إنَّ قصتي مع كلمة “شعشبون” طويلة ومُضنية. فالكلمة “شعشبون” موجودة منذ أكثر من عامين على قائمة الكلمات العامية التي تعرَّفتُ عليها أو نبَّهني أحد إليها بعد صدور كتابي “موسوعة المفردات غير العربية في العامية الفلسطينية” (عمان، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2018) وأريد أن أكتب عنها في أقرب وقت.
وقد كتبتُ حتى الآن عن 46 من بين هذه الكلمات الإضافية، ولكني كلما أردت أن أكتب عن كلمة “شعشبون” أبحث عنها في المصادر والمعلومات الفلكلورية المتوفرة لديَّ ثم أرفع يديَّ مستسلماً وأؤجل الكتابة عنها إلى وقت لاحق. وقد حدث هذا معي عشرات المرات، إلى أن جعلني أمرٌ ما قبل أيام أصر على أن أجد تفسيراً لهذه الكلمة.
والأمر الذي دفعني إلى هذا التحدي هو أنَّ أحد الشباب الفلسطينيين نشر على “فيسبوك” قائمة طويلة بكلمات من العامية الفلسطينية وقال عنها حرفياً: “مصطلحات فلسطينية لا تحاول أن تبحث عن أصلها!! لأنو مش راح تلقى الها أصل” (هكذا). وبالطبع انتشرت هذه القائمة على صفحات الإنترنت كما تنتشر كل الحماقات التي تجود بها قريحة المتحذلقين.
والواقع أن 98% من “المصطلحات” الواردة في هذه القائمة أصلها موجود وسهل وواضح وموثَّق، وهي واردة في موسوعتي عن العامية الفلسطينية المذكورة أعلاه مع شرح معناها وتفسير أصلها واللغة التي وردت منها والتحوُّلات التي طرأت عليها، ولو كان مَن نشرَ هذه القائمة مُطَّلعاً على المصادر العلمية المتوفرة عن العامية الفلسطينية لما وضع هذه القائمة.
أما المفردات الثلاث التي وردت في هذه القائمة وبالفعل لا نعرف أصلها، فالسبب هو أننا لا نعرف أصلها حتى الآن وليس لأنه ليس لها أصل، فالمشكلة تكمن فينا وليس في المفردات، لأنه في الحقيقة لا توجد في العامية الفلسطينية أية كلمة أو أي مصطلح أو تعبير ليس له أصل أو تفسير، وفي يوم من الأيام “راح نلاقي إلها أصل”، فالقضية قضية وقت وجهد ومعرفة، ومنشور خاطئ كهذا يُعقِّد الأمور ويعطل علينا مسيرة البحث بدلاً من أن يساعدنا.
ومن المفردات الواردة في القائمة المذكورة ولا نعرف تفسيراً لها حتى الآن، هي كلمة “شعشبون”. وبمجرد أن رأيت هذه الكلمة في القائمة المنشورة على الإنترنت، تذكرتُ قصتي معها، فقررت أن آخذ على نفسي هذا التحدي وأعثر على أصلها ومصدرها.
الأحجية
المشكلة في كلمة “شعشبون” هي أنها غير واردة في أي معجم من معاجم اللغة العربية، من أقدمها إلى أحدثها، وغير واردة حتى في قواميس وموسوعات اللهجات العامية العربية، فهي غير موجودة في “معجم الألفاظ العامية في اللهجة اللبنانية” لأنيس فريحة، ولا في “موسوعة العامية السورية” لياسين عبد الرحيم، ولا في “معجم وأصول اللهجة العراقية” للشيخ محمد رضا الشبيبي، ولا في “معجم اللهجات المحكية في المملكة العربية السعودية” لسليمان بن ناصر الدرسوني، ولا في معاجم لهجات الجزيرة العربية أو لهجات شمال أفريقيا، ولا حتى في قاموس “اللهجة الفلسطينية الدارجة” للدكتور عبد اللطيف البرغوثي، ولا في القاعدة الإلكترونية لتأثيل العامية الفلسطينية التي أنشأتها جامعة بيرزيت مؤخراً. وحتى أنَّ كل المنشورات على الإنترنت التي تذكر هذه الكلمة تقول إنها من العامية الفلسطينية ثم تذكر معناها (بيت العنكبوت أو العنكبوت) ولا أحد يذكر أي شيء عن أصل الكلمة أو مصدرها.
