كشفت المقاطع المصورة التي بثّتها المقاومة الإسلامية في لبنان معطيات تقنية جديدة وهامة مرتبطة بقدرات المقاومة ومدى اتساع المعادلات التي ترسمها يوماً بعد يوم.
وأظهر مقطع الفيديو الذي نشره الإعلام الحربي في المقاومة معطيات تقنية هامة عمّا في حوزتها من إمكانات عسكرية واستخبارية وأمنية، فضلاً عن قدرتها العالية على توظيف إمكاناتها لتقوية موقف لبنان السياسي.
تفاصيل الفيديو: هندسة لحرب المعلومات
اختارت المقاومة أن توجّه رسالة عبر عنوان الفيديو “اللعب بالوقت.. غير مفيد”، وهو اقتباس صوتي من كلام للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه منذ عدة أسابيع في ذكرى حرب تموز.
وانتقلت مباشرة لاستعراض مشاهد صوّرت بتاريخ 9 حزيران/يونيو الفائت، لمنطقة حقل “كاريش” في عمق المياه الفلسطينية المحتلة، التي تبعد 90 كلم، مع معلومات مرفقة، ظهرت فيها “المنصة “أرندال سبيريت”، وهي منصة عائمة للسكن والدعم مسجلة في الباهاماس، طولها كعرضها 75 متراً، ويعمل عليها 67 فرداً، وكانت تتواجد في ذلك الوقت على خط طول E 34 17 28.1334 وخط عرض N 33 11 56.6086”.
ثم انتقل المشهد إلى رصد فيها “سفينة الإنتاج والتخزين Energean Power FPSO، المسجلة في سنغافورة، وقياساتها 227*50*100 متراً، وعدد العاملين عليها البالغ 113 فرداً، وإحداثياتها الدقيقة E 37 17 1.5577 و N 33 12 14.6911”.
وبعدها عرضت مشاهد “سفينة الحفر والاستكشاف Stenna Icemax Drill، وهي مسجلة في بريطانيا، 227*42*19 متراً، يعمل على متنها 134 فرداً وإحداثياتها الدقيقة هي E 34 19 11.0065 و N 33 14 2.5734”.
وهذه الأرقام تمّ تحديثها آخر الفيديو بنشر إحداثيات تعود إلى نفس اليوم الذي تمّ إنتاجه فيه، أي أمس في 30 تموز/يوليو، حيث أظهر ذلك أنّ المقاومة تواكب تحركات العدو وترصد إحداثياته بشكل دائم ومستمرّ.
كما تضمن الفيديو مشاهد لصواريخ تمتلكها المقاومة، التي ختمته بشعار “القوة البحرية” في حزب الله، وهو اقتباس من الآية القرآنية “إنّهم جند مغرقون”، مع عبارة “في المرمى” مترجمة إلى العبرية.
المعطيات العسكرية التي كشفها الفيديو
بالمقارنة مع مشهد حقل “كاريش”، الذي ذكرت فيه المقاومة أنّ الحقل يبعد “90 كلم عن الشواطئ اللبنانية”، يتّضح أنّ هدف التذكير بامتلاك المقاومة لهذا النوع من الصواريخ المضادة للسفن بالتحديد، هو بسبب مداها الذي يغطي الحقل ويعطي أفضلية للمقاومة لإطلاقه من نقاط أبعد بعشرات الكيلومترات، وكذلك بسبب قدرته التدميرية التي يمكنها التسبب بتدمير المنصات وإغراق السفن الإسرائيلية، وليس فقط التسبب بأضرار لها.
كما أظهر الفيديو امتلاك المقاومة أجهزة رصد متقدمة، وكاميرا حرارية متطورة قادرة على تنفيذ عمليات رصد بعيدة المدى، تشكّل بديلاً عن الحاجة إلى إرسال طائرات مسيرة للاستطلاع، وبالتالي بديلاً عن تعريض قوات المقاومة لأي تماسّ مع قوات العدو من أجل الوصول إلى معلومات، فضلاً عن أيّ خسائر محتملة، كما تحافظ على سرية العمل.
