بينما كان المراقبون في الجزائر وفرنسا يتوقعون أن تكون زيارة وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي للجزائر في 8و9 أبريل الجاري نقطة إنطلاق جديدة لمحادثات البلدين حول إتفاقية الصداقة بعد أن جمدها قانون 23 فبراير ،2005 فوجىء الجميع بفشل ذريع للزيارة عبرت عنه بوضوح تصريحات وزير الخارجية الجزائري محمد بجاوي·
ثم تلته التصريحات النارية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة في قسنطينة حول ‘إبادة الهوية الجزائرية’ من طرف الاستعمار، والتي رد عليها بلازي بالعودة إلى تمجيد الاستعمار والحديث عن دوره’الإيجابي’ في الجزائر·· مما يعني أن العلاقات بين البلدين عادت إلى نقطة الصفر وأن إرث الماضي الأليم لايزال يلقي بظلاله الكثيفة على ‘معاهدة الصداقة’ ويضعها عمليا في الثلاجة إلى إشعار آخر·
وقد أكدت زيارة بلازي للجزائر حقيقة هامة وهي أن المادة 4 من قانون تمجيد الاستعمار قد أيقظت مواجع الجزائريين على نحو يصعب تجاوزه لفترة قد تستمر سنوات بعد أن كان الطرف الفرنسي يعتقد أن أسابيع قليلة كافية لقلب صفحة قانون 23 فبراير·
ولعل هذا ما عبر عنه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لدى زيارته إلى قسنطينة يوم 15 أبريل الجاري حينما صرح بأن الاستعمار الفرنسي ارتكب ‘إبادة’ حقيقية بحق هوية الجزائريين ولغتهم وتقاليدهم حتى لم يعد الجزائريون يعرفون ما إذا كانوا من الامازيغ أم العرب أم فرنسيين؟! وقال متتبعون : إن بوتفليقة أعاد التذكير بما صرح به في وقت سابق حول ‘إبادة هوية الجزائريين ولغتهم’ للتملص من توقيع إتفاقية الصداقة في المدى المنظور؛ إذ أن بين البلدين حاجزا تاريخيا ثقيلا لايمكن تجاوزه بمعاهدة’صداقة’ مصطنعة·
أما الضربة القاضية فجاءت من وزير الخارجية الفرنسي دوست بلازي الذي صرح فجأة لإذاعة مونتي كارلو يوم 18 أبريل ردا على تصريح بوتفليقة بأن ‘السياسة تبنى على النظر إلى المستقبل وليس على الحقد’· وأكثر من ذلك أبدى بلازي، تحت وطأة الشعور بالمرارة لفشله في الجزائر قبل أيام، إيمانا راسخا بـ’إيجابية ‘الاستعمار الفرنسي للجزائر حينما قال إنه بعد فترة’ هول الغزو’ جاءت مرحلة البناء والتشييد ؛ حيث أدى المدرسون والمهندسون والأطباء عملهم بإتقان!
وصدم التصريح الجزائريين مرة أخرى وأكد لهم أن إلغاء المادة 4 من قانون 23 فبراير ليس إلا تكتيكا فرنسيا للتوصل إلى توقيع معاهدة’الصداقة’ مع الجزائر لإحكام الطوق الفرنسي حولها، بينما يؤمن الساسة الفرنسيون في أعماقهم بأن استعمار الجزائر كان’إيجابيا’ طيلة 132 سنة، ولم يكن ‘فظيعا’ إلا في الشهور الأولى للغزو والسيطرة على الأراضي الجزائرية عام 1830 ، كما يعتبرون إصرار الجزائر على إثارة مسألة الجرائم الاستعمارية تمهيدا لمطالبة فرنسا بالاعتذار عنها، ‘حقدا’ مضرا بالعمل السياسي!
