القائمة بتسوية ما على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، فإن ما حدث ثبّت أكثر فأكثر معادلة “الستاتيكو” القائمة على جبهة العدو الشمالية أقله قبل موعد الانتخابات الأمريكية، وإن ترافقت مع تصعيد متبادل من كلا الطرفين، وذلك للأسباب التالية:
-
حاجة المقاومة إلى “احتواء الضرر” من خلال إجراء مراجعة شاملة لجهازها الأمني الداخلي والثغرات في أمن عملياتها، فضلاً عن إجراء تحقيقات تطال الجهات التي عقدت الصفقة وتلك التي نصحت بها، إضافة لمن أعطى الضوء الأخضر بخلوها من عيوب أمنية وتقنية، مما سيسفر بالتالي عن حملة تطهير خلال البحث عن المهملين أو العملاء المزدوجين، أما الأخطر كان في استمرار استعمال أجهزة النداء “البيجر” والأجهزة “اللاسلكية” منذ بدء حرب الاستنزاف، على أُسس أنها آمنة بالرغم من تحذيرات الخبراء الفنيين وبعض المخضرمين داخل حزب الله من “أنّ كل ما ينتقل بالهواء هو معرض للقرصنة”، فمن ذا الذي أصرّ على أنها عصية على الاختراق؟
-
حاجة المقاومة إلى إجراء مسح فني شامل للمعدات كافة من خلال تشكيل لجان تكشف على الأجهزة الحديثة ( اتصال، مناظير، جي.بي.س …) والأسلحة والألبسة والذخائر المستوردة من الخارج… إضافة إلى ضرورة إجراء تعديلات في المدى القصير على نظام القيادة والسيطرة الذي كان سائداً بعد تدميره جزئياً، حتى وإن كان الهجوم الأخير لم ولن يؤثر على أدائها وجاهزيتها في الميدان وتحديداً على الجبهة الجنوبية، إلا أن المؤشرات العسكرية والأمنية للمقاومة في ظل الوضع المستجد قد اهتزت خلال اليومين الماضيين، مما يفرض المحافظة على الوضع الحالي وعدم خوض معركة برية شاملة أقله في المرحلة الحالية على الرغم من استعدادات المقاومة لهذه اللحظة، مع الإبقاء على حق الردّ مفتوحاً…
-
لم تتوقف عمليات المقاومة ولا عاد المستوطنون إلى الشمال الفلسطيني المحتل من خلال تسوية ما بعيداً عن صفقة الأسرى في غزة، بالرغم من تحديد العدو لأهدافه من الهجوم الأخير على أنه لمنع هجمات المقاومة على الشمال بغية تسهيل عودة المستوطنين، وبالتالي لم تُحدث التفجيرات أي تأثير استراتيجي على مجريات المعركة على طول الحدود اللبنانية – الفلسطينية، حيث أنه لم تُغيّر التوازن العسكري القائم منذ 8 اكتوبر، كما لم تجرّ حزب الله إلى اجراء تسوية بمعزل عن غزة..
-
إنّ الحرب الشاملة ضد حزب الله ليست بالأمر اليسير بل هي صعبة، وصعبة للغاية، فهو ليس منظمة صغيرة مثل حماس (التي أنهكت الاحتلال على مدى عام)، بل هو جيش مدرب لديه خبراته الميدانية ويمتلك ترسانة صاروخية، وأسلحة متنوعة وفتاكة، فالحرب الشاملة ستسبب في سقوط العديد من المستوطنين في جميع مناطق الكيان المحتل، ولن يقتصر القتال على الحدود الشمالية فقط بل سيتجاوزها إلى عمق الاحتلال، كما سيكون لها عواقب اقتصادية هائلة، وكذلك في القدرة على إدارة أنظمة التعليم والصحة كما هو مطلوب.
إنّ هذا العمل التفجيري لن يدفع قطعاً حزب الله الى وقف نشاطه جنوب الليطاني كما يُخطط العدو، بل سيعطيه زخماً لمزيد من التصعيد، والتصعيد هنا لن يُحتسب رداً، إذ أن الردّ قد يتأخر أياماً أو أسابيع، ليس لأنه لا يريد ذلك، بل لأن على حزب الله أن يُدرك حجم الاختراق الاستخباراتي داخل جهازه، وعليه أن يُفعّل منظومة الردع التكنولوجي لديه، ومع ذلك، فمن الواضح أن ردّ حزب الله هو مسألة متى سيكون؟ وليس ما إذا كان سيحصل؟ ورُبّ قائل أنّ هذا التصعيد قد يُجبر الجيش الصهيوني في نهاية المطاف على اتخاذ إجراءات تصعيدية عسكرية أو أمنية أكبر؟ والجواب، أنّ العدو لا يلزمه عذر للتصعيد، فليحسِب السائل المدة الزمنية الفاصلة لمراحل المكيدة، بدءاً من حبكها من قبل الموساد في دولة “المجر” ويليها إصدار الأوامر بتفخيخ الأجهزة في الكيان المحتل ومن ثم شحنهم إلى “بودابست”، وصولاً إلى استلامهم من المتعهد وشحنهم إلى لبنان وبين عمليتي التفجير في 17 و 18 سبتمبر، ما يقارب عدة سنوات، أي قبل حصول طوفان الأقصى في 7 اكتوبر…. ليبقى هناك من يتمطى ويكرر نظرية “قرار السلم والحرب بيد الدولة” أو أن يلعب دور محامي الدفاع عن الكيان بأنه “ما كان ليعتدي على لبنان لولم يتدخل حزب الله في 8 اكتوبر”؟ والسؤال الذي يطرح نفسه بعد عمليتي التفجير، هل سيكون ردّ حزب الله على حجم الواقعة؟ أم أن معادلة تحييد المدنيين قد سقطت لدى كلا الطرفين؟
عميد لبناني متقاعد
انسخ الرابط :
Copied