لطالما كان ملف الذاكرة هو الطاغي في مختلف وسائل الإعلام العالمية وهي تحلل أسباب “الخلاف” المزمن بين الجزائر وفرنسا.
غير أن الأعوام الأخيرة كشفت عن “الوجه الآخر” لأسباب توتر العلاقات الجزائرية الفرنسية، والذي جعل قنوات الاتصال بين محور الجزائر-باريس تنسد من حين لآخر، وسط تصريحات عدائية عادة ومُغازلة في أحيان أخرى.
وجه يقول المهتمون بملف العلاقات بين فرنسا ومستعمرتها السابقة (الجزائر) إنه “اقتصادي بامتياز”، بعد أن لجأت الجزائر إلى تقليص الوجود الاقتصادي الفرنسي بأسواقها في إطار سياسة “تقليم أظافر النفوذ الفرنسي سياسياً واقتصادياً” وفق توصيف مراقبين، أو ما يسميه البعض “خلافات الذاكرة بصبغة اقتصادية”.
وتكشف الأرقام الرسمية خصوصاً في الجزائر أن النفوذ الاقتصادي الفرنسي بالجزائر تراجع بشكل كبير جدا في الأعوام الـ4 الأخيرة، ما كبّد باريس خسائر سنوية تفوق قيمتها 18 مليار دولار في عدة قطاعات، أبرزها النقل والخدمات وحتى النفط، تعكسه الأرقام الرسمية عن حجم الانتكاسة التي تعرضت لها الشركات الفرنسية بالجزائر في الأعوام الأخيرة.
ومنذ 2018 رفعت السلطات الجزائرية لـ”نظرة اقتصادية جديدة” مع فرنسا، وطالبت بأن تكون وفق قاعدة “رابح-رابح” في المجال الاقتصادي و”التعامل بندية” في الشأن السياسي.
فيما لا تزال فرنسا تهيمن على السوق الجزائرية بنحو 400 شركة في عدة قطاعات أبرزها الطاقة والصناعات الميكيانيكية والصيدلانية والخدمات، وتبلغ استثماراتها الإجمالية 2.5 مليار دولار عبر 500 مشروع.
وخلال مظاهرات الحراك الشعبي مطلع 2019 التي طالبت برحيل نظام عبدالعزيز بوتفليقة، انتقل ملف العلاقات بين البلدين إلى الشارع الجزائري، حيث رفع المتظاهرون الجزائريون لافتات وشعارات طالبت بـ”إنهاء النفوذ الفرنسي” بالجزائر، وكان من أبرز المطالب التي رُفعت خلال الحراك الشعبي بالجزائر، كان من أبرزها “الشعب يريد الاستقلال” و”الجزائر ليست للبيع”.
وتستعرض “العين الإخبارية” في هذا التقرير أبرز المشاريع والصفقات الاقتصادية التي خسرتها فرنسا مما تسميه بعض وسائل إعلامها “جنة الجزائر” منذ 2018، وقيمة خسائرها الإجمالية السنوية التي تبلغ نحو 18 مليار دولار وفق أرقام رسمية في البلدين.
مكاتب الدراسات.. 10 مليارات دولار
لعل أكبر خسارة تكبدها الاقتصاد الفرنسي كان بعد شهر واحد من تولي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مقاليد الحكم في البلاد نهاية 2019.
وفي يناير/كانون الثاني 2020، كان أول القرارات التي اتخذها تبون “وقف العمل مع مكاتب الدراسات الأجنبية” في المشاريع الكبرى، والتي أكد أنها تستنزف سنوياً من خزينة الدولة خسائر بقيمة 10 مليارات دولار.
ووفق وسائل الإعلام المحلية في البلدين، فإن الغالبية العظمى من تلك المكاتب “فرنسية”، ما يعني خسارة الاقتصاد الفرنسي عوائد سنوية تقدر بالقيمة ذاتها.
وهي المكاتب التي كانت تختص بإعداد دراسات عن مشاريع تتعلق أساسا بقطاعات الري والموارد المائية والسكن وقطاع الخدمات.
