قبل 15 عاماً، وصلتني المخطوطة الشعرية الأولى للأسير باسم خندقجي مهربةً من وراء القضبان ومن خلف الأسلاك بواسطة أسرته، وبمتابعة حثيثة من شقيقه يوسف الذي نذر جزءاً غير يسير من عمره ليكون صوتاً لأخيه الذي حكم عليه الاحتلال الإسرائيلي بثلاثة مؤبدات (تصوروا). تلك المخطوطة الشعرية كانت بداية معرفتي بباسم المناضل والأسير والشاعر (ثم الروائي)، وبقلمه الذي أبى الانصياع إلى إرادة السجّان الظالم، فكانت حروفه وكلماته بمنزلة أجنحة يحلّق بها في فضاء الحرية.
منذ القراءة الأولى للمخطوطة، أدركت أنني حيال كاتب موهوب لن تقوى قضبان السجن الإسرائيلي على وأد موهبته البادية للعيان. وبالتعاون مع الدار العربية للعلوم/ناشرون في بيروت ومنشورات الاختلاف في الجزائر، أصدرنا للشاعر باسم خندقجي كتابه الأوّل الذي اخترت له عنواناً هو “طقوس المرة الأولى” (2009)، وتشرّفت بكتابة مقدمته، ومنها: “هذا الشِّعر ليس كأي شعر نقرأه؛ إنه شعر معتقل يصل من وراء القضبان، يحكي قصة شعب مريرة في صراع مع عدو لا يرحم، ويمثّل نموذجاً مضيئاً لشعر المعتقل، ويؤكد، إلى جانب إبداعات أخرى، أن هؤلاء المعتقلين ليسوا مجرد أرقام في لوائح الاعتقال الإسرائيلية أو أعداد في وسائل الإعلام؛ إنهم بشر من لحم ودم ومشاعر لا تنطفئ، يتمسكون بالأمل، وبالحرية وبالحق الذي لا يموت. مع باسم الخندقجي، تتجلى الصورة المشرقة لنضال الشعب الفلسطيني ولمقاومته الخلاقة، فالموت لديهم هو موت الجسد فقط. أما الروح فهي تعلو وتسمو، يجسدها الشعراء في قصائد تحكي قصة الألم، إذ يمتزج دم الشهداء بحبر الشعراء، ليصل إلينا لحناً شجياً يؤكد كل يوم أن نبض الشباب ومقاومته هما السبيل الوحيد للخلاص”.
لم يمرّ وقت طويل حتى جاءتني المخطوطة الثانية التي صدرت أيضاً عن الدار العربية للعلوم/ناشرون. وكما في المرة الأولى، كتبتُ مقدمة الديوان الجديد الذي حمل عنوان “أنفاس قصيدة ليلية” (2013). واصل الشاعر الأسير تجربة شعرية فريدة من نوعها، لكونها تنمو وتتطور خلف الأسلاك.
ومما جاء في المقدمة التي حملت عنوان “شجرته خضراء دوماً”: “منذ البداية، يُعلن خندقجي انحيازه إلى لون معيّن من الشعر عبر استهلال مجموعته بمقتطف لمحمود درويش وآخر لفيدريكو غارسيا لوركا، كأنه يسلمنا المفاتيح اللازمة لدخول عالمه الشعري الغضّ النضر، حيث كل العالم معلّقٌ “على صرخته الصافية”. وميزة قصائد خندقجي أنها تأتينا من داخل الزنزانة، لكنها مع ذلك لا تقع أسيرة التقليدية المألوفة في شعر السجون والمعتقلات، ولا تتحول إلى خطاب سياسي مباشر على حساب الشروط الفنية والجمالية للقصيدة، إذ يلاحظ قارئ المجموعة أنها تنبض بكل إيقاعات الحياة وتنضح بكل ألوان الطيف، ما يؤشر إلى الفكر الحر الطليق الذي يحمله باسم القائل من خلال شعره للسجّان الإسرائيلي: صحيح أنك تستطيع اعتقال الشاعر، لكن هيهات لك اعتقال الشعر. تستطيع حبس الجسد، لكن أنّى لك حبس الروح.
