نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا لميشيل غافين، الزميلة البارزة في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي والمديرة السابقة لإفريقيا في مجلس الأمن القومي ما بين 2009- 2011 وسفيرة واشنطن في بوتسوانا ما بين 2011- 2014، حللت فيه مظاهر الفشل الأمريكي في السودان.
ودعت في مقالها واشنطن أن تتحلى بثقة أكبر في القوى المؤيدة للديمقراطية في السودان. فهذه القوى التي اندفعت إلى الشوارع في نهاية 2018 وبداية 2019 ساعدت على تحقيق حلم راوغ الإدارة الأمريكية ولثلاثة عقود، وهو التخلص من نظام ديكتاتوري فاسد لعمر البشير. وتمت الإطاحة به وسط تظاهرات حاشدة وانقلاب عسكري،مما اعتبر فرصة للإصلاح والديمقراطية بالبلاد.
ولم تتوقف تظاهرات المواطنين المطالبة بتحول ديمقراطي شامل، بشكل قاد إلى حكومة انتقالية ووعد بعقد انتخابات تنقل السلطة للمدنيين. إلا أن الخطة الانتقالية لم تسر حسب المخطط لها، فقد خاض العسكريون والمدنيون على مدى عامين صراعا مستمرا وفشلوا في الاتفاق على الأولويات، مما قاد إلى سيطرة الجيش في انقلاب ثان بشهر تشرين الأول/أكتوبر 2021.
وأكثر من هذا فقد كان موقف الولايات المتحدة مثبطا للعزيمة ومثيرا للحيرة، فبدلا من تبني القوى التي حققت ما عجزت عن تحقيقه، بدت بعيدة عنها وبل وأبدت احتراما للعسكر الذين يريدون الحفاظ على بنى السلطة القديمة في السودان. ولا يمكن تفسير التناقض الظاهري هذا عبر تحول في المصالح الأمريكية بالسودان، ولكنه ينبع من النهج الشخصاني تجاه البلد، فبعد عقود من تشكيل السياسة من السودان حول البشير وحزب المؤتمر الوطني الذي قاده، بدت واشنطن غير قادرة على التعامل مع النظام السياسي الذي خلفه دون تخيل أي شيء مختلف.
ووصل البشير إلى السلطة عام 1989 وبقي صناع السياسة من الحزبين الأمريكيين ينظرون إليه كتهديد على المصالح الأمريكية. ولم يكن نظام البشير ديكتاتورية عسكرية فقط، بل ديكتاتورية عسكرية دعمت احتلال صدام للكويت في 1990 ومنحت الملاذ للإرهابيين الدوليين مثل أسامة بن لادن وحافظت على علاقة قوية مع إيران حتى عام 2015. كما وعملت قواته الوكيلة على تجويع واستعباد السودانيين في الجنوب ولاحقا في الغرب بدارفور الذي اتهم بارتكاب جرائم فيها. وتغيرت السياسة الداخلية والخارجية للبشير وتحولت للاعتدال مع مرور الوقت، إلا أنه ظل طوال حكمه لاعبا خطيرا على المسرح الدولي. وحاولت الولايات المتحدة عزل النظام السوداني وقطعت المعونات غير الإنسانية مباشرة بعد الانقلاب مباشرة. وفي عام 1993 صنفت الولايات المتحدة، السودان كدولة راعية للإرهاب، مما حرم النظام من دعم المؤسسات المالية الدولية. وفرض بيل كلينتون في عام 1997 وبناء على ضغط من الديمقراطيين والجمهوريين عقوبات مالية وتجارية قاسية على السودان.
وبعد عقد من الزمان، فرضت إدارة جورج دبليو بوش عقوبات استهدفت مسؤولين في الحكومة وشركات مرتبطة بالنظام اتهمت بالتورط في دار فور. وترافقت الجهود الأمريكية مع محاولات لعزل السودان دوليا، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي. وفي عام 2009 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمرا بالقبض على البشير لدوره في جرائم دار فور. وكانت العقوبات الأمريكية على السودان الأكثر شمولا في العالم. وكافحت إدارة باراك اوباما من اجل تحقيق عدة أهداف في وقت واحد، فقد عملت على جلب البشير للعدالة الدولية، ولكنها عملت في نفس الوقت مع حكومته للتأكد من عقدها استفتاء حول انفصال الجنوب عن الشمال الذي ساهمت في التوصل إليه بالإضافة لخفض التوتر في مناطق أخرى من البلاد. وهو ما قاد لشلل بسبب التوتر الأصلي بين جهود نزع الشرعية عن النظام والعمل معه في نفس الوقت لكي يلعب دورا في السلام والأمن داخل البلاد وخارجه.
