ويتجه التفكير الاقتصادي الليبي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب، إلى منح دور مركزي للقطاع الخاص، وهو الخيار الذي دافع عنه غالبية المتحدثين في مؤتمر «دور القطاع الخاص في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في ليبيا» الذي استضافته تونس من الثلاثاء إلى الخميس الماضيين. لكن المستفيد الأول من توسعة الهامش المُتاح للقطاع الخاص، لن يكون الشركات الليبية، التي مرت في ظروف صعبة، طيلة السنوات الأخيرة، وإنما المجموعات الأجنبية، وفي مقدمها الأتراك، الذين تقدموا على منافسيهم الإيطاليين والصينيين والفرنسيين والروس. ويُقدر الخبراء حجم سوق الاستثمار الليبية بـ111 مليار دولار. وفي أيار/مايو الماضي زار رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة موقع بناء محطة كهرباء تتولى تنفيذه شركة «إينكا» التركية في طرابلس، فأثارت الزيارة انتقادات لعلاقاته المتينة مع أنقرة.
ويؤكد ابراهيم الخضراوي الأستاذ في جامعة طرابلس أن نظام المعلومات المحاسبية الإلكترونية يمكن أن يلعب دورا مهما في تطوير المشروعات الصغرى والمتوسطة، لكنه نبه إلى الصعوبات التي تواجهها بسبب ارتفاع كلفة اقتناء نظام المعلومات المحاسبية، سواء تعلق الأمر بالأجهزة والمعدات أم بالبرامج المحاسبية. ويرى صلاح الدين أبوغرارة من المجلس الوطني للتخطيط (حكومي) أن من أهم المجالات الاقتصادية الواعدة مجال الإسكان والاستثمار العقاري وإقامة المدن والتجمعات العمرانية الجديدة، باعتبار المسكن يأتي في الرُتبة الثالثة لدى الأسرة الليبية بعد المأكل والملبس.
مجالات واعدة
وقدر أبوغرارة حاجة ليبيا الاجمالية إلى مساكن جديدة بما يفوق 580 ألف وحدة سكنية ينبغي توفيرها قبل العام 2025 للتخفيف من العجز السكني القائم. وأمام ليبيا مهمتان في هذا المجال، فعلى الدولة أن توفر الاعتمادات اللازمة من الموازنة، لاستئناف تنفيذ مشاريع الإسكان التي توقفت منذ 2011 وتتمثل الثانية في استكمال المشاريع المُتعاقد عليها والمُتوقفة حاليا، علما أنها لن تغطي، لدى استكمالها، سوى 50 في المئة من حجم الطلب القائم. ويعتبر أبوغرارة أن القطاع الخاص يستطيع تحقيق الهدف «بما يتوافر لديه من جرأة ومرونة وحرية في التنفيذ، بعيدا عن القوالب التقليدية للإسكان التي تتشبث بها الدولة والقطاع العام». وفيما ينتقد كثيرون قلة تجاوب المصارف التجارية مع أصحاب المشاريع، يؤكد الأكاديميان إسلام البياري ونجلاء المبروك أن الحوافز، ومن بينها الاعفاءات الضريبية، وفقا للتشريعات الليبية، تساعد على دعم المشاريع الاستثمارية. لكنهما يُؤاخذان وزارة التخطيط والاقتصاد لأنها لا تعمل بالسياسات العامة التي وضعها «المجلس الوطني للتخطيط» على ما قالا.
يُطرح ضعف دور الدولة أيضا في كونها لا تساعد على تطوير المجال الزراعي، إذ أن دراسة ميدانية أجرتها الدكتورة فاطمة الجويفي انطلاقا من نموذج زراعات الفواكه في منطقة الجبل الأخضر (شمال) أظهرت أن منتجي الفاكهة يواجهون تحديات وصعوبات كبيرة، من بينها غياب قنوات التواصل بين الدولة والمنتجين، وشبه غياب للزراعات العضوية في منطقة الدراسة. واقترحت الجويفي إطارا جديدا للشراكة بين القطاعين العام والخاص، من قواعده تمويل القطاعين البحوث الزراعية، وتشجيع الابتكار ونقل التكنولوجيا، وتطوير البنية التحتية للقطاع الزراعي، مع تحديث التشريعات الخاصة بالاستثمار في هذا القطاع.