ثم إنَّ الضليع في علوم اللغات يعرف بالتأكيد أنَّ حرف العين في الكلمة “شعشبون” هو حرف أصلي وليس مقلوباً عن حرف آخر، ولذا فإنه يستنتج أنَّ مصدر الكلمة يجب أن يكون في إحدى اللغات الهلالية (نسبةً إلى الهلال الخصيب، وهي ما يسمى عادةً “اللغات الساميَّة”) التي تحتوي على حرف العين. ومع ذلك فإنَّ الكلمة “شعشبون” غير موجودة إطلاقاً في أيٍّ من قواميس الآرامية، أو السريانية، أو الأكادية، أو الآشورية، ولا حتى في ما وصلنا من مفردات الكنعانية الأوغاريتية أو الفينيقية، أو مفردات الكلدانية أو السومرية.
وحتى لو فرضنا جدلاً أن حرف العين في “شعشبون” مقلوب عن حرف آخر (كالألف أو الياء مثلاً) لكي لا نحصر مصدرها في اللغات الهلالية، فإننا لا نجد هذه الكلمة في اللغة التركية بشقيها العثمانية والتركية المعاصرة، ولا في الفارسية بشقيها الفهلوية والإيرانية الحديثة، ولا في أي من اللغات الهندو – أوروبية أو السلافية أو حتى اللغات الآسيوية.
إذاً، هي كلمة لا وجود لها في أية لغة من لغات العالم القديم أو الحديث، ولا في أية لهجة عامية في العالم العربي أو غيره. ومع ذلك، فالكلمة “شعشبون” هي كلمة دارجة في معظم اللهجات المحلية في العامية الفلسطينية، ونحن معتادون عليها جداً ونستعملها بكثرة وفي سياقات متعددة.
فـ”الشعشبون” هو في العامية الفلسطينية رمز للخراب، فنحن نقول عن البيت الخرب المهجور أنه “مليان شعشبون”، وعن ربة البيت الكسولة المهمِلة نقول إن “بيتها مليان شعشبون”، وهناك قول في العامية الفلسطينية لوصف الشخص القدير المُحنَّك الذي لا تفلت منه شاردة ولا واردة فيقال إنه “زي الشعشبون، مْحَوِّط على كل إشي”، وقول آخر يصف الشخص الفقير المحتاج رغم تفانيه في العمل بأنه “مثل الشعشبون، نسّاج وماشي عاري”.
ثم إنَّ هناك قصة للأطفال من تأليف الكاتب الفسطيني زكريا محمد وإصدار “مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي” في رام الله، عنوانها “شعشبون”، وهناك فيلم كرتوني فلسطيني للأطفال اسمه “شعشبونة”، ومسلسل تلفزيوني للأطفال اسمه “شعشبون وشعشبونة”، ومجموعة نسائية علاجية في مناطق الـ48 “للتخلص من الأفكار السلبية” اسمها “شعشبون”…إلخ.
إذاً، كلمة “شعشبون” هي كلمة تتفرَّد بها العامية الفلسطينية، وإذا كانت معروفة في أحد الأقطار الأخرى من العالم العربي فيكاد يكون من المؤكد أنها وصلت عن طريق اللاجئين أو المغتربين الفلسطينيين في ذلك القطر. ومع ذلك، فهي كلمة غير موجودة في أية لغة من لغات الشرق أو الغرب، القديمة أو المعاصرة. فمن أين جاءت؟
في هذه الحالة، كان لا بد من استعمال المنطق والذكاء والمعرفة اللغوية للتحايل على هذه المعضلة.
التفسير
من المعروف أن اللاحقة “-ون” في آخر الأسماء في عاميات بلاد الشام هي لاحقة آرامية تفيد التصغير (مثل كفرون، سعدون، عبدون، دَنّون، بيضون). فإذا حذفنا هذه اللاحقة من الكلمة “شعشبون” فإنه يبقى لدينا الاسم “شعشب”.
و”شعشب” موجودة في عدد من اللغات الهلالية، ولكن هذا لا يفيدنا إطلاقاً، لأن المعنى المُعطى لكلمة “شعشب” لا علاقة له، ولا يمكن أن يؤدي إلى معنى الكلمة “شعشبون” في العامية الفلسطينية كاسم لبيت العنكبوت أو للحشرة المُسماة “عنكبوت”. فـ”الشَّعشَب” و”الشَّعشبَة” هما اسمان يُطلقان على مرحلة من مراحل نمو الأعشاب والنباتات، حين تنشق الأرض وتبدأ النبتة بالبروز من التراب، والفعل “شَعشب” و”شعشبَت” يعني أن النبتة شقّت الأرض وأخذت بالبروز من فوق التراب.
ولذا كان لزاماً أن نجد أقرب كلمة “إلى “شعشب” في اللغة العربية واللغات الهلالية الأخرى يمكن أن تكون لها علاقة بالكلمة “شعشبون”. وبالرجوع إلى معاجم وقواميس هذه اللغات، نجد كلمة كهذه لا يمكن أن تُخطئها العين، ولا ثاني لها في هذه اللغات، ألا وهي كلمة “شعشع”.