وحاولت الإدارة وبشكل دائم الفصل وإن بشكل تجميلي بين البشير كفرد ونظامه الذي كانت واشنطن تحتاج إلى أفراده كي تمرر سياساتها. وتغير هذا الوضع بانتفاضة عام 2018 التي أطاحت بالبشير وسجنه، ثم قيام الحكومة الانتقالية بحل الحزب الوطني والمخابرات التي اعتمد عليها لقمع معارضيه.
وفي النهاية كان الجيش لا قوى الديمقراطية التي أشعلت الثورة ضد نظام البشير، هو الذي سيطر على عملية التحول في البلاد. وقامت الحكومة الانتقالية على علاقة غير مريحة بين المدنيين المهتمين ببناء ديمقراطية حقيقية والنخبة العسكرية التي عملت واستفادت من الفرص والعقود المربحة في ظل نظام الرئيس السابق.
وعانت الحكومة الانتقالية من الاقتتال المستمر مع العسكر الذين ترددوا في تسليم السلطة ومحاولة استعادة الأرصدة المسروقة ووقف العقود الفاسدة. ولم يتحقق الكثير لتغيير حياة السودانيين الذي خرجوا بين الفينة والأخرى للتعبير عن غضبهم والتأكيد على رغبتهم بالتحول الديمقراطي الحقيقي. ولم يبد الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش أية رغبة بمشاركة السلطة مع المدنيين، ثم قام باعتقال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك والمسؤولين غير العسكريين في حكومته التي حلها.
وتشير غافين إلى أن رد الإدارة الأمريكية الفاتر على استيلاء الجيش على السلطة، أثار إحباط الناشطين السودانيين من دعاة الديمقراطية. وتجنبت إدارة جو بايدن استخدام كلمة “انقلاب” في بياناتها الشاجبة لتحرك الجيش ورفضت فرض عقوبات على البرهان وبقية القادة العسكريين. وركزت بدلا من ذلك على العودة إلى الوضع القائم قبل الانقلاب وأكدت على أهمية إعادة حمدوك إلى منصبه والحفاظ على عملية التشارك في السلطة، وهو موقف اعتبره الناشطون غير عملي. وظل صناع السياسة الأمريكيين يطالبون بإعادة حمدوك، كما لو أنه الحل للأزمة رغم فقدانه ثقة الناشطين. وفي تشرين الثاني/نوفمبر اتفق حمدوك مع البرهان على العودة إلى منصبه، وبدا من الواضح أنه لن يكون معادلا ديمقراطيا قويا للجيش. ولم يندهش أحد عندما استقال من منصبه في بداية كانون الثاني/يناير. وبدا من الواضح أن تحريره جاء بناء على رغبة الجنرالات الذين واصلوا قتل المتظاهرين وإعادة رموز النظام السابق.
ولم تكن السياسة الأمريكية قبل الانقلاب الأخير تحظى بقبول دعاة التغيير الديمقراطي. فرغم شطب واشنطن السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وقدمت له بعض الدعم،إلا أنها كانت بطيئة بتوفير الدعم الضروري والمخفف على السودانيين. وحاولت إدارة دونالد ترامب إخضاع سياستها تجاه السودان لجهود تطبيع العلاقات مع إسرائيل- وهي سياسة لم تحظ بدعم قوي في السودان وتحترم بشكل واضح دول الخليج التي لا تهتم بالديمقراطية والتي رأت بعسكر السودان حليفا جيدا ضد الإسلاميين وقطر وتركيا.
فبدلا من استثمار الزخم في المرحلة الانتقالية ودعم الإصلاح بدت الإدارة الأمريكية منفصمة عن السودان وأهملت تعيين سفير أمريكي في الخرطوم حتى العام 2022. ولم يحدث انقلاب تشرين الأول/أكتوبر نتيجة شيء فعله صناع السياسة الأمريكية، بل لمزيج من الحذر والإهمال الأمريكي للعملية الانتقالية التي منحت الجنرالات مجالا ووقتا لكي يمارسوا سلطات واسعة والتوصل لنتيجة أنهم يستطيعون السيطرة على السلطة.
