تتوالى أخبار غرق المزيد من المهاجرين في البحر المتوسط، لكن ماذا عن المفقودين هناك؟ كيف تتأقلم العائلات مع ذلك؟ فريق مهاجر نيوز تحدث مع أمهات تونسيات يبحثن بجهودهن الخاصة عن نهاية تعطيهن فرصة للحزن على أحبائهن المفقودين.
قد يكون الزمن كفيل بالنسيان ورتق الجروح بالنسبة للكثيرين، لكن الأعوام المتوالية لم تكن لتفي بالغرض وتجفف دموع الأم التونسية فاطمة ذات الـ65 عاما. “عشر سنوات مضت ولا أزال أترقب كل يوم سماع أي خبر حول ابني”.
بينما تلف وشاحها التقليدي المزركش تمشي بخطوات ثقيلة، وتقول مستذكرة “في إحدى الليالي السوداء خرج ابني الذي كان يبلغ حينها 21 عاما مع أصدقائه على مركبهم المخصص للصيد”. كانوا ينوون الهجرة عبر البحر المتوسط باتجاه جزيرة لامبيدوزا الإيطالية بحثا عن حياة كريمة بعيدا عن مدينتهم الساحلية جرجيس، “وإلى يومنا هذا لا نعلم ما حلّ بهم”.
بعد سقوط نظام بن علي في العام 2011، استغل آلاف الشباب التراجع الأمني وغياب المراقبة على السواحل التونسية، وانطلقوا على متن قوارب ومراكب شرعية باتجاه القارة الأوروبية. وخلال شهر شباط/فبراير وحده من ذلك العام، تجاوز عدد الواصلين إلى جزيرة لامبيدوزا الأربعة آلاف، لكن طريق وسط البحر المتوسط الذي يعد الأكثر فتكا في العالم، سلب أيضا أرواح الكثيرين، منهم من وُجدت جثته ومنهم من فُقد أثره.
أمام مدخل المنزل تتوسط شجرة تين وحيدة الباحة الأمامية، وتطل على المطبخ الصغير الذي تفوح منه رائحة طبق الكسكس الذي أنهت إعداده فاطمة للتو. تخرج باتجاه غرفة الجلوس ويلحق بها ابنها علي (27 عاما) وبيده أدوات المائدة ليضعها على طاولة بلاستيكية تحيط بها بضعة كراسي، حيث يجلس زوجها المتعب قليل الكلام.
تدخل فاطمة إلى غرفة النوم وتلوح بيدها إلى فريق مهاجرنيوز للانضمام إليها. تتوقف لبرهة بجانب سرير نومها الذي يعلوه إطار خشبي وضعت فيه صورة ابنها المفقود إلى جانب صورتها هي وزوجها. تنهمر الدموع من عينيها بشكل لا إرادي، تجففها بوشاحها لتسترد قواها قائلة “أريد فقط معرفة مصير ابني. أشعر بالتعب”.
الأمل هو ما يقوّيها على تحمل الأيام، “لربما هو على قيد الحياة”، تخرج من فمها هذه الكلمات لكنها تعلم يقينا أن ذلك غير ممكن، يقاطعها ابنها علي قائلا “بالطبع هو ميت. هذا قدره”. ومن ثم يطول الحديث بين الأم وولدها حول الملف الذي قدموه لمحامي استعانوا به من أجل البحث عن جثة ابنها، “أجرينا اختبارات الحمض النووي لكننا لا نزال ننتظر”.
جهود فردية للبحث عن المفقودين
إجراءات عدة اتخذتها هذه العائلة بمفردها دون متابعة من الجهات الرسمية التونسية. ويبدو أن قضية البحث عن المفقودين ليست ضمن أولويات الحكومة التونسية. وبعد الضغوطات المتزايدة من مئات العائلات التونسية تكونت لجنة وزارية مسؤولة عن هذا الملف منذ سنوات عدة، لكنها لم تعط أية نتائج ملموسة. وبالتالي، كان على أهالي المفقودين تدبر أمورهم بأنفسهم، وأسست مجموعة نساء تونسيات جمعية “أمهات المفقودين”.
ونظمت الجمعية مظاهرة في أيلول/سبتمبر الماضي في العاصمة تونس، ودعت رئيس الجمعية فاطمة كسراوي رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى فتح ملف المفقودين، معتبرة أن الحكومات المتعاقبة قامت بالتلاعب بهذه الملفات ولم توليها الاهتمام الكافي، حسب قولها.
أرى ابني في كل غرفة من المنزل
وفي رحلة نظمتها الجمعية بالتعاون مع جمعية “caravane migranti” الإيطالية وبدعم من منظمة “سي آي” الألمانية، ذهبت 11 امرأة تونسية بين 2 و7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي إلى جزيرتي صقلية ولامبيدوزا من أجل البحث عن أقاربهن المفقودين في البحر، وللتنديد أيضا بسياسات الهجرة.
