الأطفال الذين شهدوا بأمّ القلب والعين مصرع ذويهم. الأطفال الذين ناموا واستيقظوا بين الجثث والأشلاء. الأطفال الذين رأوا أترابهم يتطايرون مزقاً أمام أعينهم.
الأطفال الذين عِوَض أن يطيِّروا طائرات ورقية ألقت عليهم الطائرات الحربية أطناناً من الصواريخ والمتفجرات، وحوّلت بيوتهم ومدارسهم ركاماً بركام. الأطفال الذين شاهدوا آباءهم يُذلّون ويُعذّبون مقيّدين عراةً في العراء.
الأطفال الذين هربوا من موت في الشمال إلى موت في الجنوب. الأطفال الذين صرخوا بأعلى الصوت، وضاعت أصواتهم في برّية العالم.
الأطفال الذين سبقوا أعمارهم وسبقهم الرصاص. الأطفال الذين مزّقت الطائرات والدبابات أحلامهم وألعابهم وكتبهم المدرسية.
الأطفال الذين يؤرخون أعمارهم بسنوات الحروب: حرب العام 2008، حرب العام 2014، حرب العام 2018، حرب العام 2021، وصولاً إلى حرب الإبادة العظمى.
الأطفال الذين كبروا قبل الأوان.
الأطفال الذين كلما شاهدناهم على الشاشات، وسمعنا كلامهم أذهلنا مستوى وعيهم وإدراكهم. الأطفال الذين نلمح في نظراتهم غضب الدنيا وحزن العالم كله.
الأطفال الذين يفضحون بعيونهم الحائرة نفاق “العالم المتحضّر” وأكذوبة “حقوق الإنسان”. الأطفال الذين يمحون بدمائهم ودموعهم كل الحبر الزائف الذي كُتبت به “القوانين الدولية” وشعارات “المنظمات الحقوقية”.
الأطفال الذين يقتاتون كسرات خبز وما تبقّى من علف الحيوانات في أمّة كانت تخشى يوماً أن يجوع فيها طائر أو عصفور.
الأطفال الذين شاهدوا آباءً يحملون أشلاء أبنائهم في أكياس بلاستيكية. الأطفال الذين ناموا في أحضان أمهاتهم واستيقظوا في عراء اليتم والصقيع. الأطفال الذين بُترَت أيديهم وأرجلهم، وأُطفئت أعينهم.
الأطفال الذين لم يصغِ العالم لنداءاتهم، ولا حانت منه التفاتة إلى عذاباتهم وأوجاعهم.
الأطفال الذين تركهم العالم فريسة لأعتى آلة عسكرية، وأوحش كيان عنصري في التاريخ المعاصر، بل انحاز إلى قاتلهم من دون أن يرفّ له جفن.
الأطفال الذين انطبعت في ذاكرتهم صور ذويهم وأترابهم الشهداء، وبيوتهم وأحيائهم المهدمة، وملاعب براءاتهم المدمرة.
الأطفال الذين عاشوا أهوالاً مضاعفة عمّا سمعوه من أهوال عاشها أسلافهم وأجدادهم في النكبة الأولى في العام 1948.
الأطفال الذين يقفون حفاةً عراةً في مواجهة دولة مسخ قامت على القتل والذبح والاقتلاع والتهجير.
الأطفال الذين يعلموننا الدرس تلو الآخر، منذ انتفاضة الحجارة إلى سيارة الإسعاف التي قضت فيها الطفلة هند وذووها شهداء برصاص الوحشية الإسرائيلية.
هؤلاء الأطفال الذين سبقوا أعمارهم، وكبروا تحت شمس الصبر والصمود والمقاومة، هل يتوقع أحد أنهم غداً سوف يمسحون ذاكراتهم كما نمسح ذاكرة الهاتف الجوال مثلاً؟ هل يمكن لعاقل أن يخال للحظة واحدة أنهم سوف ينسون ويتابعون حياتهم كأن شيئاً لم يكن؟ هل سوف يقبلون بكل الكلام الذي يُقال عن “السلام” و”حل الدولتين” وسواه من جعجعة بلا طحين؟ هل يتنازلون عن حقوقهم في أرضهم ووطنهم بعد كل الذي صار وجرى؟
واهم مَن يظنّ أن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني سوف تنتج جيلاً خانعاً مستسلماً راضياً بالفتات الذي يُعرَض عليه. واهمٌ ومشتبِهٌ مَن يعتقد أن الجيل الآتي سيكون أقل عزماً وصلابة، أو أقل غضباً وثورة.
هؤلاء الأطفال، ما لم ينالوا حقوقهم في العدالة والحرية والاستقلال لن ينفجروا فقط في وجه الاحتلال، بل في وجه العالم كله.
هؤلاء الأطفال هم جيل الغضب الآتي، وَمَن يَعِشْ يَرَ.
———
هناك،(*)
على مسافة دمعة أو رصاصة
تحت هدير الطائرات المعادية
حيث الأحلام ممنوعة من الصرف
والأمنيات سجينة.
أسمعُكَ تُغنّي:
بلادي، بلادي….
أرى صوتَك عصفوراً على شجرة العائلة.
هناك،
حيث لا قمر يُضيء ليلَ العاشقين
ولا نجمة صبحٍ سعيدة
عالياً تُطلقُ طائراتك الورقية
وكطفلٍ وديعٍ تغفو في حضنِ أُمّك
تحلمُ بأن تكبر غداً
تقتني كماناً وبندقية
خِلسةً تمضي تُغنّي وتُقاتل.
——-
(*) من قصيدة “شجرة العائلة” للكاتب.