تُعدّ الألعاب الأولمبية واحدة من أسمى المسابقات التي ينتظرها الرياضيّون عاماً بعد عام، إذ يقضون سنوات من التعب والتدرّب لكي يصلوا إلى قمة المجد في مسيرتهم، إلى المسرح الذي سيسمح لهم أن يمثّلوا أمّة وبلاداً ينتمون إليها، حيث يواصلون التعب لسنوات من أجل حمل علم بلادهم في أكبر محفل رياضي، ولكن ذلك قد يُهدَم في لحظات، بإمضاء على ورقة “إذا كنتِ فرنسية وترتدين الحجاب”، فالمحجّبات ممنوعاتٌ من المشاركة تحت راية فرنسا بحجابهنّ.
تتغنّى فرنسا ببرج عاصمتها، برج إيفل، وتسعى دائماً إلى الظهور بصورة البلد المنفتح والذي يحتضن الجميع، لكن عندما يتعلّق الأمر بالحجاب والإسلام، ينطلق السياسيون المتطرّفون ويطرقون باب الإبداع في قراراتهم، التي لا يمكن القول عنها سوى إنها “عنصرية”، لا بل مفرطة بالتطرّف والتمييز والانحياز، ولكي تحافظ على أفكار “أقصى اليمين”، كان لا بدّ من إصدار قرار يمنع الرياضيات الفرنسيات من المنافسة في الألعاب الأولمبية باريس 2024، وهن يرتدين غطاء رأسهن، ليتحوّل الأمر من “قضية الحجاب” إلى “حرب على الحجاب”.
سنوات من التضييق على الحجاب
قبل الحديث عن القرار المرتبط بالألعاب الأولمبية، يمكننا العودة إلى العام 1989، عندما شهدت فرنسا جدلاً كبيراً، بعدما فصل مدير مدرسة في إحدى الضواحي 3 طالبات، بسبب رفضهن خلع الحجاب في الفصل، يومها لم يكن مجلس الدولة يحظر ارتداء الطلاب لما يسمّونه “رموزاً دينية”.
“علمانيّة” فرنسا المصطنعة بدأت تتجلّى بصورة مختلفة في العام 2004، عندما عُمل بقانون “لجنة التفكير في تطبيق مبدأ العلمانية”، إذ أُقرّ قانون الرموز الدينية في المدارس، وأدى إلى حظر ارتداء الرموز أو الملابس التي يعبّر بها الطلاب ظاهرياً عن انتماء ديني.
وفي عام 2011 صدر قانون لحظر غطاء الوجه كـ “البرقع والنقاب” في الأماكن العامة.
وفي حزيران/يونيو 2023، أيّد مجلس الدولة قراراً أصدره في عام 2016، قضى “أنّ اتحاد كرة القدم الفرنسي لا يحتاج إلى تغيير سياسته القائمة على التمييز التي تمنع فعلياً اللاعبات المسلمات اللواتي يرتدين الحجاب من المشاركة في مباريات كرة القدم التنافسية”.
وفي العام نفسه، قرّر وزير التربية الفرنسي آنذاك، غابرييل أتال، حظر ارتداء العباءة والقمصان الطويلة في المؤسسات التعليمية في بلاده لأنّها تعبّر عن “انتماء ديني في بيئة دراسيّة” بحسب قوله، في ما يُعدّ امتداداً لقانون عام 2004.
حتى جاء القرار الأخير من لاعبة التنس السابقة ووزيرة الرياضة الفرنسية الحالية، أميلي أوديا كاستيرا، والذي يقضي بأنّ “الفريق الأولمبي الفرنسي، باعتباره مؤسسة تمثّل الجمهور الفرنسي ويتمّ تمويلها منه، هو مقيّد بمبدأ العلمانية” لذلك الحجاب ممنوع.
وقالت “هذا يعني الالتزام بالحياد المطلق في الخدمات العامة. منتخب فرنسا لن يرتدي الحجاب”.
لكن الجدل الواسع سيكون عندما تأتي رياضيّات من دول أخرى ويلعبن بحجابهنّ، بينما الرياضيّات الفرنسيات ممنوعات من ذلك، فبحسب حقوقيّين، يُعدّ هذا الأمر “تمييزاً بحقّ اللاعبات الفرنسيات”.
منظّمة العفو الدولية تردّ على “عنصرية” فرنسا
نشرت منظّمة العفو الدولية بعد قرار فرنسا تقريراً مفصّلاً عن الانتهاكات التي تمارسها السلطات الفرنسية بحقّ الرياضيّات في البلاد. وفي التقرير الذي نُشر قبل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس، يُعدُّ هذا الأمر انتهاكاً للقوانين الدولية لحقوق الإنسان، ويفضح نفاق السلطات الفرنسية القائم على التمييز وضعف اللجنة الأولمبية الدولية وجُبْنها.
ويبيّن التقرير الذي حمل عنوان “لم نَعُد نستطيع التنفّس، وحتى الألعاب الرياضية لم نَعُد نستطيع ممارستها”، انتهاكات الحقوق الإنسانية للنساء والفتيات المسلمات بحظر ارتداء الحجاب في الألعاب الرياضيّة في فرنسا، وتفاصيل التأثير المدمّر لحظر ارتداء الحجاب على النساء والفتيات المسلمات على جميع مستويات الرياضة الفرنسية.
وقالت الباحثة في شؤون حقوق المرأة في أوروبا بمنظمة العفو الدولية، آنا بلوس “إنّ منع اللاعبات الرياضيّات الفرنسيات اللواتي يرتدين الحجاب من المنافسة في الألعاب الأولمبية والبارالمبية يجعل من الادعاءات بأنّ أولمبياد باريس 2024 هو أوّل أولمبياد يكفل المساواة بين الجنسين موضع سخرية، ويعرِّي ما تنطوي عليه المشاركة الرياضيّة في فرنسا من تمييز عنصري قائم على النوع الاجتماعي”.
