لم تكن يدا سيرغي رحمانينوف (1873 – 1943) بحجمها الكبير، واللتين أتاحتا له أن يعزف بيد واحدة علامتين بينهما 13 بُعْداً، الدور الوحيد في أنه بات علامة فارقة في العزف على البيانو. بل إن موهبته التي برزت منذ سن الرابعة ضمن عائلة موسيقية، وتدعيمها معرفياً وتقنياً، كان لها الأثر الأكبر في التأسيس لإبداع هذا الموسيقي الروسي العملاق. أضف إلى ذلك حجم الأسى الذي تعرض له في حياته، والتعقيدات التي ألمَّت بتفاصيلها، ما دفعه لمواربتها إبداعياً، لا سيما مع قناعته التي ظل يرددها حتى آخر أيام حياته: “أؤلف الموسيقى لأنه يجب أن أعبّر عن مشاعري، تماماً كما أتحدث لأنني يجب أن أعطي لأفكاري ألفاظاً”.
منذ طفولته عانى رحمانينوف من غياب أبيه فاسيلي أركادَيفيتش الضابط المبذّر، والمقامر بشكل َمَرضي، وزير النساء، الذي باع معظم أملاكه تلبيةً لمغامراته، وترك عائلته في مهب الريح، فما كان من زوجته ليوبوف بيتروفنا بوتاكوفا إلا الانتقال إلى سان بطرسبرغ مع أولادها الستة حيث أن هناك شقة لم يبعها زوجها، وفي ذلك الوقت من عام 1883 بدأ رحمانينوف ذي العشر سنوات الدراسة أكاديمياً في المعهد الموسيقي للمدينة، بعد أن امتلك مهاراته الأساسية من والدته عازفة البيانو الماهرة، وأيضاً من المُدَرِّسة آنا أورناتسكايا التي استقدمها جده إلى نوفغورود وبقيت تعلِّمه حوالي 3 سنوات.
ازدادت طفولة الموسيقي الروسي تعقيداً بعد رحيل أبيه الذي تزامن أيضاً مع وفاة أخته بسبب الخنّاق، ورغم تدخُّل جدَّته لرعايته مع إخوته، إلا أن الظروف القاسية التي عايشها كانت سبباً بتراجعه دراسياً وموسيقياً حتى كاد يرسب في المعهد، لكنه انتقل في ما بعد إلى معهد موسكو الموسيقي ليدرس بإشراف الأستاذ الحازم نيكوالي زفيريف. في ربيع عام 1891 قدم أول فحص للبيانو ونجح بعلامة شرف، وتخرج عام 1892 بعمر الــ 19 ليصبح فناناً حراً بشكل رسمي.
انتكاسة أخرى أصابته بحزن عميق بعد تخرجه بسنة، تجسَّدت بوفاة صديقه تشايكوفسكي، فكتب مرثية موسيقية له وهي (الثلاثية رقم اثنان على مقام ري مينور) عبّر من خلالها أبلغ تعبير عن رهبة الإنسان تجاه الموت وقسوته، حتى أن الكثير من النقاد اعتبروا أن تلك المقطوعة بحزنها وكآبتها وحساسيتها التعبيرية تتفوق على رابعة تشايكوفسكي ورقصة المقابر لكامي سان صانص بضربة واحدة.
وبعد ذلك اشتغل رحمانينوف على سيمفونيته الأولى، محاولاً التخلُّص من تأثيرات شوبان وتشايكوفسكي عليه، لكن ما حصل أنه بعد عرضها الأول في آذار/مارس عام 1897، تم انتقادها بشكل لاذع من قبل الناقد والمؤلف الوطني سيزار تشوي الذي شبَّهها بالأوبئة العشرة التي أصابت مصر، مشيراً إلى أنها “قد تثير إعجاب سجناء من كونسرفتوار في الجحيم”.
ورغم عدم معرفة الأسباب الحقيقية وراء ذاك الرأي، إلا أن بعض التقديرات تشير إلى أن ألكسندر كالزونوف الذي قاد الأوركسترا كان ثملاً أثناء العرض ولم يمنح تلك السيمفونية الوقت الكافي من التدريب، وبعد هذا الانطباع السيئ أصيب رحمانينوف باكتئاب عميق دام 3 سنوات لم يؤلّف خلالها أي شيء تقريباً.