العميد شارل أبي نادر علّق على الفيديو، خلال مقابلة مع قناة الميادين اليوم، مؤكداً بأنّ “الرسالة الأولى من المقاومة هي أنّ الإصبع على الزناد والوضع لا يحتاج سوى لضغط زرّ إطلاق النار”، مشيراً إلى أنّ ما ظهر في الفيديو يكشف عن “أشهر من العمل والتحضير لمراقبة بقعة الهدف بشكل كامل بما تحويه من سفينة الحفر وسفينة الانتاج والمنصة والقطع الإسرائيلية”.
وأكّد العميد أبي نادر أنّ “الإحداثيات الدقيقة، وقياس المسافة، ومعرفة نوع الهدف ورصد طبيعة حركة الهدف، كلّ هذه تشكّل النقاط الرئيسية لعملية الإطلاق الناجحة”، كما أوضح أنّ “الإنجاز العسكري مرتبط أيضاً بالكاميرا الحرارية التي استطاعت أن تلتقط على مسافة 90 كيلومتر البصمة الحرارية للسفن والمنصات”.
وتساءل العميد أبي نادر عما إذا كانت “الكاميرا هي تلك التي تكون ملتصقة بالصاروخ؟”، أم أنّ “لديها جهاز أو عنصر مساعد؟”، موضحاً أنّ “تقدير العدوّ اليوم يذهب باتجاه امتلاك حزب الله منظومة متكاملة من الرصد والمراقبة والتصدي العسكري البحري، تستطيع أن تطال العمق الحيوي للاحتلال بمدىً يصل إلى 90 كلم”.
المعطيات الاستخبارية
أظهرت المقاطع المنشورة قدرة المقاومة على رصد بعيد وواسع النطاق للمياه الإقليمية والدولية، وفرض سيطرة استخباراتية كاملة فضلاً عن رصد عمق المياه الفلسطينية المحتلة، وبشكل مستمرّ ودائم.
كما أظهر إنتاج الفيديو في اليوم نفسه من رصد المنطقة البحرية، قدرةً على الاتصال الفعال والسريع وإرسال المعلومات من منطقة عمليات سرية تعود إلى وحدة سرية في المقاومة، وهي الوحدة البحرية، إلى استوديو تصميم وتنفيذ العمل التابع للإعلام الحربي، ثمّ بثه على الإعلام في وقت حساس ودقيق ومقصود بعناية.
وفي هذا السياق، أشار محلل الميادين للشؤون الإسرائيلية عباس إسماعيل، خلال مقابلة ضمن برنامج المشهدية، إلى أنّ هذا الفيديو “يدخل في وعي صناع القرار الإسرائيلي مدى خطورة الوضع، ويثبت صدقية التهديدات التي أطلقتها المقاومة وقيادتها”، ويؤكّد أنّ كلّ ما قالته المقاومة وتقوله منذ سنوات حول قدراتها العسكرية البحرية هي ذات مصداقية عالية، ويقوّي موقف معادلات الردع التي تفرضها المقاومة.
المعطيات الأمنية
تعتبر ظروف عمل المقاومة الإسلامية في لبنان دقيقة جداً، إذ تحتاج المقاومة لضمان فعالية ردعها إلى الحفاظ على درجة عالية من السرية تمنع عدوها من الإحاطة بقدراتها وإمكاناتها.
يحتاج هذا المستوى من السرية إلى مواجهة محاولات التجسس الإسرائيلي عبر العملاء براً وعبر الرصد البحري والرصد الجوي، كما يحتاج إلى مواجهة مختلف أجهزة الاستخبارات وأبرزها السي آي إيه والموساد و أي أجهزة أخرى متعاونة، فضلاً عن مواجهة رصد قوات اليونيفل التي تعمل على كشف نقاط المقاومة بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي في أحيان كثيرة. وبالإضافة إلى هذه العوامل، تبرز العوامل التقنية، وعوامل البئية الاجتماعية والسياسية.