وتجابه الزراعة في المناطق شبه الصحراوية صعوبات من نوع آخر، ومنها مدينة بني وليد، التي اتخذ منها الخبير الدكتور عبد السلام الحاج أنموذجا، مُبينا أن القطاع الخاص يمكن أن يُحدث تنمية مستدامة في تلك المناطق، بالاعتماد على أنموذج بني وليد. أكثر من ذلك، يُفكر الليبيون في تشخيص أهم العراقيل التي تُعيق نمو القطاع الخاص، وفي هذا الصدد ترى هند الفقي أن التشريعات الحالية تشكل أبرز العوائق التي ما فتئت تُعطل نمو القطاع الخاص، ولذلك فهي تعتبر تغيير القوانين الخاصة بالاستثمار أولوية اقتصادية، خاصة في مرحلة إعادة الإعمار التي تحتاج إلى كثير من المرونة والتيسير بدل القيود والمحظورات. وضربت مثلا بالاستثمار في الاقتصاد الأخضر، الذي بات أمرا مُلحا لمجابهة أثر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على الناتج المحلي الاجمالي في ليبيا.
شراكة بين القطاعين العام والخاص
وللمصارف التجارية الخاصة دورُها في تمويل المشاريع الصغرى والمتوسطة، التي تُعتبر الدعامة الأساسية للاقتصاد ومحرك النمو، لذا كلما زاد تمويل القطاع الخاص، زادت فرص العمل وتحسن المستوى الاجتماعي للأفراد، على ما يقول الدكتور محمد بوعتلي. وفي هذا الصدد ترى الخبيرة زهور القماطي (من ديوان المحاسبة الليبي) ضرورة وضع قانون أمثل للإعفاءات الضريبية يهتدي به أصحاب الحق في الإعفاء، وكذلك إدخال التعديلات اللازمة على القوانين الليبية ذات العلاقة. وفي مجال آخر متصل يحض الخبراء على تطوير البنية التحتية للنقل البحري والجوي، من أجل إنشاء موانئ كبرى في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، لأن إيجادها يُنشط الدورة الاقتصادية، أسوة بالدور الذي بات يقوم به ميناء «طنجة ميد» شمال المغرب.
ويجوز القول إن الاقتصاد الليبي بدأ يتعافى، في أعقاب الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بعد الحصار الذي فرضته القوات الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر على حقول النفط الرئيسة، من كانون الثاني/يناير إلى أوائل تشرين الأول/أكتوبر 2020 مع أن أسعار النفط العالمية تراجعت، على نحو أدى بدوره إلى انخفاض الإيرادات، بالتزامن مع الانتشار السريع لجائحة «كوفيد-19» الذي عمق هشاشة الاقتصاد، وبخاصة المنظومة الصحية. ويُقدر الخبراء الخسارة في الدخل جراء تراجع أسعار النفط، بما لا يقل عن 10 مليار دولار أمريكي. كما يُقدرون حجم العجز في 2020 بقرابة 74 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي، ما أدى إلى القضاء على الفوائد المسجلة في عام 2019. وقرر مصرف ليبيا المركزي الموافقة على سعر صرف جديد اعتباراً من 3 كانون الثاني/يناير 2021 للمواءمة بين سعر الصرف المصرفي والسوق الموازية. وأدت تلك الخطوة إلى انخفاض حاد في قيمة الدينار الليبي وزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية.
تحت خط الفقر
وقد ترتب على تلك الإجراءات اتساع دائرة الفقر، إذ يُقدر الخبراء نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر بـ33 في المئة من العدد الاجمالي لليبيين، بالرغم من الثروات الطبيعية الكبيرة التي يملكها البلد، وبينها أكبر احتياطات النفط في القارة الأفريقية. وفي سياق متصل أظهرت تداعيات وباء «كوفيد-19» هشاشة المنظومة الصحية المحلية، وضرورة إصلاحها إصلاحا جذريا. وتزداد الأوضاع المعيشية قسوة في الجنوب (منطقة فزان) التي تضم خليطا من العرب والتبو والطوارق، ويُقدر عدد هؤلاء بـ10 في المئة من سكان ليبيا، أي حوالي 500 ألف ساكن. ويتبوأ اقليم فزان أهمية محورية في صناعة النفط الليبية، ففيه يوجد أكبر حقل نفطي، غرب مدينة الشرارة في صحراء مُرزق. ويوجد في الحوض نفسه حقل الفيل الذي يُؤمن بمفرده ثلث إنتاج ليبيا من النفط ومشتقاته. ولدى اندلاع الحرب الأهلية الثانية (2014-2015) ألهبت الخلافات على توزيع الحصص المُتأتية من إيرادات النفط، مشاعر العداء بين الطوارق والتبو. وتتولى حاليا عناصر من الأقليتين حماية المنشآت النفطية والغازية. وتشكل هذه المهمة وسيلة ضغط قوية على الحكومات المركزية في طرابلس، إذ تُستخدم كورقة في المفاوضات التي تجري بين الحكومة والأقليات العرقية. وفي مناسبات عدة اتُخذت المنشآت النفطية والغازية رهينة لفرض تلبية المطالب الاجتماعية والسياسية للمجموعتين، والاعتراف بحقوقهما، التي طالما تجاهلها نظام معمر القذافي.