وتشير مختلف التقارير الإعلامية المحلية بالجزائر إلى أن التحقيقات مع أركان نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة في تهم فساد أوصلت إلى حقائق تشير إلى “منح العقود لمكاتب الدارسات الفرنسية بطرق غير قانونية وأخرى لم تكن البلاد بحاجة لخدماتها”.
ويقول الخبراء الاقتصاديون إن النفوذ الاقتصادي الفرنسي تضاعف في الجزائر خلال السنوات الـ10 الأخيرة من حكم بوتفليقة للجزائر، فيما كانت الحكومة الجزائرية تنتقد طبيعة المشاريع الفرنسية, واعتبرت بأن باريس “تنظر للجزائر كسوق لمنتجاتها وليست سوقاً استثمارية”.
وبناء على ذلك، قررت الحكومة الجزائرية منح الأولوية لمكاتب الدراسات المحلية في مختلف المشاريع التنموية، مع تجميد المشاريع الكبرى بسبب تداعيات جائحة كورونا وتهاوي أسعار النفط، وتأثير ذلك على عائدات البلاد التي تعتمد بشكل أساسي على المحروقات.
القمح.. 2.5 مليار
بوادر “الأزمة الاقتصادية” بين الجزائر وفرنسا بدأت من “حبات القمح” عندما قررت الجزائر في 2018 تنويع وارادتها من مادة القمح بعد أن كان القمح الفرنسي محتكرا “حصة الأسد” من واردات الجزائر بموجب “اتفاقيات إيفيان” الموقعة في مارس/آذار 1962 عشية نيل الجزائر استقلالها عن فرنسا، وفق ما يؤكده عدد من المؤرخين والباحثين الجزائريين.
ووفق ما كشفه الديوان الجزائري للحبوب، فقد تراجعت واردات الجزائر من القمح الفرنسي في 2020 بـ”نسبة 50%” في سابقة هي الأولى من نوعها منذ 58 عاماً، بعد أن تراجعت كميتها من 5.6 مليون طن سنوياً إلى 2.6 مليون، مقابل 1.3 مليون طن عامي 2017 و2018.
وهو ما يعني خسارة فرنسا لنحو “2.5 مليار دولار” من صادرات القمح للجزائر، إذا ما أخذ في الحسبان قيمة صادراتها للجزائر التي بلغت 5.5 مليار دولار في 2019، فيما تبلغ القيمة الإجمالية السنوية من استيراد الجزائر للقمح نحو 7.5 مليار دولار.
وظلت الجزائر لنحو 5 عقود كاملة “ثاني أكبر” مستورد للقمح اللين الفرنسي بكمية سنوية تقدر بحوالي 179 ألف طن، وهي تقريباً “نصف الكمية” التي تصدرها فرنسا خارج الاتحاد الأوروبي.
الديوان الجزائري أرجع أسباب التراجع إلى “انخفاض الإنتاج الفرنسي من القمح من 20.9 مليون طن في 2019 إلى 13 مليون طن في 2020″، فيما تأتي في المركز الـ3 عالمياً في استيراد القمح.
إلا أن البيانات الرسمية التي تكشفها الجهات التابعة للحكومة الجزائرية (الجمارك وديوان الحبوب) تؤكد وجود أسباب أخرى لذلك، أبرزها “توجه الجزائر نحو القمح الروسي”، إذ ارتفعت صادرات الجزائر منه بأكثر من 25% في 2020 مقارنة بـ2019، مع توجهها أيضا لتنويع صادراتها من مادة القمح من دول أوروبية أخرى بينها ألمانيا وبولونيا مع المحافظة على أسواقها في كندا والولايات المتحدة، وفق شروط صارمة تفرضها الجزائر لاستيراد القمح.
وحافظت الجزائر أيضا على مركزها “الثاني” ضمن أكبر مستوردي القمح الأرجنتيني في الأعوام الـ4 الأخيرة بواردات وصلت قيمتها إلى نحو 900 ألف طن منه بقيمة 160 مليون دولار.
كما لجأت الجزائر أيضا إلى توسيع المساحات الزراعية المستغلة لزراعة القمح بنسبة 20% في العامين الأخيرين، وقدمت تحفيزات مالية وآلات الحرث للمزارعين بهدف الرفع من كمية الإنتاج المحلي بغية الوصول إلى الاكتفاء الذاتي، وبلغ الإنتاج نهاية 2020 نحو 5.6 مليون طن من القمح والشعير.
