لُعب الوقت الأصلي، ثم آخر إضافي، تلته ضربات ترجيح. لم ينتهِ النهائي المثير بين مصر والسنغال قبل المرور بهذه المراحل الشاقة كافة من أجل حسم لقب القارة السمراء، وتحديد هوية فارسها المغوار الذي خطف اللقب من قلب الكاميرون، بعدما تمكَّن “ساديو ماني” مهاجم ليفربول الإنجليزي والمنتخب السنغالي أخيرا من التفوُّق على “محمد أبو جبل” حارس عرين الفراعنة، مُسجِّلا ضربة الترجيح الأخيرة، ومُعلِنا الأفراح في داكار، التي ظفرت للمرة الأولى بكأس أفريقيا للأمم بعد أن تمنَّعت السمراء مرَّات ومرَّات.
باحت هذه النسخة الأخيرة من كأس الأمم الأفريقية بالعديد من الأسرار، وقدَّمت الكثير من المفاجآت، بداية من منتخب جزر القمر الذي قدَّم أداء بطوليا، وانتهاء بخروج مبكر وغريب للمنتخب الجزائري حامل اللقب الذي صُنِّف على أنه أهم المرشحين للفوز بالكأس. بيد أن هذه النسخة كرَّرت في الوقت ذاته بعض السيناريوهات المتعارف عليها، التي يحفظها المتابع الكروي عن ظهر قلب. على سبيل المثال، وكعادته، لم يفز المغرب هذه المرة أيضا بالكأس، وخرج مبكرا من المنافسة كما حدث في مناسبات سابقة رغم ترسانة النجوم التي يمتلكها، وهو ما يجعلنا نتساءل: لماذا يفشل المغرب دوما في حصد الكأس العزيزة رغم ترشيحه مرارا وتكرارا؟
العالمية بمفردها لا تصنع مجدا
في الثامن من فبراير/شباط سنة 1957، بالعاصمة السودانية الخرطوم، أعلنت 4 دول عن تأسيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم، هذه الدول هي السودان، مستضيف الحدث، ومصر وإثيوبيا وجنوب أفريقيا. وبعد ذلك مباشرة، وفي السنة نفسها، نظَّم الاتحاد أول مسابقة قارية هي كأس الأمم الأفريقية التي فاز بها المنتخب المصري بعد أن شارك في المسابقة رفقة كلٍّ من السودان وإثيوبيا إثر استبعاد جنوب أفريقيا التي كانت غارقة في الفصل العنصري.
لم يشارك المغرب في تأسيس الاتحاد الأفريقي، ولم يشارك طبعا في كأس أفريقيا للأمم، رغم امتلاكه تركيبة عناصر قوية جدا تزعَّمها الجوهرة السوداء “العربي بن مبارك”، و”البطاش” أحد أفضل المدافعين في الدوري الفرنسي حينها، و”حسن أقصبي” الذي ما زال يحتل حتى كتابة هذه السطور المركز 11 في ترتيب هدافي الدوري الفرنسي عبر العصور برصيد 173 هدفا.
تجلَّت هذه المفارقة في الاهتمام بالمسابقات العالمية على حسب المسابقات القارية في مشاركة المغرب بكأس العالم الذي أُقيم بالمكسيك سنة 1970، قبل مشاركته في كأس الأمم الأفريقية، إذ تعود أول مشاركة مغربية في البطولة القارية لسنة 1972. فسَّر لنا ذلك “معاذ كنينيس”، الصحفي المهتم بتاريخ كرة القدم المغربية، في حديثه لـ “ميدان” بسياسات الدولة المغربية حينها، التي رأت حينئذ أن المشاركة في المسابقات الدولية أهم وأفضل من لعب المسابقات القارية.
على كل حال، انطلقت المشاركة الفعالة للمنتخب المغربي في كأس أفريقيا للأمم سنة 1976، حينما تمكَّن، بقيادة “أحمد فرس”، أحد أهم اللاعبين في تاريخ المملكة، من التتويج باللقب الوحيد حتى الآن. ثمَّ توقفت مسيرة “أسود الأطلس” حيث انطلقت، وسجَّل في البطولة مُجملا حصيلة لا تتناسب مع مكانته، فمن أصل 33 نسخة، لم يتأهل المغرب إلى “الكان” سوى في 18 مناسبة، خرج في غالبيتها من الدور الأول، وتأهل إلى نصف النهائي في 3 مناسبات كلها في العهد الذي كان فيه التأهل من دور المجموعات يعني الحضور في المربع الذهبي مباشرة، فيما تأهل مرة واحدة إلى النهائي في كأس أفريقيا 2004 الذي انهزم فيه أمام المنتخب التونسي.
