كلما فكّرتُ بفلسطين وبسواها من مطارح الوجع العربي – راودتني علامات الاستفهام، متى نعمل على أنسنة قضايانا وإخراجها من حيّز الأسطورة إلى حيّز الواقع؟ متى نضع الصورة الفولاذية جانباً ونقدّم “قضية العرب المركزية” (هل حقاً ما زالت قضيتهم) إلى العالم بوصفها قضية إنسانية أولاً إلى جانب أبعادها الأخرى القومية والوطنية والدينية؟ ما هو دورنا ككتّاب وشعراء وإعلاميين؟ كيف نحرّر نصّنا الفلسطيني (وما نكتبه عن فلسطين) من البلاغة والإنشاء والرطانة؟ ألا يكون الهمس العميق أحياناً أكثر تأثيراً من الزعيق الأجوف؟ وكيف نبني نصّاً إنسانيا متماسكاً، واضحاً وجلياً، يصل إلى كلّ الناس في رياح الأرض الأربع، خصوصاً الآن، حيث تتعالى الأصوات المتضامنة مع فلسطين، ويرفرف العلم الفلسطيني في معظم مدن العالم.
كلما وقعت على أعداد الشهداء مجرّد أرقام في مانشيتات الصحف وعناوين نشرات الأخبار ازددت حزناً وأسى، ورحت أتذكّر كم أنّ الموت مؤلم وباعث على الأسى واللوعة. إنه أبداً ليس بتلك البساطة التي تقدّمها إلينا وسائل الاعلام على اختلافها. وما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي من جرائم إبادة لا يجوز التعامل معه بوصفه خبراً إعلامياً حتى لو كان خبراً عاجلاً.
ليس الشهداء مجرّد خبر عاجل. إنهم أبناء وآباء وأمهات يتركون وراءهم أبناء وآباء وأمهات وأهلاً وأصدقاء، يخلّفون دمعاً وحسرات وذكريات استعادتها صعبة موجعة. الموت حقّ لكن الفراق صعب. هكذا تربينا ونشأنا. من حقّ الفلسطينيين مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بكلّ الوسائل المشروعة من الرصاصة إلى الحجر والكلمة، ومن حقّهم علينا ألّا نحولّهم مجرّد أعداد في قوائم الضحايا، أو موضوعاً للإنشاء المدرسي. علينا الذهاب أعمق من ذلك بكثير، وتسطير حكاياتهم وقصصهم بوصفهم بشراً أولاً، لهم أحلام وطموحات ومشاريع حياة، وعلينا تحويل تلك الحكايات والقصص إلى قصائد وأغنيات وروايات وأفلام روائية ووثائقية كي تبقى تلك التضحيات محفورة في الذاكرة والأذهان، وكي ننقلها إلى الأجيال اللاحقة لا بالتواتر، بل بالكلمة والصوت والصورة وكلّ أشكال التعبير المتاحة.
ليس الفلسطيني متسوّلاً على عتبات الأمم يستجدي عطفاً وتضامناً وشفقة. الفلسطيني صاحب حقّ ـــــ وصاحب الحقّ سلطان ـــــ التضامن مع الحقّ هو تضامن مع الذات أولاً وأخيراً. فلا يمنّن أحدٌ فلسطين بنصرتها والوقوف إلى جانبها، ولا يجعلنّها بعضنا مادة بديع وبيان، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. إنها قضية يومية، ينبغي ألّا تغيب لحظة عن أذهاننا وأدوات تعبيرنا، بل هي كما يقول الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله “امتحان يومي لضمير العالم”.
ولئن قال محمود درويش يوماً “من حقّ الفلسطيني أن يرى الأحمر في الوردة أيضاً وليس فقط في الدماء”. فمن حقّه علينا الآن أن نذهب عميقاً خلف دمه، نفتّش عن أولئك الباقين على قيد الحياة، نكتب قصصهم وحكاياتهم الإنسانية بتفاصيلها اليومية البسيطة والمعبّرة في آن، ونساهم بكلّ ما في وسعنا، في بلسمة الجراح وكفكفة الدموع، ومساعدة الأحياء في البقاء على قيد الأمل، نكتب لأبناء الشهداء وأمهاتهم، نكتب لهم وعنهم، ونخبر العالم أجمع أي جريمة مهولة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي البغيض.
يستحقّ الشهداء التكريم والتخليد والشعر والأنصاب. أشكال التكريم كثيرة ومتعددة ومنها الاحتفاء بأحبتهم الذين لا يزالون على قارعة الصبر والصمود والمقاومة وما بدّلوا تبديلاً.
ليس الفلسطيني بطلاً لكونه كائناً من حديد وفولاذ، بل لأنّ سرّ بطولته أو أسطورته كامن في إنسانيته الحقيقية، في تعلّقه بأرضه تعلّقَ كل إنسان بترابه، في عشقه أحياناً لشجرة زيتون عشقَ امرأة فاتنة، في إصراره على التعلّم والذهاب إلى المدرسة والجامعة رغم كل الحواجز والمصاعب والمعوّقات، وفي تمسّكه بالحياة بشتى ألوانها وأشكالها رغم قسوة الاحتلال الإسرائيلي وبطشه.
