أدى تراجع مستوى التعليم في تونس وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي إلى تنامي ظاهرة الهجرة السرية بشكل عام وخصوصاً بين العائلات والأطفال والقصر، وباتت الظاهرة لافتة ومثيرة لعدة أسئلة حول أسبابها الجلية والخفية وسبل معالجتها باعتبارها ظاهرة مركبة يتداخل فيها الاجتماعي مع التربوي والثقافي.
ولم تعد الهجرة السرية جاذبة للشباب العاطل عن العمل فحسب بل باتت تستقطب الأطفال والقُصر وحتى العائلات كما مست الشرائح التي كانت إلى زمن قريب صمام أمان المجتمع التونسي وهي “الطبقة الوسطى” التي تآكلت والتحقت بالطبقة الفقيرة بسبب غلاء الأسعار وارتفاع التضخم وتدهور المقدرة الشرائية وعدم قدرة الدولة على التحكم في سوق الإنتاج، فأصبحت الهجرة هاجس أغلب التونسيين الباحثين عن غد أفضل ومستقبل آمن لأبنائهم.
خُمس التونسيين يرغبون في الهجرة
وقد كشف المسح الوطني للهجرة الذي أنجزه المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع المرصد الوطني للهجرة أن خمس التونسيين يرغبون في الهجرة لعدة أسباب أولها الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
وأكد رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في تونس، عزوز السامري، أن “عدد الأشخاص الوافدين إلى إيطاليا من ليبيا وتونس ارتفع بنسبة 33 في المئة عام 2021 مقارنة بعام 2020″، مضيفاً أن “السلطات الإيطالية أحصت وصول قرابة 10 آلاف طفل، بطريقة غير نظامية منهم 2700 طفل تونسي خلال 2021”.
وبين السامري على هامش النسخة السابعة من المدرسة الصيفية حول الهجرة التي انعقدت بمقر بلدية العاصمة أنه “من بين 8 آلاف مهاجر في تونس هناك 1800 من الأطفال”، مشيراً في هذا السياق إلى “استفادة 400 مهاجر من تدابير الحماية الاجتماعية والقضائية، إضافة إلى رعاية 113 طفلاً مهاجراً معرضين للخطر”.
وأرجع رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في تونس الأسباب الكامنة وراء تزايد عمليات الهجرة السرية إلى “الاضطرابات الاجتماعية في عديد دول جنوب المتوسط”، إضافة إلى “الوضع الأمني المتدهور في ليبيا وانعدام الحلول الاقتصادية والاجتماعية في عدد من الدول الأخرى”.
وتستفيد العائلات من قانون إيطالي يحظر إعادة القصر والأطفال غير المصحوبين بعائلاتهم الذين يصلون إلى شواطئ إيطاليا كما باتت عائلات تونسية كاملة تهاجر لتستفيد من القانون نفسه.
التفكك الأسر
ويؤكد زير الثقافة السابق والمتخصص في علم الاجتماع مهدي المبروك في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، أن الإحصائيات غير دقيقة “قد تكون الأرقام أعلى”، مشيراً إلى “ضرورة التمييز بين الأطفال المرافقين لعائلاتهم وهي نوع جديد من الهجرة (هجرة العائلات)، والأطفال غير المرافقين لعائلاتهم وهي ظاهرة ناتجة عن حالات التفكك الأسري وغياب أشكال الحضانة والمرافقة والتأطير من قبل المؤسسات البديلة (نوادي أطفال، ودور شباب، ودور ثقافة) التي باتت غير قادرة على استيعاب الأطفال وتوفير الأنشطة التي تتماشى وميولاتهم”.
وحذر مبروك من “إمكانية توظيف هؤلاء الأطفال في شبكات جريمة منظمة كالدعارة والتسول والإدمان”، لافتاً إلى أن “بعض العائلات تدفع أبناءها إلى الهجرة السرية، لتستفيد من قانون الدولة التي يقيم فيها الطفل، وتلتحق بأبنائها الذين وقع إدماجهم وفق القانون الأوروبي، وتوفير كل ما يحتاجونه من تعليم وتكوين”.
سرد الأرقام وحده لا يكفي
من جهته، يؤكد أستاذ علم الاجتماع في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس عبدالستار السحباني، في تصريح خاص، أن “الهجرة باتت موضة المجتمع التونسي اليوم”.
وينتقد السحباني “أشكال التعاطي مع ملف الهجرة السرية سواء في مؤسسات الدولة أو في وسائل الإعلام والمنظمات المدنية التي قال إنها تكتفي بسرد الأرقام والإحصائيات حول الهجرة السرية من دون الغوص في الأسباب الحقيقية وتقديم الحلول المناسبة”.
وأضاف، أن “المدرسة التونسية تلفظ يومياً 300 تلميذ”، متسائلاً عن “مآل هؤلاء التلاميذ التي هي شبكات الإرهاب في وقت سابق، واليوم شبكات التجارة الموازية أو عالم الجريمة أو استقطابهم في الهجرة غير النظامية”.
ويحمل السحباني المسؤولية المباشرة إلى الدولة والأحزاب السياسية التي “لا تعتبر مسألة الهجرة السرية من أولوياتها، بينما يتاجر المجتمع المدني بهذا الملف من خلال الاكتفاء بسرد الإحصائيات، من دون البحث عن الحلول والانخراط في معالجة الظاهرة من خلال أعمال تطوعية كتقديم الإحاطة للأسر التي فقدت أبناءها وتوعية بقية العائلات بخطورة الظاهرة”.
ودعا أستاذ علم الاجتماع الدولة إلى “بلورة استراتيجية هادفة تعيد إلى المدرسة مكانتها وتجعلها جاذبة للتلميذ للحد من الانقطاع المدرسي والبحث في أسبابه، من خلال التواصل المباشر مع عائلة التلميذ المنقطِع وخلق علاقة ثقة بين التلميذ والمدرسة التي يجب أن تكون منفتحة على محيطها، حيث يمارس فيها التلميذ الرياضة والأنشطة الثقافية ويشعر فيها بالانتماء إلى محيط حي ونشيط”.
مجهود جماعي ومسؤولية مشتركة
في المقابل، دعت مديرة المركز الوطني للهجرة (مؤسسة عمومية) أحلام الهمامي إلى “تضافر جهود كل الأطراف المتدخلة في مجالي الهجرة والطفولة لإيلاء هذا الموضوع الأهمية اللازمة باعتبار خصوصية الفئة المستهدفة، التي تتميز بهشاشتها المضاعفة وقابليتها للاستغلال”.
وذكرت أن “تونس صادقت على جميع الاتفاقيات التي تحمي حقوق الطفل وتُعد من بين 152 دولة اعتمدت الميثاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة”، معتبرة أن “مكافحة هجرة الأطفال مجهود جماعي ومسؤولية وطنية مشتركة بين الدولة والمجتمع المدني والمنظمات الدولية”.
وأكدت المديرة العامة للمرصد الوطني للهجرة أن “الدولة التونسية حريصة على حماية حقوق الأطفال بمن فيهم المهاجرون، وواعية بضرورة اليقظة والاستعداد الجيد للتعامل مع هذه الظاهرة المعقدة ومتعددة الأبعاد، قصد تأمين سبل الحماية المستوجبة”.
بقلم: حمادي معمري صحفي تونسي
independentarabia