لم يفز المنتخب المغربي طيلة تاريخه إلا بثلاث مباريات في دور خروج المغلوب، إذ فاز في مباراتين في كأس أفريقيا بتونس (في دورَيْ الربع ثم النصف)، والمرة الثالثة أمام مالاوي في “كان” الكاميرون الذي اختُتم مؤخرا، حيث خرج لاحقا من الدور ربع النهائي أمام المنتخب المصري. “لا يمكن بحال اعتبار منتخبنا الوطني من صفوة المنتخبات المرشحة للظفر بكأس أفريقيا، نحن لسنا مصر أو الكاميرون أو نيجيريا أو حتى غانا، تاريخنا في هذه المسابقة هو أقل من منتخبات أقل قوة مثل الكونغو الديمقراطية وزامبيا وبوركينا فاسو حاليا”، كان هذا تعليق معاذ كنينس لـ “ميدان” حول حصيلة “أسود الأطلس” في الكان.
أكثر من مجرد “لعبة”
“عندما تختار بعض المنتخبات الأفريقية المغرب واجهة للاستعداد لبعض المنافسات الرياضية أو خوضها، فإننا نعمل على تيسير ذلك عبر تسهيل منح التأشيرات ومساعدتهم على الإعداد الجيد، نُفضِّل هنا أن تكون الملاعب مشغولة، وأن تُضَخ الأموال التي تخرج من ميزانية الاتحادات الوطنية لكرة القدم في الاقتصاد المغربي”.
بدأت القصة سنة 2008 بمدينة الصخيرات القريبة من العاصمة المغربية الرباط، حين أعلن المغرب عن انطلاق إستراتيجية التنمية السياحية المستدامة “رؤية 2020″، واتخذت المملكة حينئذ قرار الاستثمار في التظاهرات الرياضية العالمية والقارية بهدف إثبات حضور سياسي واقتصادي وثقافي قوي. وبدأ المغرب يُظهِر اهتماما كبيرا بتنظيم العديد من الملتقيات الرياضية كتنظيمه كأس العالم للأندية نسختَيْ 2013 و2014، بالإضافة إلى كأس أفريقيا للمحليين 2018، وبطولة العالم للجودو في السنة نفسها، بالإضافة إلى ذلك، تقدَّم المغرب بطلب تنظيم كأس العالم 2026 منافِسا الملف الثلاثي لكلٍّ من الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمكسيك، وها هو يُعلن تقديم ملف لتنظيم كأس العالم 2030.
ولأن المغرب يضع استضافة المسابقات الرياضية العالمية على رأس أولوياته، فإن الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم استثمرت الكثير في البنيات التحتية الرياضية، وبدأت نتائج هذا الاستثمار تؤتي أُكلها خلال التصفيات الأخيرة لكأس العالم قطر 2022، حينما اعتبر الاتحاد الأفريقي لكرة القدم أن ملاعب كلٍّ من جيبوتي ونيامي (النيجر) وواغاودوغو (بوركينا فاسو) وباماكو (مالي) غير صالحة لاستضافة المباريات، فاقترحت المملكة المغربية نفسها حلا بديلا، وجرت الاستضافة على ملاعب طنجة وأكادير ومراكش. من جانبه تمكَّن المغرب للأسباب نفسها من لعب جميع مبارياته الإقصائية على أرضه، وهو ما سهَّل عليه تزعُّم مجموعته بعد أن فاز في جميع المباريات.