رسالة سياسية بليغة
سواءً في تاريخ نشر الفيديو، أم في تواريخ الرصد التي تظهر في الفيديو، جاءت لحظة نشره في سياق سياسيّ حساس مرتبط بالتفاوض مع الاحتلال عبر المنسق الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، الذي وصل إلى بيروت بعد ساعات من انتشاره، والتقى بالمسؤولين اللبنانيين على وقع تفاعلات المشاهد المنشورة وردود الفعل عليها، مما اضطرّه مباشرة إلى التصريح بأنّ “الفيديو قد يسبب تصلباً في الموقف الإسرائيلي”.
وخلال زيارة بايدن الأخيرة إلى المنطقة، أظهر البيان الرسمي الختامي أنّ هناك حرصاً من الولايات المتحدة على التوصل إلى اتفاق، وهنا يصبح الضغط اللبناني على الاحتلال في سياق فعال جداً، ويضع في يد لبنان وحكومته أوراق قوة لها اعتبارات إقليمية ودولية.
وبهذا الخصوص، أكّد منذر سليمان أنّ “إمدادات الطاقة التي تحتاجها الولايات المتحدة لأوروبا قد تجبرها أن تتدخل للضغط على الإسرائيلي لتجنّب مواجهة تعكّر أجواء المنطقة وتفاقم التوتر، والتوصل إلى اتفاق مناسب مع الطرف اللبناني”، لافتاً في نفس الوقت إلى أنّ الولايات المتحدة “لا ترغب بالتسليم لانتصار المعسكر الآخر والإقرار بأنّ لبنان فرض أجندته، وأنّه يستطيع التعافي اقتصادياً في ظلّ احتفاظه بقوته وموقفه”.
الصمت الإعلامي الإسرائيلي يعكس “الصدمة”
بدوره، أكّد ناصر لحام، مدير مكتب الميادين في فلسطين، أنّ “الصمت الإعلامي الإسرائيلي الذي أعقب نشر الفيديو مباشرة، يشير بوضوح إلى أنهم لم يتوقعوا أن يرفع السيد نصرالله السقف في المواجهة إلى هذا الحدّ”، متسائلاً ما إذا كان “يائير لابيد، الذي يأتي من خلفية صحافية، يجرؤ على مواجهة مع حزب الله قبيل فترة انتخابات”، مضيفاً: “هل يراهن لابيد بكلّ شيء فقط من أجل التنقيب في حقل كاريش؟”.
وأوضح لحام أنّ “بنك الأهداف المرّة جاهز عند حزب الله، والأهداف واضحة، أمّا إسرائيل لا تبدو أهدافها واضحة”، مؤكداً أنّ التهديد يحدق بالمنصات الإسرائيلية بشكل حقيقي هذه المرة، وأنه في “ظلّ التوتّر العالمي على مستوى حرب البحار من بحر الصين إلى هرمز إلى آزوف والبحر الأسود”، يجب قراءة أي معركة بحرية بين لبنان والاحتلال ضمن سياقها العالمي ومؤثراتها العالمية.
ويأتي ذلك في سياق ما كشفه الإعلام الإسرائيلي من اتصال بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير حرب الاحتلال بيني غانتس، في خرق للأعراف الدبلوماسية في التعامل البروتوكولي، ما قد يشير إلى حساسية الوضع العسكري المتوتر وطبيعة ارتداداته الدولية، وإلى الخشية الأميركية من تفاقم الوضع في المنطقة.
وبالتالي، يمكن القول إنّ هذا الفيديو، الذي يعرض بعض قدرات حزب الله العسكرية البحرية ويهدّد بشكل مباشر منصات وسفناً إسرائيلية، يشكّل رفعاً لمستوى المواجهة مع الاحتلال وحشراً له في زاوية تفضح قدرته الفعلية على مواجهة المقاومة وتحدّيها في قوّتها، انطلاقاً من دراسة المقاومة الوضع السياسي في الداخل الإسرائيلي وفي المنطقة والعالم، تدفع الاحتلال مرغماً نحو الإقرار بحقوق لبنان في مياهه وغازه وثرواته الطبيعية.