في الأول من تموز/يوليو 1944، اجتمع 730 موفداً من 44 دولة في مؤتمر بريتون وودز، الذي استمرت أعماله 22 يوماً، بالعاصمة الأميركية واشنطن. توصّل المجتمعون إلى اتفاق جديد للنظام المالي العالمي، أدى إلى ربط عملات العالم بالدولار الأميركي بسبب حيازة الولايات المتحدة غالبية الذهب في العالم. حينها، تعهّدت واشنطن تثبيت قيمة الدولار على قيمة الذهب، فثبتت الدول الأخرى أسعار عملاتها أمام الدولار.
بعد سنوات، وتحديداً في 15 آب/أغسطس 1971، شهد العالم “صدمة نيكسون”، عندما فك الرئيس الأميركي حينها ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب وترك العملة الأميركية للسعر الذي تستحقه. وبعد سنتين، أصبح للدول الحرية المطلقة بتعويم عملاتها وتحديد قيمتها من حجمها في السوق العالمية.
تسعير النفط بالدولار ساعد على إنقاذ العملة الأميركية من الانهيار، مدفوعاً بالحاجة الاستهلاكية والاستثمارية لدول العالم، فبقي عملة احتياطية في العالم، تدفع بها الدول أثمان سلعها وأصولها والتزامات ديونها، ما أجبر البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم على الاحتفاظ بكميات كبيرة من الدولار في احتياطاتها. إلا أنّ أطرافاً اليوم تعمل على توفير بديل يجذب الدول الأخرى لبناء نظام مالي مستقل تماماً عن سيطرة الولايات المتحدة، ومتحرر من هيمنة الدولار.
روسيا والصين تستحدثان بدائل
في حزيران/يونيو من العام الماضي، نشرت صحيفة “ذا ناشونال إنترست” مقالاً بعنوان “حرب روسيا والصين على الدولار بدأت للتو”. ذكر كاتب المقال أكسل دي فيرنو أنّ التحالف الصيني الروسي يشكل تهديداً ملموساً لهيمنة واشنطن المالية، إذ يناقش البلدان دمج أنظمتهما المالية، إذ أبدت موسكو استعدادها لاستخدام اليوان الصيني في احتياطياتها الأجنبية لتسريع العملية.
هذا الاستعداد يأتي ضمن إستراتيجية اقتصادية دفاعية تبنّتها موسكو لمواجهة الضغوط الأجنبية، وتضمّنت تكديس كميات كبيرة من العملات الأجنبية، وتطوير الأنظمة المالية التي تقوّض فعالية العقوبات الاقتصادية التي تقودها واشنطن و”الناتو”. ومنذ العام 2014، الذي ضمت فيه روسيا شبه جزيرة القرم، أنشأ الكرملين نظام التحويلات المالية “إس بي إف إس”، وهو نظام دفع قائم على الروبل الروسي ويعمل كبديل لنظام “سويفت”، ويصفه القادة الروس بأنّه جزء من “اقتصاد الحِصْن”.
وبعد عام واحد، حذت الصين حذو روسيا، وأطلقت نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك “CIPS”، بهدف تدويل أو زيادة التبادل العالمي باليوان أو “الرنمينبي” (العملة الرسمية للجزء القاري من الصين)، بدعم من بنك الصين الشعبي”PBOS”. ويمثل هذا النظام بنية أساسية للسوق المالية في الصين، وهو أمر يقلق الولايات المتحدة وحلفاءها. وتستخدم عدة بنوك روسية هذا النظام منذ سنوات نتيجة حجم التجارة الكبير بين البلدين، مدفوعاً في الآونة الأخيرة بالصعوبة التي تواجهها روسيا في المشاركة في الاقتصاد العالمي والربح منه.
إزالة “الدولرة”
بعد أن هيمنت الولايات المتحدة على العالم بلا منازع، وبعد أن كان الدولار هو العملة المفضلة عالمياً، باتت الصين ودول أخرى حالياً تساهم في كتابة قواعد العالم الحالي، ما يخلق نوعاً جديداً من العولمة، من خلال مؤسسات مثل “مبادرة الحزام والطريق” ومجموعة “بريكس” للاقتصادات الناشئة، ومنظمة “شنغهاي للتعاون”، بحسب ما قال الرئيس العالمي لإستراتيجية أسعار الفائدة قصيرة الأجل في بنك “كريديت سويس” زولتان بوزار، في مقال نشرته صحيفة “فايننشال تايمز”، في كانون الثاني/ديسمبر الماضي.
ويرى بوزار أنّ “النظام النقدي القائم على الدولار يتعرض للتحدي بالفعل بطرق متعددة، ولكن تبرز طريقتان على وجه الخصوص، هما انتشار جهود إزالة الدولرة من جهة، والعملات الرقمية للبنوك المركزية من جهة أخرى”.
وتواجه الولايات المتحدة الأميركية موجة متزايدة من عمليات إزالة “الدولرة” العالمية، إذ تتحد اقتصادات عدد كبير من الدول لإطلاق بديل من الدولار الأميركي لاستخدامه في التجارة العالمية. وتعمل روسيا مؤخراً على إنشاء عملة مشتركة بين دول مجموعة “بريكس” تحدياً لهيمنة الدولار. وصرّح وزيرة الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في كانون الثاني/ديسمبر الماضي، بوجود مبادرات تؤكّد ضرورة العمل على إقرار عملة خاصة بالمجموعة، ستُناقَش في اجتماع المجموعة في آب/أغسطس المقبل، نظراً إلى التخوّف من الاعتماد على آليات الغرب المالية، فهو كما يقول لافروف “مستعد دائماً للخداع في أي لحظة”.