في تلك الفترة التي عاشها في موسكو تقرَّب كثيراً من ابنة عمّه ناتاليا ساتينا وهي عازفة بيانو أيضاً، لكن تعنُّت عائلته مع الكنيسة الأرثوذكسية تجاه زواج الأقارب شكَّل بالنسبة له سبباً إضافياً لتعزيز كآبته، ما اضطره بعد 3 سنوات من الخطوبة أن يلجأ إلى إحدى الكنائس العسكرية لإتمام مراسم زواجه.
ومن المواقف التي أثَّرت زيادةً على نفسية رحمانينوف وتركت أثراً سلبياً كبيراً عليه، أنه عندما زار عام 1900 الكاتب الروسي ليو تولستوي الذي كان سيرغي معجباً به كثيراً، وقام سيرغي بعزف أغنية “Fate”، التي كتبها في الفترة التي تلت سيمفونيته الأولى وكانت معتمدة على أول مقطعين من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، فكان تعليق تولستوي عليها: “هل هناك حقاً من يحتاج إلى هذه الموسيقى؟ يجب أن أقول لك كيف لم يعجبني أي شيء: بيتهوفن هو هراء وكذلك بوشكين وليرمونتوف“.
وقبل مغادرته قال له تولستوي: “سامحني إن جرحتك بتعليقاتي”. فرد عليه سيرغي: “كيف لتعليقك على موسيقاي أن يجرحني إن لم يجرحني أيضاً انتقادك لبيتهوفن؟”.
منذ ذلك التاريخ بدأ الموسيقي الروسي جلسات علاج مع الطبيب النفسي والموسيقي الهاوي نيكولاي دال، ليبدأ استعادة ثقته بنفسه، وخير دليل على ذلك إكماله بعد عام إحدى أهم وأشهر معزوفاته وهي كونشيرتو البيانو رقم 2 الذي أهداه للدكتور دال، وقد لاقت القطعة نجاحاً باهراً في عرضها الأول، لاسيما أن رحمانينوف قاد الأوركسترا بنفسه بعد تجربته المريرة السابقة.
وعلى ما يبدو أن حظ رحمانينوف كان أوفر مع رقم 2 ، ومن ذلك سيمفونيته الثانية ذات الحركات الأربع، والتي نافست سيمفونية بيتهوفن الثالثة والتاسعة في الطول الذي لا يخل بالوحدة والكمال، وعن طريقها وجد لنفسه صاحب “يد كبيرة” (big hand)، كما يلقبه البعض، مكاناً في مجال الأعمال الدسمة الجادة بجوار باخ وموتزارت وبيتهوفن وبرامز وفاغنر وكورساكوف وشوبرت وسيبليوس وشوستاكوفيتش، “ذلك المكان الذي لم يحصل عليه تماماً أستاذه وصديقه تشايكوفسكي رغم 6 سيمفونيات و10 أوبرات”، كما يقول البعض.
بعد ذاك النجاح كتب أيضاً سيمفونيته الثالثة المميزة، إلى جانب تأليفه 3 أوبرات، وقصتين موسيقيتين، فضلاً عن تلحينه لقصيدتي “الأجراس” و”جزيرة الموت”، وأيضاً “ليتورجيا القديس يوحنا الذهبي الفم”، و”ليلة السهر”، وغيرها الكثير مما ترك انطباعات جيدة لدى النقاد، زاد من ألقها الجولات التي بدأها في الولايات المتحدة عام 1909، وألَّف لهذه المناسبة كونشيرتو البيانو رقم 3.