سامية جبلون (52 عاما)، كانت إحدى الأمهات التونسيات اللواتي ذهبن إلى إيطاليا، للبحث عن ابنها فادي الذي فقدته منذ 17 شباط/فبراير الماضي. وخلال اتصال هاتفي مع مهاجرنيوز، تقول الأم التي تعمل مدرّسة في مدينة قليبية شمال شرق تونس “لم يخطر لي يوما أن ابني سيهاجر عبر البحر. لقد كان يدرس في جامعة العاصمة في قسم الهندسة ويبلغ من العمر 21 عاما”.
وأثناء زيارة فادي بيت أهله لبضعة أيام، خرج مع أبناء عمه الذين يمتلكون قارب صيد بقصد الهجرة إلى أوروبا، لربما أراد أن يلتحق بشقيقته المتزوجة والتي تعيش في فرنسا. “بعدما علمت أنه كان على متن قارب بقصد الهجرة وانقطعت الأخبار عنهم، شعرت بحرارة داخلية سيطرت على جسدي”.
بكلمات تخفي مقدارا كبيرا من الألم والحسرة، تضيف “لا أستطيع العودة إلى المنزل الذي كنا نسكن به. أرى ابني في كل غرفة. لذلك انتقلنا أنا وزوجي إلى بيت آخر”.
ترك زوجي عمله في الصيد، فهو لم يعد قادرا على تحمل رؤية البحر
هناك عائلات وجدت أخيرا نهاية لبحثها الذي استمر لأشهر أو حتى سنوات. ورغم أن النهاية لا تزال مأساوية لكنها تعطي فرصة للأقارب لوضع حد للبحث المستمر والحزن على موتاهم.
جليلة تالا (49 عاما)، تعيش في مدينة بنزرت شمال شرق البلاد، فقدت ابنيها الاثنين منذ ثلاثة أعوام، “مهدي (22 عاما) وهادي (24 عاما). غادرا تونس على متن القارب نفسه في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2019. كانوا ستة أشخاص على متن القارب، ثلاثة منهم لا يزالون مفقودين حتى يومنا”.
بعد حوالي شهرين على مغادرة ولديها، “وقعت عيناي على صور نشرتها صحيفة إيطالية. شاهدت الصور بتمعن وتعرفت على وشوم أبنائي”. وبدأت بعدها دوامة الإجراءات الإدارية، “كنت أذهب كل يوم أمام وزارة الخارجية دون أن ألقى دعم أو أية مساعدة. أم تفقد ولديها الاثنين وفوق كل ذلك الحكومة لا تفعل شيئا، ولا تساعدنا على إنهاء معاناتنا المضاعفة”…
وبالتعاون مع السلطات المحلية الإيطالية، تمكنت جليلة من إعطاء حمضها النووي الذي تطابق مع عينات جثتي ابنيها.
استطاعت أخيرا جليلة جلب الجثتين في 28 نيسان/أبريل من هذا العام، ودفنت ولديها في مقبرة مدينتها “كل صباح أذهب لأزور ولدي”، بصوت خافت وكلمات متقطعة تقول الأم التونسية “لا يوجد لدي ما أقوله. أنا محطمة بالكامل”.
كان مهدي وفادي يعملان في الصيد، لكن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلد وصعوبات العمل المتزايدة بالنسبة للصيادين التونسيين، قرر الشابان الهجرة. تضيف جليلة “زوجي صياد أيضا. لكن منذ هذه الحادثة تدهورت صحته وبات لديه مشاكل في الكبد. ترك عمله في الصيد، فهو لم يعد قادرا على تحمل رؤية البحر. وبتنا نعتمد على مساعدات من العائلة والأصدقاء كي نكمل حياتنا”.
وخلال زيارة فريق مهاجرنيوز مدينة جرجيس التونسية، قال البحار والناشط التونسي صلاح الدين مشارك “منذ العام 2015 بتنا نرى المزيد من الصيادين الشباب يبيعون مراكبهم وأدواتهم من أجل الهجرة إلى أوروبا. ظروف العمل غير الملائمة لا تشجعهم على البقاء”.
طريق الهجرة عبر وسط البحر الأبيض المتوسط يعد الأكثر فتكا على مستوى العالم، بسبب طول مدة الرحلة التي قد تستغرق أياما، فضلا عن أنماط التهريب الخطرة، إضافة إلى الفجوات في قدرات البحث والإنقاذ. منذ العام 2014، سجل أكثر من 17 ألف حالة وفاة واختفاء في وسط البحر المتوسط، بحسب برنامج المفقودين التابع لمنظمة الهجرة الدولية، كما أن هناك الكثير من الحوادث غير المسجلة، وعُثر على مئات الرفات البشرية على الشواطئ شمال أفريقيا ولم تكن مرتبطة بأي حطام سفينة معروف.
دانا البوز
المصدر: مهاجرنيوز