والفعل “شَعشَع” كفعل لازم يعني “انبثقَ منه النور” أو “سطعَ” أو “توهَّجَ”، وباختصار، “انطلقت منه خيوط مستقيمة طويلة رفيعة شفافة من الضوء”، فنقول مثلاً “شعشعت الشمس” أو “شعشع المصباح” أو “شعشع النجم في السماء”، ومنها جاء الشعاع والأشعة في اللغات الحديثة. أما الفعل “شَعشعَ” كفعل متعدٍ (يأخذ مفعولاً به) فيعني أيضاً “خلطَ الخمر أو النبيذ أو أي مشروب آخر بالماء” فخففه وجعله أكثر شفافية.
أما الاسم “شَعشَعٌ” و”شَعشَاعٌ” و”شعشعانٌ” فهو صفة تُطلق على الرجل الطويل النحيف، وعلى الفتى حسن المظهر وخفيف الظل كثير المرح، وعلى كل شيء ذي ظل خفيف، وعلى كل ما كان طويلاً ونحيفاً أو دقيقاً أو شفافاً من الأشخاص والأشياء. فالقاسم المشترك لكل ما تُطلق عليه صفة “شعشع” هو أنه طويل، نحيف، دقيق، خفيف، شفاف، وهذه هي الصفات التي تميّز الخيوط التي يُبنى منها بيت العنكبوت. والكلمة “شعشع” ومشتقاتها موجودة ليس فقط في اللغة العربية، وإنما كذلك في الآرامية، والسريانية، والآشورية، والفينيقية، وحتى في الكنعانية الأوغاريتية القديمة.
الكلمة “شعشع” (كفعل وكإسم) هي مَزيدٌ رباعيّ على وزن “فعفل”، حيث يتم تكرار فاء الجذر بعد العين (مثل “هَدهَد”، “فرفر”، “كبكب”). فإذا حذفنا فاء الجذر المكررة، فإننا نحصل على الجذر الثلاثي “ش-ع-ع”. ومع إدغام عرف العين المكرر بالشدة يصبح الجذر الثلاثي هو “شعَّ” (يقابله “هدَّ” و”فرَّ” و”كبَّ” في الأمثلة). ولذا فإن أصل الاسم الرباعي “شعشع” هو الاسم الثلاثي “شعّ”، فما هو “الشّعّ”؟
إنَّ معنى الفعل الثلاثي “شعَّ” يكاد يكون مطابقاً تماماً لمعنى الفعل الرباعي “شعشعَ”، فهو كذلك يعني توهَّجَ وانبثقَ الضوء منه فسطع، فنحن نقول أيضاً “شعَّت الشمس” و”شعَّ المصباح” و”شعَّ النجم في السماء”.
أما الاسم الثلاثي “شعّ” فهو الاسم الذي يُطلق على بيت العنكبوت، أي أن “الشّعّ” هو بيت العنكبوت، وهذا وارد في “المعجم الوسيط” وهو مُعجم مَجمَع اللغة العربية في القاهرة من عام 1960، وفي “معجم الرائد” لجبران مسعود من عام 1964، وفي “معجم الغني” للدكتور عبد الغني أبو العزم من عام 2013. وهذه المعاجم العربية الحديثة تستند فيما تورده على معاجم أكثر قدماً تذكر أن “الشعّ” هو بيت العنكبوت، مثل “لسان العرب” لابن منظور (توفي عام 1311م) وكتاب “الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية” لإسماعيل بن حمّاد الجوهري (توفي عام 1003م).
حين قرأتُ في كل هذه المعاجم العربية، القديمة والحديثة، أن “الشّعّ هو بيت العنكبوت”، شعرت أنني عثرتُ أخيراً على ضالتي، وأنني عثرت على الرابط اللغوي والمنطقي الذي ليس بالإمكان ضحده بين الكلمة الهلالية “شعشع” والكلمة العامية الفلسطينية “شعشبون”، وأن الطريق من هنا إلى تفسير أصل كلمة “شعشبون” أصبحت سهلة ومُيسَّرة.
فكما أنَّ الفعل الثلاثي “شَعَّ” يمكن تحويله إلى الفعل الرباعي “شَعشَعَ” دون أن يفقد شيئاً من معانيه ومدلولاته، كذلك يمكن تحويل الاسم الثلاثي “شعٌّ” إلى الاسم الرباعي “شعشع” دون أن يتغير معناه ومدلوله كاسمٍ لبيت العنكبوت.