لكنه لم يستطع الانفصال طويلاً عن وطنه رغم العروض الكثيرة في أميركا، فعاد إلى موسكو عام 1917 وشهد الثورة البلشفية التي غيرت مفهوم روسيا القيصرية بالنسبة إليه، خاصةً مع خسارته لأملاكه وطريقة حياته السابقة كأحد أفراد الطبقة البرجوازية فيها، وهذه الارتكاسة في إحساسه بالانتماء والهوية دفعته لأن يغادر بلاده مع زوجته وابنتيه، حاملاً معه بضعة مسودات من ضمنها مقطوعتين أوركستراليتين وأوبرا “مونا فانا” التي لم تكن مكتملة، ثم تلقى 3 عقود أميركية للعمل، وبعد رفضها جميعاً، توجه إلى نيويورك عام 1918، حيث قدم 40 حفلة موسيقية ووقع عقداً مع شركة “فيكتور توكينغ ماشين”.
وبسبب انشغاله بالحفلات تراجع إنتاجه التأليفي بشكل كبير، فكأنه بمغادرته روسيا ترك إلهامه فيها، ولم يعد إلى التأليف إلا عندما اشترى بيتاً في سويسرا على بحيرة لوسيرن، حيث قضى كل صيف هناك في الفترة الممتدة بين عامي 1932 و1939، وألّف أحد أهم أعماله لآلة البيانو وهو “تنويعات على لحن لباغانيني”، إلى جانب “تنويعات على لحن لشوبان” و”تنويعات على لحن لكوريللي”، إضافة إلى عدد من السوناتات، وأعمال لآلتي بيانو، وأخرى لأربعة أيدي وغيرها من الألحان التي جاءت تعبيراً عن تجربة الاغتراب عن روسيا والحنين إليها، التآلف والتضاد بين الدفء والصقيع، التحدد والضياع، الانتماء وعدم الالتزام، بعد ثورة كبرى وحربين عالميتين عايشها هذا الموسيقار الروسي، فكيف استطاع رحمانينوف التأليف بين هذه النقائض في نسيج واحد؟
يوضح الناقد كريم صياد أن النسيج البنائي لأعمال رحمانينوف يتكون من عنصرين أوليين هما التحدد والتفكك.
العنصر الأول الخاص بالتحدد ظهر في الألحان ذات البناء الميلودي الواضح، بمعنى أن اللحن قابل للاقتطاع والعزف بعيداً من بقية جسد العمل، مكتملٌ تماماً ولا يحتاج إلى محيط العمل المعقد، مع ذلك يتكامل معه إذا وضع في نسيجه.
بينما العنصر الثاني الخاص بالتفكك فيظهر في البنية المفككة للعمل والمكوَّن من وحدات صغرى، يقوم المؤلف بتنميتها والبناء عليها، حتى تصل إلى الذروة، فلا يشارك اللحن في بنائها، بل يظهر وسطها كجوهرة برّاقة صافية واضحة البناء وسطَ نقوش وطلاسم وزخارف معقدة لا تمثل بذاتها مبنًى محدداً، وهذا هو سر البناء الرحمانينوفي: لقد فتت العمل حول اللحن، بحيث يصنع مجرد وجود اللحن فيه دراما بنائية من نوع خاص جديد؛ بحيث يبحث التفكك عن التحدد، الجزيئات تبحث لها عن مركز تبلور، فإذا تبلورَ اللحن في بدء القطعة صار التفكك مشابهاً لعملية الفقد التي عاناها رحمانينوف خلال ابتعاده عن روسيا.
في أواخر عام 1942 وأثناء قيامه بجولة موسيقية، أصيب رحمانينوف بسرطان الجلد، وفي 17 شباط/فبراير عام 1943 كان أداؤه في جامعة تينيسي في مدينة نوكسفيل، وتضمن العرض السوناتا رقم 2 لشوبان التي تحتوي على الـMarch Funeral الشهيرة.
بعد هذا الحفل ساءت صحته لدرجة أنه اضطر للعودة إلى بيته في لوس أنجلوس، ليرحل عن دنيانا في 28 آذار/مارس عام 1943 في بيفرلي هيلز بكاليفورنيا بعد صراع مع المرض، وذلك قبل 4 أيام فقط من عيد ميلاده السبعين، بعدما آمن بأن “الموسيقى تكفي مدى الحياة، لكن العمر لا يكفي للموسيقى”.