حقَّقت هذه الإستراتيجية إفادة كبيرة للمغرب على مستويين، أولهما ترسيخ ريادته الأفريقية في جودة الملاعب والمنشآت الرياضية. وثانيهما، والأهم، دعم الرياضة للتحركات الدبلوماسية للمملكة التي عادت إلى الاتحاد الأفريقي سنة 2017، إذ تعمل الرباط على توطيد علاقاتها مع بلدان القارة للدفاع عن مصالحها في عدد من القضايا المصيرية على رأسها قضية الصحراء. وبجانب هذا الحضور الأفريقي الذي بات يحظى به المغرب داخل أفريقيا، بل وداخل الاتحاد الأفريقي لكرة القدم، تمكَّن “فوزي لقجع” رئيس الجامعة المغربية لكرة القدم ومايسترو هذا المشروع الدبلوماسي الرياضي من الحصول على مقعد داخل المكتب التنفيذي للفيفا، ناهيك بعلاقته الجيدة مع “جياني إنفانتينو” رئيس الاتحاد الدولي للعبة.
“أنا أحاول صنع علاقات جيدة مع الجميع، أجلس أحيانا مع الهولنديين، وأحيانا مع الفرنسيين ومع المغاربة الإسبان وأيضا مع المغاربة، أقصد أولئك القادمين من المغرب”.
رغم ترشيحه مرارا من طرف عدد من المتابعين لرفع كأس العالم الغائب عن خزانته منذ سنة 1966، فإن المنتخب الإنجليزي ظلَّ عاجزا عن تحقيق أي إنجازات تُذكَر في هذه المسابقة العالمية للعبة يهتف الإنجليز نشوة بأنهم هم مَن اخترعوها. يتذكَّر الجميع الجيل الذي ضمَّ نجوما كبارا مثل “ديفيد بيكهام” و”ستيفن جيرارد” و”فرانك لامبارد” وغيرهم الكثير، ولكن رغم ثقل هذه المواهب فإنها لم تُقدِّم شيئا للمنتخب الإنجليزي. أما السبب الرئيسي في ذلك من وجهة نظر بعض الخبراء، فكان عدم وجود تواصل بين لاعبي الفِرَق الثلاثة الأكبر حينها، ليفربول وتشيلسي ومانشستر يونايتد، بسبب تأثُّر أجواء المعسكر بالمنافسة الشرسة في الدوري الإنجليزي، وهذا ما اعترف به نجوم المنتخب حينها بأنفسهم. (8)
لا شك أن التواصل يساعد الفِرَق والمنتخبات والتجمعات البشرية عموما على خلق جو من التفاهم وتقليل الخلافات والنقاش في حالة اختلاف وجهات النظر، لكن لهذا التواصل شروط أهمها قدرة كل طرف على فهم الطرف الآخر، ولا يمكن لهذا الأمر أن يتحقَّق إذا لم يتواصل الجميع بلغة مشتركة. ففي بث مباشر له مع “رضا بنيس”، الصحفي السابق بقنوات “بي إن سبورت”، كشف “نبيل درار” لاعب المنتخب المغربي سابقا عن وجود مشكلات في التواصل بين لاعبي المنتخب، فلا يتكوَّن المعسكر المغربي من “لاعبين مغاربة”، بل من هولنديين وفرنسيين وإسبان وإن كانوا مغاربة في الأصل، وقد اختاروا تمثيل البلد الذي قَدِم منه آباؤهم رغم تلقي بعضهم عروضا من الدول التي وُلدوا فيها لحمل شاراتها.
