فكرة جميلة أتحف بها الفنان السوري غيلان الصفدي (1977) فضاء الفن البيروتي بمعرضه “لكل طاولة حكاية” (Every Table Has a Story) في غاليري Art on 56th في الجميزة ببيروت، يستشرف بواسطتها مروحة الذكريات المحتملة لكل إنسان مع طاولته، أو مع طاولة في مكان ما.
فكرة الفنان وردت في سياق سعيه الدائم للتطوير، والتغيير، والبحث عن الجديد في مجال الفنون، ولطالما عبّر عن ذلك في إطلالاته العديدة على الجمهور، إن عبر معارضه الخاصة، أم مشاركته بمعارض جامعة كثيرة، وسواها من وسائل.
لوحات عديدة انتشرت على جدران الغاليري، طابعها تلاوين متماوجة، وأشخاصه رمزية غير مباشرة، تشير إلى الانسان بصورة عامة، لكي تبقى الفكرة موضوعية، غير محصورة ببعد ذاتي، ولكي تبقى فكرته شمولية إنسانية، وليست قائمة على تجربة ذاتية ضيقة.
يتحدث الصفدي عن موضوع طاولاته معتقداً بأن لكل شخص طاولته الخاصة، وفيها يضع خصوصياته وذكرياته، وبذلك يغوص الفنان عميقاً في البعد العاطفي للفن.
يوضح الصفدي غايات فكرة الطاولة، ومنبعها، والمعاني التي في مقاصده إزاءها، فهي لكل شخص في المقاهي، تحمل ذكريات ربما تحتضن أحلام الناس، وآخر كلمات قيلت في الوداع، مُؤْثِراً بذلك الطابع الحزين للذكريات كأنه يعكس مزاج بلده بما تعرّض له من مآسٍ.
ينتظر الصفدي باعتقاده شخصاً للحب على تلك الطاولات. لماذا يربط الفنانون الحب بالحزن غالباً، بينما هو منبع فرح وحياة؟ سؤال يجد إجابته في الموروث الكئيب المنتشر في ثقافة الضياع والاحباط، فــــ “حين يرحل الجميع تظلّ أرواحهم تداعب الذكريات”، وهي ذكريات ليست بالضرورة حزينة، لا بل قد تكون عامل استعادة للخروج زمن الحزن من الأحزان.
أعماله بغالبها مجموعات ناس، من أجناس مختلفة على ما توحي به أشكالهم المتماهية بين اللون والخط، تتمايز عن بعضها بالألوان المتنوعة، والأعداد المتباينة، ويبقي لكل لوحة خصوصية تحاكي العنوان، فإذا طاولة الكرة في ثناياها شكل كرة، يلتف حولها الناس، وإذا “الكاكتوس” عنصر يشكّل اللوحة ببعد إيحائي خاص، وهنا طاولة العشاء الأخير، وهناك طاولة الكأس الأخيرة، وطاولة كرة السحر، وطاولات متلاشية، وطاولة الغمام، وطاولة الشطرنج، وطاولة المركب، وكرة السحر، وطاولة الموسيقى.
في كل طاولة، يجتمع الناس، أحياناً على غاية معينة، وأحياناً لمجرد اللقاء لتظهر منه غايات غير مرتقبة، لذلك تتحوّل اللوحة إلى حالة تعبيرية عما آلت إليه الجَمْعة بصورة عفوية، كلعب الشطرنج، أو تبادل الانخاب، أو التبصير، أو بصورة مسبقة القصد كأن يتداعى الناس على لعبة ورق، أو الاستماع إلى الموسيقى.
في كل حالة، خصّ الصفدي اللوحة بالبعد الذي يمكن تكونه، عبر صورة له، فللشطرنج رموز الحصان، والبيدق، والفيل، والبرج، وللكرة شكلها على منصة، وللموسيقى نوتاتها، وهكذا حتى معظم اللوحات.
وفي شريط بالأسود والأبيض يغطي الجدار، وجوه وناس من مختلف الاتجاهات، والتعابير، يزدحم العالم فيها، وفي لوحة بالأسود والأبيض هي طاولات نموذجية لحالات انسانية متنوعة، تعبر عن حالات مختلفة من المشاعر والاحاسيس والمعاناة.
“لكل واحد منا طاولته الخاصة التي تشبهه، والتشبيه بين إنسان وطاولة يختزل معنى الانسان في ذكرياته، وعواطفه”، كما يعتقد الصفدي، ويرى أنه “في هذا المعرض بين الحشود وحياة الآخرين الملوّنة، أردت التحدّث عن قصص تلك الطاولات الصامتة والمنسية. طاولات تحمل كل اللحظات الحزينة، الفرحة، الحب، الموت ولعلها الحياة”.
ويستدرك: “ربما تجد طاولتك الخاصة في إحدى اللوحات، ربما أقول.. ربما”.
الفنانة نهى وادي محرم، منظِّمة المعرض، تجد في مسعى الصفدي بحثاً عن العواطف المتّصلة بالطاولة كمفهوم، وليس مجرد آلة أو جهاز. إنها جسر عبور يصلنا بتجاربنا الانسانية المشتركة، تقول وادي، وترى في محاولات الصفدي مع حميمية الطاولة ربطاً للانسان بطاولته، ومنها إلى ما يجمع بين الناس على المستوى العاطفي العام مثل الفرح، والحزن، والفَقْد، التي تحتويها يوميات هذه الأشياء.
كل طاولة بنظر وادي تكتنز رواية تشجع الناس لتلاقي اصداء حياتهم الصامتة التي تخبرها حكايات الفنان الصفدي.
كما ترى أن إبداعات الصفدي تمثل انعكاسات عميقة للمسائل المتعددة الأوجه، التي تشكل عالمنا المعاصر، وترى في مسعاه الاجتماعي والسياسي والبيئي والأبعاد الشخصية، روايات تترجم وقائع زمننا المضطرب.
ورغم تطوّر أساليبه على امتداد مشواره الفني، إلا أن الصفدي حافظ على تقديم الشخوص، سواء كانت منفردة في بورتريهات أو ضمن مجموعات.
للصفدي 4 معارض إفرادية بدءاً من عام 2012، كلها في بيروت، وله عشرات المشاركات في معارض كثيرة في بيروت، ولندن، وباريس، وألمانيا، واليابان، وفي مؤسسات منها معهد العالم العربي في باريس، و”لايتهاوس غاليري” في لندن، ومعرض البحرين للفنون.