وأضافت بلوس “كما أن القواعد التمييزية التي تنظّم ما يجب أن ترتديه النساء تشكّل انتهاكاً للحقوق الإنسانية للنساء والفتيات المسلمات، ومن شأنها أن تُحدث تأثيراً مدمّراً على مشاركتهن في الرياضة، الأمر الذي يقوِّض الجهود المبذولة لجعل الرياضة أكثر شمولية والمشاركة فيها أكثر يُسراً”.
وبحسب منظّمة العفو الدولية فقد خلق حظر ارتداء الحجاب في عدة رياضات في فرنسا حالاً لا يمكن تبريرها، إذ تنتهك الدولة المستضيفة للألعاب الأولمبية (بين 26 تموز/يوليو و11 آب/أغسطس) عدداً من الالتزامات التي تنصّ عليها المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، والتي هي دولة طرف فيها، فضلاً عن الالتزامات والقيَم المنصوص عليها في الأُطر القانونية لحقوق الإنسان الخاصة باللجنة الأولمبية الدولية.
“نفاق” اللجنة الأولمبية الدولية.. وجهان لعملة واحدة
عندما وصل الأمر إلى اللجنة الأولمبية الدولية، مباشرة كان الردّ حاضراً للتهرّب والانسحاب، فهي لا تمانع كلّ القوانين، إذ تمنع الرياضيّين الروس من المشاركة بسبب الحرب على أوكرانيا، وتسمح لإسرائيليين بالمشاركة على الرغم من الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في غزة، لذلك فإنها لن تتدخّل في الأمر.
مطالبات كثيرة رُفعت للجنة ليأتي الردّ بأنّ إلغاء الحظر المفروض على اللاعبات الرياضيّات اللواتي يرتدين الحجاب في الأولمبياد وعلى جميع مستويات الرياضة، ليس من شأنها وهو خارج نطاق اختصاص الحركة الأولمبية، كما ادّعت أن “الحرية الدينية تحمل تفسيرات مختلفة لدى الدول المختلفة”. ولم يأتِ ردّ اللجنة الأولمبية الدولية على ذكر حقوق أخرى انتُهكت من جرّاء الحظر، من قبيل حرية التعبير وحرية الحصول على الرعاية الصحية.
اللجنة التي تتهرّب من التدخّل في هذا القرار، كانت قد قالت سابقاً وأعلنت أن الرياضيين سيكونون أحراراً في “ارتداء الحجاب أو أيّ لباس ديني أو ثقافي آخر” في قرية الرياضيّين للألعاب الأولمبية في باريس 2024 من دون أيّ قيود، وذلك لأنّ “قواعد اللجنة الأولمبية الدولية هي التي تطبّق على القرية الأولمبية” التي يقيم فيها الرياضيّون المشاركون.
ونقلت وكالة “رويترز” عن متحدّث باسم اللجنة الأولمبية الدولية قوله إنه “عندما يتعلّق الأمر بالمسابقات، فإن القواعد التي تضعها الاتحادات الدولية المعنية (بكلّ رياضة) هي التي تُطبّق”، مثلاً إذا أخذنا المبارزة كمثال، فإنّ اتحاد المبارزة العالمي هو من يقرّر لا الوزارات الفرنسية ولا حتى فرنسا إن كان يسمح بارتداء الحجاب أم لا؛ لكنّ “المستعمر” الذي خسر سمعته والأراضي بعد نهبها، أصبح لا يملك سلطة إلّا في نطاق حدوده الجغرافية.
وفي تعليق منظّمة العفو على ردّ للجنة الأولمبية قالت “إنّ ردّ اللجنة الأولمبية الدولية على الرسالة المشتركة التي تطالب برفع الحظر المفروض على ارتداء الحجاب غير كافٍ وينمّ عن عدم الاكتراث”.
شكّلت هذه القضة جدلاً في الأيام الأخيرة التي سبقت انطلاق الألعاب، لكنها ليست القضية الوحيدة التي تشغل الشارع الفرنسي، فهناك
أصوات كثيرة تعلو حول تلوّث نهر “السين” الذي ستقام فيه مسابقات السباحة المفتوحة والخطر الذي قد يسبّبه على صحة وسلامة السبّاحين.
كما أن السماح للرياضيّين الروس والبيلاروس باللعب تحت راية محايدة من دون اللعب تحت راية بلادهم من الأمور التي تلقى اعتراضاً أيضاً وجدلاً، في الوقت الذي “يسرح ويمرح” فيه الرياضيّون من أوكرانيا وأولئك القادمون تحت “راية الاحتلال الإسرائيلي”، حيث سُجّلت اعتراضات على الحرب في غزة والسماح بمشاركة إسرائيليين في المسابقات، رغم المطالبات بمنعهم، علماً أن بعضهم جنود في “الجيش”.
اللجنة الأولمبية التي ترفع شعارات منافقة “السلام والمساواة” وغيرها، لم تنصر الرياضيّات المحجّبات، وجاء فيما يخصّ القضية الفلسطينية والإبادة الجماعية في غزة على لسان رئيس لجنة التنسيق التابعة للجنة الأولمبية الدولية لباريس 2024، بيير أوليفييه بيكرز ـــــ فيوجانت “من غير الوارد تصوّر فرض عقوبات على إسرائيل خلال الألعاب الأولمبية بسبب حربها في غزة”، فيما تماهى وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورن، مع الموقف نفسه قائلاً إنّ الرياضيّين الإسرائيليين “مرحّب بهم في فرنسا”.