وترى الكاتبة أن جزءا من مشكلة الولايات المتحدة هي تركيزها على شخصيات بعينها وعلى حساب الأنظمة. فمثلما ظلت تركز على البشير طوال الثلاثين عاما، أصبحت بعد خروجه مهووسة بالحفاظ على حمدوك، كشخصية لا يمكن الاستغناء عنها، مع أن الشارع السوداني كان يعرف أن الجيش لا نية له للتخلي عن مفاصل السلطة. وربما اعتقد صناع السياسة الأمريكيين أن خروج البشير كان التغيير الذي يحتاج إليه السودان مع أن النظام الذي عمل من داخله وأنشأه بقي كما هو . ومن السهل دعم التغيير في الوجه وليس التغير البنيوي بما يحمله من أصوات نشاز وتضارب في المصالح والطموحات.
وأدى الانقلاب ضد البشير إلى إزاحة شخص مزعج للسياسة الأمريكية، مما أعطى صورة مخادعة أن من يأتي بعده قد يكون مستساغا. مع أن بعض شخصيات الحكومة الانتقالية لم تكن مستساغة أصلا، وبخاصة زعيم الميليشيا محمد حمدان (حميدتي) دقلو المسؤول عن أسوأ الجرائم في دار فور والمذابح ضد المدنيين في عام 2019. لكن شخصيات مثل البرهان لم تكون معروفة وحملت وعد الاستقرار بمنطقة متقلبة.
وكما في عهد البشير كان باستطاعة المسؤولين الأمريكيين اختيار المسؤولين السودانيين الذي يجدونهم محاورين مقبولين. ولم يكن السودان مشكلة للولايات المتحدة بسبب مجموعة من الشخصيات السامة في أعلى مستويات السلطة، وتحميل هؤلاء مسؤولية أفعالهم أمر صائب وعادل وقد يمنع انتهاكات في المستقبل. إلا أن هذا لن يقتلع السرطان في قلب الدولة السودانية: النظام الواسع للرعاية والإفلات من العقاب الذي بناه البشير ولا يزال قائما اليوم. فهذا نظام يزدري الإرادة الشعبية ويشك بالمعارضة ومهمل وعدواني للسودانيين الذين يعيشون خارج الخرطوم وذكي في التلاعب بالقوى الأجنبية بحيث يتم التعامل مع قادة السودان بأنهم أسوأ الشرين. وبعيدا عمن هو المسؤول والرمز، فلن يفكك النظام نفسه ولهذا السبب فإن الدعوة إلى عودة مسرحية الحكومة الانتقالية القائمة على صيغة المشاركة في الحكم ستظل وصفة للفشل. ولن يتمكن شخص مهما كان فاضلا أو مجموعة من الأشخاص استعادة ثقة الشعب السوداني أو يجبر الجيش على المضي في الإصلاح. وعليه فدفع شخصيات نزيهة في عملية فاقدة للثقة لن يؤدي إلا إلى تشويههم والحفاظ على النظام القديم دون أي تغيير. وقيدت سنوات من التركيز على تغيير رأس النظام الجهود الأمريكية وجاء التركيز على التخلص من المشكلة على حساب حل مستمر.
على الولايات المتحدة ألا تفترض أن قدر السودان هو مع الديكتاتورية. ولا يزال الشعب السوداني الشجاع يمثل قوة تغيير لا يمكن الاستهانة بها.
وبدت فكرة سودان ديمقراطي يلتزم بحكم القانون خيالا بالنسبة لصناع السياسة الأمريكية بدرجة لم تثر اهتمامهم. وبدا غياب الطموح الأمريكي على تناقض مع توقعات الشعب السوداني الذي يطالب ومنذ سقوط البشير بتغيير منهجي. ولكن على الولايات المتحدة ألا تفترض أن قدر السودان هو مع الديكتاتورية. ولا يزال الشعب السوداني الشجاع قوة تغيير لا يمكن الاستهانة بها، وبرغم ما يتعرض له من قمع وقتل. وحرمت واشنطن الجيش من المساعدات التي تسمح له بمواصلة نظامه القديم وبدأت وإن بشكل متأخر بالتواصل مع القوى المدنية. ولكن عليها عمل المزيد لفهم تطلعات والخطوط الحمر للمنظمات المدنية ودعم قدرتها كي تسهم بتشكيل مستقبل السودان. وعلى الولايات المتحدة تجنب الخطوات التي تمنح الشرعية للجيش ومعارضة أي خطوة لتعيين مدنيين أو استبعاد جهات من العملية السياسية. وفي النهاية فالولايات المتحدة كما في فترة البشير لا تأثير قوي لها لكي تغير مسار السياسة السودانية بوحدها. ومن أجل تقييد الجيش فعلى واشنطن التأكد من عدم مساعدة الصين أو دول الخليج له. وهذا يحتاج إلى قيادة قوية والتزام من الحكومة الأمريكية واعتقاد بإمكانية النجاح.