قبل سنواتٍ قليلة، اقتحمت سنا أتاسي المشهد التشكيلي السوري فجأة. حطّت في الساحة بحاشية من النساء المحزونات، المتشحات بالسواد، كما لو أنها تعدّ وليمة أسى! ذلك ما تكشفه تلك الوجوه المتجاورة التي تختزن تاريخاً كاملاً من الوجع والفجيعة والانتظارات، وما علينا إلا أن ننبش ما تخبئه العيون في العمق، سواء تلك المفتوحة على اتساع أو المغمضة على جرح أو طعنة أو خيبة.
لعل أتاسي تكتب باللون سيرة حواء منذ أن غادرت الجّنة إلى جحيم اللحظة الراهنة بما يشبه المفكرة اليومية لوقائع مفزعة عاشتها عن كثب، وتالياً، فنحن إزاء امرأة بأحوال متبدلة تبعاً لمنسوب الفزع أو الأمل.
في معرضها “مرآة الروح” الذي استضافته غاليري “جوليا دمنا” في دمشق أمس السبت، تعمل سنا أتاسي على تأجيج العاطفة ونسف حيادية الوجوه، وذلك بتوطين جغرافيا المدن المهزومة او المحترقة أو الصقيعية كمرجعية لأحوال نسائها.
كأننا أمام “موناليزا” شرقية تبثّ أشواقها وألغازها وأسرارها وفقاً لتحديقة المتلقي نحو ما هو مضمر ومخبوء ومدهش، وذلك بتقشير السطوح أولاً، ثم الحفر تدريجياً إلى ما وراء النظرة الأولية، فوراء كل إشارة سنقع على سؤال معلّق، سؤال يتأرجح بين بهجة اللون من جهة، وظلال حركة العناصر من جهةٍ ثانية. وإذا ما بدا لوهلةٍ على أنه عزلة واندحار واستسلام، يتفتّح على حيوات متمرّدة تطيح قضبان الأقفاص التاريخية التي كبلتها طويلاً، وذلك بلمسة أنثوية تنساب على مهل من ثنايا الخطوط، فتضعنا في مهبّ احتمالات أخرى، تبزغ من جهةٍ ما في فضاء اللوحة. إذ لا تكفي القراءة الأولى لتلك الوجوه في تفكيك ما يقع خلفها من كمائن وفخاخ ورغبات.
هكذا تتناوب الأحاسيس بين فتنة الجمال النائم وتراجيديا اللحظة المتفجّرة بإشارة خاطفة تنطوي على مقدرة تعبيرية في تأجيج ما يبدو سكونياً ومحايداً وبرّانياً، فمشغل سنا أتاسي، في نهاية المطاف، مزيج من مقترحات البوب آرت والفنون البصرية والغرافيك والهندسة الصارمة في زخرفة فضاء اللوحة، ما يحيل إلى مرجعيات محليّة تكشف عنها الأزياء التي تكسو بها نساءها بما يشبه ألبوماً للذكريات، فوراء كل عين مغمضة منام أو كابوس أو رغبة مطفأة.
ما نلحظه في أعمال سنا أتاسي الجديدة (17 عملاً) إقحامها اللونين الأزرق والبنفسجي على فضاء اللوحة كإشارة على حدّة خسائرها وهزائمها واندحاراتها اليومية مستنجدةً بمفردات تعيد إليها بعض الدفء المفقود، خصوصاً تلك التي تحيل إلى الذاكرة الفلسطينية مثل “مفتاح القدس”، والتهجير، والزي الشعبي الفلسطيني، والزيتون، والبرتقال، حصتها من لحظة “غزّة” المشتعلة.
عدا المهارة البصرية والزهد اللوني في تأطير جدارياتها، تعمل هذه التشكيلية المتفرّدة على ملء الفراغات بإحالات درامية محتدمة هي خلاصة ذات ممزّقة بين ضفتي الحنين والأذى الروحي، فالصمت يشي بصرخات مكتومة وقلق مما كان ومما سيأتي من وقائع وحطام، من دون أن تخلَّ بتناغم الفضاء العام لجهة السيولة والصلابة وضبط الإيقاع.
هكذا تتناسل نساء سنا أتاسي عبر مرآة الذات في المقام الأول، في متوالية لونية لسيرة مضطربة لا تهدأ على حال. نساء مطعونات من الداخل فوق خشبة مهتزّة، أنثى تكمل سيرة الأخرى في مونولوجات رثائية تلخّص مصائر معلّقة فوق حبالٍ لا مرئية تضغط على الأعناق والأرواح بجرعات منضبطة فوق قماشةٍ واحدة.
في تلويحة أخيرة لكائناتها، سنقطف برتقالة من هنا، وتفاحة من هناك، وحفنة زيتون من يدٍ مفتوحة، نلتقط مفتاحاً يدلّ على بيوت الغائبين، ونغفو تحت ظلال شجرة زيتون ترفض أن تغادر جذورها العميقة مهما اشتد لهيب النار وحجم الكارثة.