تمت صياغة المقترحات الأولية بشأن إنشاء عملة احتياطية جديدة تعتمد على سلة من عملات دول “بريكس” منذ عام 2018. ويعود اختيار العملات الوطنية لهذه الدول إلى كونها من بين العملات الأكثر حضوراً في الأسواق الناشئة. وظل النقاش يدور حتى الوصول إلى العملة الاحتياطية الجديدة لدول “بريكس”، التي ستحمل اسم “R5” أو “+R5″، وهو اسم يستند إلى الأحرف الأولى من أسماء عملات الدول الأعضاء في المجموعة، وهي: ريال برازيلي، روبل روسي، روبية هندية، رنمينبي صيني، راند جنوب إفريقي.
وفي منظمة “آسيان”، يدرس وزراء المال والبنوك المركزية إقصاء الدولار الأميركي، إضافة إلى اليورو والين. وناقش المسؤولون، خلال الاجتماع الذي عُقِد في آذار/مارس، تقليل الاعتماد على هذه العملات في المعاملات المالية، واستخدام العملات المحلية بدلاً منها. وهذا يعني أنّه سيتم توسيع نظام الدفع الرقمي عبر الحدود التابع لرابطة دول جنوب شرق آسيا بشكل أكبر، والسماح لدول “آسيان” باستخدام العملات المحلية للتجارة. ويُعدّ هذا امتداداً لخطة تسوية العملة المحلية السابقة (LCS) التي بدأ تنفيذها في عدد من أعضاء المنظمة. وشملت هذه الخطة أولاً كلاً من تايلاند وماليزيا في 2016 آذار/مارس، وانضمت إليهما إندونيسيا بعد ثلاثة أعوام.
المعاملات التجارية تتحرر من الدولار
في إطار سعيها للحد من هيمنة الدولار الأميركي على التجارة العالمية، أكملت الصين للمرة الأولى، في أواخر الشهر الماضي، أول عملية شراء للغاز الطبيعي المُسال باستخدام التسوية باليوان الصيني بدلاً من الدولار، وذلك لشراء دفعة من الإمارات، وفق موقع “أوول برايس”.
وأتمّت شركتا الصين الوطنية للنفط البحري “كنوك” و”توتال إنرجي” الفرنسية، من خلال البورصة، أولى تعاملات الصين في الغاز الطبيعي المُسال التي جرى تسويتها باليوان. وأضافت البورصة أنّ المعاملة شملت نحو 65 ألف طن من الغاز الطبيعي المُسال استوردتها “توتال إنرجي” من الإمارات قبل تسوية المعاملة مع الشركة الصينية بعملة اليوان.
وأبرمت الصين مع البرازيل اتفاقية بشأن التجارة الثنائية باليوان الصيني، تهدف إلى توسيع التعاون في قطاعي الأغذية والتعدين. وأعلن نائب وزير التجارة الصيني غوه تينغتينغ أنّ البلدين يعتزمان توسيع التعاون في مجالي الأغذية والمعادن، والبحث عن إمكانية تصدير سلع ذات قيمة مضافة عالية من الصين. وأنشئت بين برازيليا وبكين غرفة مقاصة من شأنها توفير التسويات من دون استخدام الدولار الأميركي، والإقراض بالعملات الوطنية لتسهيل وتقليل تكلفة المعاملات والتخلص من الاعتماد على الدولار في العلاقات الثنائية.
وأبدت السعودية، إحدى أعمدة نظام البترودولار الذي تأسس في السبعينيات والمحافظة على ربط عملتها بالدولار لعقود، انفتاحها على المناقشات بشأن التجارة باستخدام عملات أخرى، وفق ما نقلت وكالة “بلومبرغ” عن وزير المالية السعودي محمد الجدعان. وخلال زيارته للرياض العام الماضي، أكّد الرئيس الصيني شي جين بينغ أنّ بلاده ستبذل جهوداً لشراء المزيد من النفط من الشرق الأوسط، وتريد أيضاً تسوية هذه التجارة باليوان الصيني.
وفي أميركا اللاتينية، تمر الأرجنتين والبرازيل، منذ كانون الثاني/يناير، بالمراحل الأولية لتجديد المناقشات بشأن تشكيل عملة مشتركة مماثلة لليورو، تسمى “سور”، للمعاملات المالية والتجارية بينهما، وذلك في إطار إحياء خطة نوقشت سابقاً، بحسب ما كشف موقع “fortune”.
ونظر البلدان في خيارات تنسيق عملاتهما لعقود، لمواجهة تأثير الدولار في المنطقة، لكن الاختلالات المستمرة في الاقتصاد الكلي في كلا البلدين، إلى جانب العقبات السياسية المتكررة، حالت دون تنفيذ ذلك. والأمر لا يقتصر على البرازيل والأرجنتين فقط، فقد صرّح وزير الاقتصاد الأرجنتيني سيرجيو ماسا أنّ البلدين سيدعوان دولاً أخرى في أميركا اللاتينية إلى الانضمام، وذلك في مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز”.