يعيش الجزائريون الذين ينتمون إلى الطبقات الكادحة الفقيرة والمتوسطة رعباً اقتصادياً، في ظل الارتفاع الصاروخي لأسعار المواد الاستهلاكية وثبات الأجور، فهم يدركون تماماً أنهم مقبلون على أزمة اقتصادية أشدّ عمقاً وأقوى تأثيراً وأكثر غموضاً نتيجة تفاعل قويّ بين تراجع أسعار النفط وتداعيات أزمة كورونا وتهاوي قيمة الدينار مقابل العملات الرئيسية.
فقد قفزت أسعار السلع الغذائية واسعة الاستهلاك بنسب فاقت 100 بالمائة في العديد من الأصناف خلال الفترة الممتدة من 2012 إلى 2021، بينما ارتفع الحدّ الأدنى للأجور في الجزائر بمقدار 2000 دينار جزائري، أي ما يعادل حالياً 14.69 دولاراً بسعر الصرف الرسمي خلال الفترة نفسها، وتحديداً من 18 ألف دينار (132.21 دولاراً) في سنة 2012 إلى 20 ألف دينار (146.9 دولاراً) في سنة 2021، وهو ارتفاع هزيل لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يختلف كثيراً عن “البقشيش”.
أما بالنسبة إلى أجور قطاعات التوظيف العمومي التي تفوق الأجر الأدنى المضمون، فلم يمسّها أي تغيير منذ سنة 2012.
على سبيل المثال، يتقاضى أستاذ التعليم الابتدائي من الصنف الـ 11 المُلزم بأداء 30 ساعة عمل أسبوعياً، أجراً اسمياً شهرياً مقداره 32 ألف دينار، أي ما يعادل 235.04 دولاراً، بينما يتقاضى في الواقع أجراً حقيقياً يُمكِّنه من اقتناء ذات مقدار السلع والخدمات التي كان يحصل عليها العامل بأجر نقدي لا يتعدَّى الحدّ الأدنى المضمون للأجر في سنة 2012.
وما هذا إلّا مثال بسيط على انزلاق الكثيرين من حشود الطبقة الوسطى إلى تخوم خط الفقر وانضمام العديد من الفقراء إلى طبقة المعدمين والمعوزين الغاطسين في بحور الجوع والمرض والبؤس والحرمان.
وبالرغم من تكاثر أعداد الفقراء وضمور الطبقة الوسطى لمصلحة الفقيرة، لا توجد الآن إحصائيات حديثة عن معدلات الفقر تتحدّث وحدها وتكشف هذا المشهد السوداوي في الجزائر، فكل ما يتوافر حالياً، هو بعض الأرقام القديمة عن نسب الفقر التي تعود إلى سنة 2011، وهي ليست إحصائيات دقيقة، ولا موضوعية، ولا تُشكِّل مصدراً علمياً موثوقاً به.
هناك عدة أسباب تقف وراء انخفاض القدرة الشرائية إلى النصف في الجزائر، منها سياسة الأجور التي لا تتماشى مع المتغيِّرات الاقتصادية الراهنة.
وحسب أحدث نسخة من مؤشر متوسِّط صافي الراتب الشهري الصادر عن موقع numbeo المتخصِّص بمقارنة غلاء المعيشة بين دول ومدن العالم، احتلَّت الجزائر المرتبة الـ 103 عالمياً من بين 109 دول في تصنيف متوسِّط صافي الراتب الشهري، بمتوسِّط دخل بلغ 245.36 دولاراً شهرياً، متفوِّقة بذلك فقط على مصر (223.51 دولاراً شهرياً) وسورية (75.98 دولاراً شهرياً) التي احتلَّت المرتبة الأخيرة.
وما يثير الدهشة، تفوُّق العديد من الدول العربية على الجزائر في سباق الأجور، بالرغم من افتقارها إلى العديد من الثروات الطبيعية، كالأردن (584.6 دولاراً شهرياً)، المغرب (459.10 دولاراً شهرياً) وتونس (294.71 دولاراً شهرياً).
حتى العراق المنهك من الصراعات والحروب تفوَّق على الجزائر واحتلَّ المرتبة الـ 66 عالمياً بمتوسِّط دخل بلغ 563.59 دولاراً شهرياً.