وبيت العنكبوت إذاً هو “الشعّ” وهو “الشعشع” في نفس الوقت، غير أن الناس في لغتهم المحكية اليومية يفضلون الاسم الرباعي “شعشع” على الاسم الثلاثي “شعّ” (كما يفضلون “هدهد” و”فرفر” و”كبكب”) لأنه يدل على التكرار والكثرة.
مع مرور الوقت، أضاف أهل فلسطين إلى الاسم “شعشع” اللاحقة الآرامية “-“ون” التي تفيد التصغير، والتي كانوا مُعتادين عليها اعتياداً كبيراً في لغتهم المحكية اليومية، فتحوَّل الاسم “شعشع” إلى “شعشعون” للدلالة على بيوت العنكبوت الصغيرة التي تكثر في زوايا الحجرات في البيوت ويجب إزالتها باستمرار كي يظل البيت نظيفاً. ثم في مرحلة من المراحل تم استبدال العين الثانية في “شعشعون” بالباء، فأصبجت “شعشبون”. ولكن كيف حدث هذا ومتى؟
إنَّ ما هو متوافر لديَّ من مصادر لغوية وتاريخية ومن مادة فلكلورية لا يسعفني للبت في هذا الموضوع بشكل حاسم.
وعليه، فإنني لا أستطيع أن أحدد بالضبط متى حدث هذا القلب من “شعشعون” إلى “شعشبون” وكيف. ولكنَّ ذلك بالتأكيد حدث في مرحلة من مراحل الماضي، والدليل القاطع على ذلك هو أنَّ الكلمة “شعشون” نُسيت واختفت من كلام الناس كلياً بينما الكلمة “شعشبون” هي التي لا تزال موجودة في العامية الفلسطينية المحكية. وربما حدث ذلك عن طريق الخطأ في النطق، فلعلَّ أحدهم قال “شعشبون” بدلاً من “شعشعون” عن طريق الخطأ، فاستساغها الآخرون واستسهلوا نطقها، فاستعملوها وظلوا يكررونها في أحاديثهم حتى ثبُتت واستقرت وأصبحت مفردة من مفردات عاميتهم المحكية يتوارثونها بالتربية والممارسة من جيل إلى جيل، تماماً كما يحدث في عالم الأحياء في سياق عملية التطور، حيث يؤدي نشوء طفرة عشوائية إيجابية أثناء انقسام الخلايا إلى اكتساب الكائن الحي المتولد عن هذا الانقسام صفة إيجابية تمكنه من الانتصار على الآخرين والصمود في الصراع من أجل البقاء، فتتوافر لديه الفرصة أكثر من غيره لنقل هذه الصفة الجديدة إلى الجيل التالي.
وعبر تكرار التوريث من جيل إلى جيل، تترسخ هذه الصفة الناجمة عن الطفرة وتصبح صفة وراثية ثابتة تتوارثها الأجيال. وليس استبدال العين بالباء نادر الحدوث في العاميات العربية، فنحن نقول “عَجرَة” و”بَجرَة” ونقصد بهما نفس الشيء (ثمرة التين قبل أن تنضج)، ونقول “عاطل باطل” فنستبدل العين بالباء من أجل الحصول على مفردة جديدة مرادفة في المعنى مع التنويع والتوكيد، ونقول “رعبون” و”عربون” فنقلب مواقع العين والباء في الكلمة ونستبدل واحدة بالأخرى من دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في المعنى.
هذا التفسير لأصل هذه الكلمة الغريبة العجيبة لا بُدَّ أن يكون هو التفسير الصحيح، لأنه التفسير الوحيد وليس هناك تفسير آخر غيره. أما أن تكون هناك كلمة في العامية المحكية ليس لها أصل أو تفسير على الإطلاق، فهذا من المستحيل.
ومن ناحية أخرى، فإنه من غير المفهوم أو المنطقي أن تكون كلمة “شعشبون” منحصرة في العامية الفلسطينية وغير موجودة في العاميات العربية الأخرى في أقطار الهلال الخصيب، التي تأثرت كلها بالمخزون اللغوي والثقافي للغات الهلالية القديمة وأساليبها في اشتقاق الكلمات. ولذا فإنني لن أتفاجأ إذا اكتشفنا يوماً أن هذه الكلمة موجودة في عامية هلالية أخرى غير العامية الفلسطينية. ومع أن معاجم وموسوعات العاميات الأخرى في أقطار الهلال الخصيب تنفي هذه الاحتمالية، فإن القراء العرب من لبنان وسوريا والعراق هم الذين بيدهم أن يؤيدوا أو ينفوا وجود كلمة “شعشبون” في لهجاتهم العامية المحكية.