بيد أن لكلٍّ من هؤلاء اللاعبين لغة وثقافة مختلفة، وقد لا يتحدَّث اللاعبان اللغة نفسها، وهذا الأمر وإن كان صعبا خارج الملعب، فهو أصعب بكثير داخله، إذ يحس كل لاعب نفسه معزولا في جزيرة نائية عن باقي زملائه. فمثلا، سنجد أن “رومان سايس”، قلب دفاع المغرب، لا يملك أي طريقة سهلة للتواصل مع “سفيان أمرابط” متوسط الميدان الدفاعي، ذلك لأن الأول يتحدث الفرنسية والإنجليزية، فيما يتكلم الثاني الريفية المحلية والهولندية، ومن ثمَّ فإن “سايس” لعله يجد سهولة أكبر في التواصل مع لاعبين من الفريق الخصم مثل غانا أو الكاميرون على التواصل مع زميل له داخل الملعب. (9)
وقد أشار المدرب البوسني للمنتخب المغربي “وحيد خاليلوزيتش” إلى هذا الأمر حينما صرَّح أن طاقمه التقني عليه الحديث بلغات مختلفة من أجل إيصال المعلومة للجميع. هذه المشكلة طبعا تُعتبر ثانوية مقارنة بالمشكلات التي خلقها الاختلاف الكبير في الخلفيات بين اللاعبين، فخلال الفترة الإعدادية لـ “كان” مصر 2019، فجَّر “عبد الرزاق حمد الله”، المحترف المغربي بالدوري السعودي، مفاجأة كبيرة. فبعد أن قرَّر ترك المعسكر الإعدادي للمنتخب بسبب خلافات مع زملائه، خرج بعد ذلك مُتهما “هيرفي رونار” المدرب السابق للمنتخب المغربي بالتعامل معه باحتقار، موضِّحا أنه لم يجد مكانا له داخل المنتخب لأنه لاعب محلي، وأن اللاعبين المحترفين (أي الذين وُلدوا وعاشوا في أوروبا) هم مَن يُقرَّبون ويُمنَحون الفرص، في حين يُتعامَل بظلم مع اللاعب المحلي.
خلقت هذه المشكلة بين حمد الله واللاعبين المحترفين جدلا كبيرا داخل المغرب، وازداد هذا الجدل بعد أن خرج خاليلوزيتش في بداية مهمته على رأس المنتخب بتصريح رأى فيه الكثيرون احتقارا للاعب المحلي حينما صرَّح قائلا: “عندما تُقارن لاعبا مثل حكيمي بلاعبين محليين، ستستنتج أن حكيمي يمارس كرة القدم فيما يمارس اللاعبون المحليون رياضة أخرى”. (11) وهذا التفضيل الذي ينتهجه جهاز الكرة للاعب الأوروبي، بغض النظر عن مستواه، على اللاعب المحلي وإن كان قد فاز بدوري أبطال أفريقيا (كما حدث مع لاعبي الوداد الرياضي سنة 2017) خلق الكثير من ردود الفعل. (12) كان ذلك أحد إخفاقات جهاز الكرة في المغرب، حسب الكاتب الصحفي الرياضي “يونس الخراشي”، الذي قال في تصريح لـ “ميدان” إن استبعاد عدد من اللاعبين المحليين في فترة توهُّجهم قاريا هو تقليص من حظوظ المنتخب المغربي في الفوز بكأس أفريقيا أو تحقيق نتائج جيدة على المستوى القاري.
أضاف “الخراشي”، في حديثه لـ “ميدان” حول أسباب عجز المغرب عن تحقيق أي إنجازات قارية، مُشيرا إلى عدة عوامل، أولها أن المنتخب غالبا ما يذهب للمنافسات بوجود مشكلات مرتبطة بالتشكيلة المستدعاة، كما حدث في هذه النسخة بعدم استدعاء “حكيم زياش” نجم تشيلسي الإنجليزي، و”نصير المزراوي” لاعب أياكس أمستردام الهولندي. وثانيها الدخول في هذه المنافسات دون حصول اللاعبين على الخبرة والمراس اللازمين لتجاوز الصعاب الأفريقية، مُعلِّقا: “نأخذ مثلا المنتخب المصري الشقيق، ففي كل مرة يشارك يظهر للجميع قدرته على الفوز باللقب بغض النظر عن الأجيال والأسماء والظروف، لقد لعبت مصر نهائيين من أصل ثلاثة، ويعتبرون ذلك فشلا، في وقت نحن في المغرب نعتبر الوصول إلى نهائي 2004 إنجازا قائما بذاته. من أجل الفوز بالكأس عليك توفير عدد من المقادير لوصفة الانتصار، نحن في كل نسخة نفتقد بعض المقادير الضرورية لتحقيق المطلوب”.
اعتبر الصحافي المغربي في ختام كلامه أن الإقصاء الأخير يُعَدُّ فشلا لجامعة الكرة في تدبير ملف المنتخب، ولذا فإن المراجعة والتغيير السبيلان الوحيدان لتحقيق نتائج أفضل، ذلك لأنه لا يمكن وضع مقادير الفشل نفسها في كل مرة وانتظار نتيجة مغايرة.
المصدر: الجزيرة