هناك تفاوت في الأجور بين القطاعات، حيث يحصل موظَّفو قطاع المحروقات والخدمات البترولية وقطاعات المالية والنقل والاتصالات على رواتب أعلى من تلك التي يتقاضاها موظَّفو قطاعي الصحة والتعليم في الجزائر.
ويتقاضى النائب البرلماني ما يفوق 15 ضعف الحدّ الأدنى للأجور و9 أضعاف ما يتقاضاه أستاذ التعليم الابتدائي، بالإضافة إلى حصوله على العديد من الامتيازات كتلك المتعلِّقة بالسكن والنقل والهاتف.
هناك توقُّعات بوصول عجز الموازنة في الجزائر إلى 25 مليار دولار، ما يجعل رفع الأجور في الظروف الحالية ضرباً من المحال، علماً أنّ الكتلة الاجمالية للأجور تحتلّ ما يفوق 60 بالمائة من ميزانية التسيير التي تمثِّل بدورها قرابة 65 بالمائة من ميزانية الدولة.
يرجع أيضاً تقهقر القدرة الشرائية للجزائريين إلى تهاوي قيمة الدينار الجزائري الذي فقد 45 بالمائة من قيمته أمام الدولار خلال الفترة الممتدة من 2010 إلى 2021، الأمر الذي انعكس سلباً على أسعار السلع المستوردة من الخارج.
بالإضافة إلى اتِّساع حلقة التضخُّم الجامح الذي من المتوقَّع أن يصل إلى 4.93 بالمائة في نهاية السنة الجارية، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، وتوسُّع دائرة البطالة التي من المتوقَّع أن يصل معدَّلها، حسب صندوق النقد الدولي، إلى 14.54 بالمائة في سنة 2021، والإفراط في سياسة طبع النقود تحت غطاء التمويل غير التقليدي، وممارسات المضاربة وضعف تنظيم السوق الداخلية والاحتكارات الناتجة من غياب الرقابة، وسياسة كبح فاتورة الواردات التي ساهمت بشكل أو بآخر في ارتفاع أسعار بعض السلع والمنتجات في ظلّ غياب المنافسة، كالسيارات على سبيل المثال.
قد تعتبر الجزائر البلد العربي الوحيد الذي تُباع فيه السيارات المستعملة والقديمة بأثمان جنونية تفوق بكثير أسعار مثيلاتها في باقي دول العالم، دون أن ننسى أزمة كورونا التي فتحت المجال واسعاً أمام تسريح العمال وحسم الأجور، وخصوصاً في القطاع الخاص، وارتفاع أسعار الغذاء العالمية بأسرع وتيرة لها منذ سنوات بسبب ارتفاع الطلب العالمي، أزمة المناخ، موجات الجفاف، فيروس كورونا، الصراعات، وارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الشحن البحري.
تدور الحكومة حالياً في لعبة تشبه لعبة المتاهة، أسيرها هو المواطن البسيط الذي يصعب عليه الخروج من شرنقتها؛ لا يمكن الحكومة أن ترفع الأجور، فهذا أشبه بالانتحار اقتصادياً، ولا يمكنها فرض المزيد من الضرائب فهذا سيُولِّد انفجاراً شعبياً، ولا يمكنها أيضاً توسيع قائمة المواد الاستهلاكية المُدعَّمة للمحافظة على ما بقي من القدرة الشرائية للبسطاء.
فالحكومة تعتزم الآن إصلاح الدعم تدريجاً، وتوجيه الإعانات إلى مستحقِّيها الذين لم تحدِّدهم بعد، ولن تفعل ذلك في القريب العاجل، في ظلّ غياب تطبيق الرقمنة الشاملة والافتقار للشفافية.
خلاصة القول، يبقى باب الخلاص الوحيد من هذه المتاهة، تدوير العجلة الاقتصادية من خلال استقطاب الاستثمارات، تطوير القوى الإنتاجية، التسيير الجِدِّيّ والفعّال لثروات البلاد والقيام بحملة تطهير شاملة لخلع الفساد من جذوره وإعطاء الفرصة للمهنيين والمخلصين لهذا الوطن، وإقصاء الفاسدين الذين ينوون استنزاف ما بقي من أموال الشعب الجزائري وثرواته.
العربي الجديد