وجاء في تلك المقدمة أيضاً: “تحت عنوان “سطوة”، نقرأ للشاعر باسم خندقجي قصيدة يقول فيها: “بعد كل هذه المنعطفات والصعود والهبوط وصدأ المرايا/ أصل الكرمل/ لا أنظرُ ورائي أو أمامي/ لا أهتزُّ أنا هنا/ سرمدُ اللحظة/ جليُّها لا أخشى أعمدة الملح أو أنْ أصيرها/ من نَصّي أَوقدُ ناري وأصلّي وأنبعثُ/ وأتقدم”. بهذه النكهة وبتلك الخصوصية تميّز شعر باسم خندقجي عن سواه من شعراء “الحركة الأسيرة” وكتّابها، ومنح تجربته موقعاً بين شعراء الحداثة الشعرية اليوم”.
تمرّ الأيام، تمرّ السنوات وباسم خلف القضبان، لكنه لا ينكسر ولا يلين، ينتقل من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، ويصدر تباعاً “مسك الكفاية: سيرة سيدة الظلال الحرة” (2014 الدار العربية للعلوم/ناشرون)، و”نرجس العزلة” (المكتبة الشعبية، نابلس 2017)، و”خسوف بدر الدين” (دار الآداب 2018)، وصولاً إلى “قناع بلون السماء” (دار الآداب 2023)، التي كان لي شرف توقيعها نيابةً عنه في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب (وقبلها بسنوات وقعت والصديق الكاتب طلال شتوي روايته “خسوف بدر الدين”).
وما إن وصلت رواية “قناع بلون السماء” إلى اللائحة الطويلة، ثم القصيرة، لجائزة البوكر للرواية العربية، لم يساورني أدنى شك في أن باسم سيفوز بالجائزة. أعرف قلمه جيداً وأعرف روحه المحلِّقة التي يبثّها بين سطوره وكلماته، مثلما أعرف أنه يستحق الجائزة وأكثر.
الفرح العارم الذي ساد وسائل التواصل بفوز باسم بالجائزة يدلّ على المكانة التي يحظى بها المقاومون الأسرى في سجون الاحتلال. والاهتمام الإعلامي الذي حظيت به الرواية يجعلنا نتمنى أن يكون مدخلاً للاهتمام بواقع الأسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي، وبينهم الكثير من الموهوبين أدباً وفناً وفكراً.
لتكن هذه الجائزة التي نالها مستحِقاً باسم خندقجي جرسَ تذكير بآلاف الأسرى القابعين في زنازين الاحتلال في ظل ظروف بالغة القسوة. ومع ذلك يبدعون أدباً وفكراً مثلما يبدعون في مواجهة السجّان، ولتكن أيضاً فرصة للاهتمام بأدب هؤلاء، لأن كثيرين منهم استطاعوا تخطي السجّان وإصدار أعمالهم الأدبية في هذه المدينة أو تلك.
غداً، حين يهدأ ضجيج الاحتفال وتخفت أضواء الفوز، أرجو وأتمنى أن يظل اسم باسم خندقجي حاضراً على الدوام في الصحافة والإعلام، وكذلك أسماء رفاقه الأسرى، وأن تبقى قضيتهم المحقة العادلة تحت الضوء، وصولاً إلى تحريرهم من براثن الأسر والاعتقال. لنتذكرهم كل يوم، لنذكّر بهم كلما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولنقل دائماً إنهم ليسوا مجرد أرقام؛ إنهم أدباء وشعراء وفنانون وحرفيون وعمّال وآباء وأبناء، حقهم علينا أن نكون صوتهم وكلمتهم وكتابهم المرفوع في كل يمين.