المياه.. 277 مليون دولار
نهاية أبريل/نيسان الماضي، أعلن وزير الموارد المائية الجزائري مصطفى كمال ميهوبي في تصريح إعلامي بأن بلاده “لن تجدد عقد” شركة “سويز” الفرنسية لتسيير المياه في مدينتي العاصمة وتيبازة (وسط) والذي ينتهي آب/أغسطس المقبل.
وأشار إلى قرار رسمي بتخلي الحكومة الجزائرية عن خدمات شركة المياه الفرنسية التي تشرف على تسيير شركة “سيال” لتوزيع المياه منذ 2007 مع شركة “الجزائرية للمياه” الحكومية.
وأرجع الوزير الجزائري أسباب القرار إلى “مخالفات في مجال التسيير”، وكذا ارتفاع قيمة ديون الشركة التي وصلت إلى 18 مليار دينار في العاصمة فقط وهو ما يعادل 135 مليون دولار.
وبذلك تخسر شركة المياه الفرنسية إيرادات سنوية تقدر بـ277 مليون دولار، أغلبها كانت قابلة للتحويل خارج الجزائر.
المترو.. 130 مليون دولار
مع نهاية سبتمبر/أيلول 2020، أعلنت مؤسسة مترو الجزائر “إيما” عن تولي شركة جزائرية جديدة تشغيل وصيانة مترو العاصمة، وبأنه تقرر عدم تجديد العقد مع شركة المترو الفرنسية “راتبي باريس (RATP)” الذي انتهى في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
كما اقتنت الجزائر في يونيو/حزيران 2020 آلة ضخمة لحفر الأنفاق بهدف تسريع وتيرة أشغال توسيع شبكة المترو في العاصمة والقادرة على حفر 17 مترا يومياً.
وبذلك، خسرت الشركة الفرنسية أيضا أرباحاً سنوية قدرت بـ130 مليون يورو، بعد انتهاء عقدها في الجزائر الذي أبرم منذ 2007.
توتال.. 5.5 مليار دولار
وفي مايو/أيار 2020، سجلت فرنسا واحدة من أكبر خسائرها بالجزائر، بعد أن قررت الحكومة الجزائرية الإبقاء على شراكتها مع شركة “أناداركو” النفطية الأمريكية ورفضها صفقة استحواذ “توتال” الفرنسية على حصة الشركة الأمريكية بالجزائر.
وتستحوذ “أناداركو” على نسبة 24.5% من إنتاج وعائدات “حوض بركين” النفطي الواقع جنوب الجزائر (حاسي بركين وأورهود والمرك) مقابل 12.25% لشركة “توتال” الفرنسية و50% لشركة و”سوناطراك” الجزائرية الحكومية.
وبذلك، خسرت الشركة النفطية الفرنسية الحكومية عائدات سنوية بنحو 5.5 مليار دولار سنوياً في حال لم تتجاوز أسعار النفط 50 دولارا للبرميل، وهي حصة “أناداركو” في الجزائر والتي تبلغ نحو 260 ألف برميل يومياً، أي ما يمثل “ربع” إنتاج الجزائر من النفط.
شريك “مهم”
ورغم الانتكاسة الكبيرة لفرنسا في السوق الجزائرية، إلا أن باريس بقيت من “أهم” شركاء الجزائر التجاريين، وحافظت على موقعها ضمن أبرز موردي الجزائر.
ولا تزال باريس تحتل المركز الثاني ضمن قائمة موردي الجزائر بنسبة 9.72% وفق آخر إحصائية لمديرية الجمارك الحكومية الجزائرية خلال الشهرين الأولين من 2021، بينما بلغت قيمة واردات الجزائر من فرنسا في 2020 نحو 5.5 مليار دولار.
وهي المرتبة ذاتها التي حافظت عليها باريس ضمن أهم الدول التي صدرت نحوها البضائع الجزائرية خلال نفس الفترة من 2021 بنسبة 15.48%، بينما بلغت صادرات الجزائر إلى فرنسا في 2020 ما يقارب 4.5 مليار دولار.
العين الاخبارية