واستطاعت هذه المكونات المُتصارعة في ما بينها، أن تُوحد صفوفها وتصُد هجوم القوات التي تأتمر بأوامر اللواء حفتر، للسيطرة على الجنوب الليبي. ويمكن للقطاع الخاص، إذا ما أُدخل قدرا من المرونة على القوانين الحالية، أن يلعب دورا كبيرا في تطوير مدن الجنوب، وهي سبها ومُرزق وأوباري وغات وغدامس، واستطرادا تطهير المنطقة من أمراء التهريب وتجار السلاح. وفي تقدير خبراء أن القطاع السياحي مؤهل للعب دور مهم في إحياء اقتصاد الواحات وإنعاش المناطق السياحية في الجنوب الليبي، والتي تعطلت منذ اندلاع الحرب الأهلية الثانية في 2014. واللافت ان بعض مكاتب السفريات نظمت أخيرا جولات لوفود من السياح الغربيين إلى الصحراء الليبية، وكذلك إلى مدينة صبراتة في الشمال، ذات التراث الأثري الروماني والفينيقي الخصيب. وترسل هذه النشاطات رسالة إلى البلدان المصدرة للسياح، وخاصة بلدان الضفة الشمالية للمتوسط، مفادها أن الأمن بات مُستتبا في ليبيا، وتحديدا في جنوبها حيث البحيرات الطبيعية والجبال الصخرية والواحات الخضراء.
قمة ليبيا للطاقة والاقتصاد
وبالنظر للدور المحوري الذي يلعبه النفط في الاقتصاد الليبي، وعلى الرغم من أن حكومة الوحدة الوطنية هي حكومة مؤقتة وأقرب إلى حكومة تصريف أعمال، تستضيف طرابلس الشهر المقبل مؤتمرا نفطيا دوليا بعنوان «قمة ليبيا للطاقة والاقتصاد». وتعمل فرنسا، التي سارعت إلى إعلان مشاركتها في المؤتمر ودعمها له، على استثمار المناسبة لفوز شركاتها بصفقات جديدة، بالرغم من أنها خسرت أخيرا فرصة قيادة مشروع للتفتيش عن الذهب. وكان رئيس ديوان المحاسبة الليبي خالد شكشك طلب من زميله وزير الاقتصاد في حكومة الوحدة الوطنية محمد الحويج، سحب قرار الترخيص بتنفيذ مشروع استثماري للتنقيب عن الذهب والمعادن الثمينة، في سبها لمدة 50 سنة، وكانت ستفوز به إحدى الشركات الفرنسية.
وطلب شكشك من الحويج اتخاذ الإجراءات القانونية الضرورية لسحب القرار وإزالة كافة أثاره، والتقيد بأحكام التشريعات النافذة بهذا الخصوص. وفي السياق قطعت ليبيا خطوة مهمة لتأمين المحروقات لإقليم فزان، بعد التقدم في أعمال بناء مصفاة نفط خاصة بالجنوب، اعتبره الليبيون «مشروعا حيويا واستراتيجيا سيساهم في تنفيذ مشاريع التنمية المستدامة في المنطقة» على ما قال النائبان الجنوبيان ابراهيم مصباح وعبد السلام المرابط. وفي خط مواز انطلقت الأربعاء الماضي، المرحلة الثانية من برنامج «الانتعاش والاستقرار والتنمية الاجتماعية والاقتصادية» والمعروف باسم «بلديتي» في حضور عمداء 14 بلدية وسفراء أوروبيين معتمدين لدى ليبيا. وتتيح تطبيقة «بلديتي» للمواطن إيصال صوته إلى المجلس البلدي وإرسال الشكاوى عبر الإنترنت، بما يضمن التواصل والشفافية وسرعة التفاعل بين المواطن والبلدية.
القدس العربي