لنذهب إلى الفلسطيني في حياته اليومية، لنتذكّره أيضاً في غير أوقات الحروب والمجازر، لنقدّم صورته الإنسانية إلى العالم ليدرك أن هذا الشعب ليس فقط قوافل فدائيين تعشق الموت، ولا أمهات يسعدهن استشهاد فلذات أكبادهن، ولا فتية يستهويهم قذف الحجارة. إنه شعب لم يترك له العالم خياراً سوى أن يمتشق البندقية والسكين والحجر كي يتحرّر من براثن الاحتلال ويحيا أسوة بكلّ شعوب الأرض، بل لعله أكثر شعوب الأرض جدارة بالحرية والحياة.
ولا نغالي إذ نقول إن الشعب الفلسطيني من أكثر شعوب الأرض حبّاً للحياة وانتصاراً لها، وإلّا لكان استسلم منذ زمن طويل لآلة القتل الإسرائيلية المرعبة. ينتصر الفلسطيني للحياة بالموت دفاعاً عنها، وننتصر له بأن نؤنسن قضيته أكثر، نخرجها من التنميط والكليشيهات، نخاطب الرأي العام العالمي بما يؤثّر فيه ويبدّل في مواقفه التي يبنيها أحياناً كثيرة على التضليل الإسرائيلي الهائل بفعل آلة إعلامية مزوّرة وفتّاكة، والأهم أن تظلّ فلسطين حاضرة دوماً في وجداننا وثقافتنا وإعلامنا واهتمامنا حتى حين يتوقّف “إطلاق النار” لأنّ الاحتلال لم يتوقّف بعد، ولأنه لا يجوز لنا ربط تقدّم فلسطين إلى الصدارة بمنسوب الدم الفلسطيني.
ولعلها الآن واحدة من أكثر الفرص المتاحة أمامنا كي نوصل الصوت الفلسطيني إلى العالم أجمع، بفعل صحوة الضمير التي أصابت الكثير من الشباب والطلاب على امتداد المعمورة، ولنقدّم لهم صورة الفلسطيني الإنسان، المقاوم ولكن أيضاً الطالب والمثقف والفلاح والمزارع والعاشق. باختصار الإنسان بكلّ حالاته وصفاته، ولا نكتفي بأسطرته وتصويره بطلاً فولاذياً لا ينازع، مع كامل التقدير والاحترام لبطولاته وتضحياته التي لم يسبق لها مثيل.
من مقدمة إبراهيم نصر الله لكتابي “هوى فلسطين”: “في زمن التأتأة وارتجاف الكلام أمام سطوع الحقيقة، تبدو الكلمات أكثر أهمية من الخبز! وقد أصبح الاكتفاء بنصف المعدة وبربعها وبعُشرها معادلة المستلبين للتمسّك بحياة بلا طعم، ويوم لا يشير إلى الغد، وجباه منزوعة الكرامة”.
*
لا تعتذرْ عمّا فعلت(*)
قُمْ في صيحةِ الديكِ، في صوتِ المؤذن
تَبَسَّمْ واكتبْ قصيدتَكَ.
في الصباحِ لكَ أن ترشقَ الجنديَّ بحجر
أن تقطفَ وردةً لِعاشقةِ الورد
أن تجدَ وقتاً لأشيائكَ الخاصة
أن تنتقي قميصاً ربيعيَّ المزاج
أن ترفع صوت الموسيقى عالياً
أن تُخفِّفَ قليلاً وطأةَ هذا الاحتلال.
لك أن تفعل ما تشاء
صَدِّقْني يليقُ بكَ الصيفُ
مثلما يليقُ بكَ الشتاء.
إذاً،
لك أن تقاتل
ولك أن تغنّي
أن تُطلِقَ غزالةً من أسر الخيال
أن ترجع فتى مفتولَ الساعدِ والأحلام
أن تتغاوى بِشَيْبِ التجاربِ والمِحن.
لك أن تفعل ما يحلو لك،
لك أن ترى في مدينتي ما تريد
ولي أن أجعل قصائدك خبزَ الفقراء،
ليس الحزنُ ما يَجعلُكَ استثنائياً
ولا الموتُ المُتَرَبِّصُ بكَ عند ناصيةِ الأيام،
حُبُّكَ للحياةِ جديرٌ بالحياة
وأخطاؤك الصغيرة لا تستحقّ الاعتذار
إذاً،
لا تعتذِرْ عَمَّا فعلتَ
وامشِ كما تشاء،
مُعتدِلَ القامةِ أو سنبلةً ملأى
ناحلاً، مائلاً، أخضرَ الابتسامات
ابتسمْ لِتُغِيظَ الجندي المُكْفَهِرَّ خلفَ بندقيته.
غَنِّ،
غناؤكَ يُعَكِّرُ مزاجَ الجنرال
غَنِّ،
ليس الحزنُ ما يجعلكَ استثنائياً
بل دفاعُكَ الرائعُ عن معنى الحياة.
(*) قصيدة “تليق بكَ الحياة” من كتاب الشاعر “هوى فلسطين”.