يهدف طلب الولايات المتحدة الأميركية إغلاقَ ملف الشهيد قاسم سليماني إلى تخفيف وهج القيمة المعنوية التي مثّلها الجنرال في مخيال المنطقة، ولا سيما في التغلب على موجة الإرهاب التي عمّت المنطقة، في العراق وسوريا واليمن، والنجاح في التصدي للأهداف الأميركية فيها. من جهة أخرى، يهدف هذا الطلب إلى مسح الصورة الإجرامية للولايات المتحدة من الذاكرة، والتي تكثّفت في لحظة اغتيال الفريق سليماني، بأمر من الرئيس السابق دونالد ترامب.
القلق من صورتين
راكم ترامب خلال فترة إدارته صوراً محرجة للسياسة الأميركية، من صفقة القرن، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، إلى جريمة الاغتيال وتسريع عجلة التطبيع في المنطقة (اتفاقيات أبراهام). من هنا، وجدت إدارة بايدن نفسها مرهقة في محاولة محو هذه الصور المتراكمة لتمرير خطابها المختلف عن إدارة ترامب، وإن تشاركت معها في الشق الأكبر من أجندة الأهداف الاستراتيجية.
تسعى إدارة بايدن إلى تفعيل مبدأ “التمويه القيمي” الذي سارت عليه إدارة أوباما، ومحاولة استعادة صورة الولايات المتحدة “الراعية للديمقراطية”. من هنا، كانت العودة إلى الاتفاقيات الدوليّة، كاتفاقية المناخ ومجلس حقوق الإنسان، وكذلك التركيز على خطاب “حقوق الإنسان” إعلامياً في مواجهة روسيا في أوكرانيا. في هذا المسار، إنَّ المتابعة الإيرانية لملف الشهيد سليماني في الهيئات الدولية والحقوقية تشكّل عبئاً ثقيلاً على إدارة بايدن، ومُشوِشاً جاداً لتحقيق أهداف “استعادة الصورة”.
المتابعة القانونية للملفّ تكشف بشكل مستمر ومتتابع حدث الخرق الأميركي للأعراف والقواعد في العلاقات الدبلوماسية بين البلدان ذات السيادة، والتي ليست في حالة حرب، باغتيالها مسؤولاً رفيع المستوى يقوم بزيارة رسمية لبلد آخر عبر مطار البلاد الرسمي، ويستقبله أحد المسؤولين الرسميين في هيئة الحشد الشعبي التي تنتمي مباشرة إلى الحكومة العراقية، وبالتالي فإنّ إيران تمتلك ورقة قوة بيدها في الثأر للشهيد سليماني في الوقت والمكان المناسبين.
طلب بهدف الانسحاب أو الكسب في اللحظة الأخيرة؟
على الرغم من الإغراءات الكثيرة التي قدّمتها الولايات المتحدة لطهران في فيينا، ضمن معادلة “رفع العقوبات وأكثر” مقابل “التخلّي عن الثأر لسليماني”، فإنّ إيران تفضّل استمرار العقوبات إذا كان ثمن رفعها التخلّي عن قيمة معنوية كبيرة في الشارع الإيراني والمنطقة.
من جانبها، تدرك الولايات المتحدة الأميركية استحالة القبول الإيراني بهذا الطلب، فهل تشارك طلبها بحثاً عن ذريعة للانسحاب المبكر أو بحثاً عن مكسب في الجولات الأخيرة من مفاوضات تبدو خسارتها خلالها عالية؟
في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وفي تعليق على مسار المحادثات، قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان: “لا تسير (المحادثات) بشكل جيد، بمعنى أنّنا لم نجد بعد سبيلاً للعودة إلى الاتفاق النووي”. وتابع: “نحن نسدد فواتير القرار الكارثي بالخروج من الاتفاق في العام 2018″، مشيراً إلى أن الاتفاق النووي وضع سقفاً للبرنامج النووي الإيراني.
لا تبدو الولايات المتحدة باحثة عن ذرائع للانسحاب من الاتفاق الذي هرولت خلفه في محاولة إصلاح ما أتلفه تهور ترامب، كما أن الحاجة الأميركية إلى الاتفاق تتعاظم مع توتر الأجواء على الجبهتين الروسية والصينية.
ولذلك، تهدف الولايات المتحدة من خلال هذا الطلب إلى رفع السقوف في اللحظات الأخيرة بحثاً عن مزيد من المكتسبات، ولا سيما مع وجود تيارات داخل الإدارة الأميركية وفي المكونات المعارضة لها، تعتقد أن الفريق المفاوض فشل في مهمته أمام الدبلوماسية الإيرانية التي انتزعت منه الكثير.
طالبت إيران برفع جميع العقوبات المفروضة عليها دفعة واحدة، رافضة الطرح الأميركي في تعليق جزء منها وإبقاء جزء آخر. وترافق ذلك مع الإصرار على تسهيل الصادرات والإفراج عن الأصول المجمدة في الخارج.
حسن النيات.. قيد في عنق الدبلوماسية الأميركية
لم تكن المسألة مرتبطة بالجانب الكمي فقط، إنما أيضاً في آلية التوثق (الاتفاق على ضمانات لتنفيذ الاتفاق نفسه، ومن ذلك المطالبة ببيان صادر عن الكونغرس يعلن الالتزام بالاتفاق وعدم العودة عنه)، ما يعني إذلال صورة الولايات المتحدة كطرف لا يلتزم بتعهداته، واغتيالاً معنوياً لها. شكّل ذلك أزمة حقيقية للدبلوماسية الأميركية، التي سعت بعدها إلى تنفيذ أيّ انتقام معنوي من إيران، ويبدو أنها أخطأت التقدير في طلب التخلي عن الثأر لسليماني.
في السادس والعشرين من آذار/مارس الماضي، صرّح وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في مقابلة مع التلفزيون الإيراني، أنّ “على الولايات المتحدة أن تُثبت حسن النيّات الذي تحدّث عنه بايدن، كتحرير 10 مليارات دولار من أموال إيران المجمّدة أو رفع العقوبات عن الملاحة الإيرانية، ليُثبت بايدن أنَّ هناك اختلافاً بين توجّهاته وتوجّهات ترامب”.
استعداد الولايات المتحدة لرفع أسماء بعض الشخصيات والهيئات عن لائحة الإرهاب سيسهّل تعامل هيئات شعبية ومدنية في المنطقة معها، وإن لم تكن رسمية، ويخفف من آثار ملاحقتها قانونياً في بلدانها، وخصوصاً تلك التابعة لسياسة الولايات المتحدة. إن تفاعل هذه الخطوة مع رصيد أيقونة سليماني يعزز الحالة الوجدانية والعملية في المنطقة، والتي تخشاها الولايات المتحدة، وبالتحديد في ما يتعلق بالكيان الإسرائيلي.
لا تزال الولايات المتحدة مهتمّة بإنجاز الاتفاق الَّذي بحثت عنه، ولكنّها لا تجد حلاً لإشكالية صورة الجريمة التي التصقت بها، وصورة الشهادة والتضحية التي التصقت بسليماني. أما في الميدان، فهي تدرك أنَّ طهران تصبر، لكنّها لا تنسى!