وحتى على الصعيد الشعبي الفرنسي ،فإن الأمور لاتختلف؛ إذ أكدت نتائج سبر للآراء أجري قبل شهور قليلة أن ثلثي الفرنسيين يؤيدون الإبقاء على قانون تمجيد الاستعمار الذي صادق عليه ممثلوهم في البرلمان الفرنسي بغرفتيه·
يقول ‘محمد بولحية’ قيادي بـ’حركة الإصلاح الوطني’ بهذا الصدد لـ’الاتحاد’ إن الاستعمار الفرنسي ارتكب 15 صنفا من الجرائم بحق الجزائريين ومنها أعمال الإبادة الجماعية التي ذهب ضحيتها أكثر من 7 ملايين جزائري طيلة 132 سنة وكذا تدمير8 آلاف قرية وحرق آلاف المواطنين داخل مغارات لجؤوا إليها للاحتماء من البطش الاستعماري، واستعمال النابال والأسلحة المحرمة ضد المجاهدين، والتعذيب والتشريد واغتصاب أخصب الأراضي ومنحها ل400 ألف معمر أوربي ويهودي بعد طرد الفلاحين إلى الجبال، وجرائم أخرى لاتحصى·
وأبدى بولحية ارتياحه العميق لتأجيل توقيع إتفاقية الصداقة بين الجزائر وفرنسا إلى غاية تصفية كل الملفات التاريخية بإتجاه اعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية والاعتذار عنها، وطالب السلطات الجزائرية بمواصلة الضغط على فرنسا لتقوم بما طالبت به ألمانيا من الاعتذار عن جرائمها النازية بحقها حيث لم تقبل فرنسا إمضاء معاهدة صداقة معها إلا بعد اعتذارها لها رسميا عن جرائم هتلر· فلماذا لاتطالب الجزائر فرنسا بالاعتراف بجرائمها والاعتذار والتعويض عنها؟
أما ‘لخضر بن سعيد رئيس’ سابق لمنظمة أبناء الشهداء فيقول إن الوقت حان للانتقال من مرحلة التنديد إلى مرحلة الفعل؛ حيث قرر رفقة ثلة من الجزائريين المخلصين مقاضاة فرنسا على جرائمها الاستعمارية أمام المحاكم الدولية، وشرع في جمع ملفات المتضررين من الاستعمار وبخاصة الذين تعرضوا للتعذيب، قصد تجسيد الفكرة قريبا·
وفي نفس السياق، وجد التيار العروبي الرافض لتوثيق العلاقات مع فرنسا، في قانون تمجيد الاستعمار ثم تصريحات دوست بلازي، فرصة لتكثيف الدعوات للخروج من التبعية اللغوية والاقتصادية لفرنسا وتمتين العلاقات مع الدول العربية والإسلامية باعتبارها المحيط الطبيعي للجزائر، فقد تخلفت الجزائر عن ركب التعريب طويلا وأحكم عليها التيار الفرنكفوني العميل الطوق وألحقها بفرنسا وآن الأوان لإعادة الجزائر لمحيطها الطبيعي·
وقد سألت’الاتحاد’ عبد العزيز بلخادم وزير الدولة الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية عما إذا كانت الجزائر قد صرفت النظر عن توقيع معاهدة الصداقة؟ فنفى ذلك وقال : إن الجزائر تريد أن تبني معاهدة صداقة على أسس صحيحة تقتضي وجود نظرة موضوعية من جانب دولتين سيدتين ومتساويتين تجاه المستقبل المشترك، بعيدا عن منطق الأبوية والحنين إلى الماضي الاستعماري· وأشار بلخادم إلى أن حزب الأغلبية هو الذي صادق على القانون الممجد للاستعمار،وشدد على أن ‘واجب حماية الذاكرة’ يجب أن يكون واضحا ومضمونا في معاهدة الصداقة، حيث لايكون هناك مجال لطمس الحقائق والوقائع التاريخية· من جانبه اعتبر’عبد الحميد مهري’ الأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير الوطني وواحد من الشخصيات التاريخية، بأنه من غير الممكن التعليق على الموقف الرسمي الجزائري، دون الحصول على تفاصيل وخلفيات غائبة عن العامّة·· مشيرا في المقابل إلى أن التصريحات التي صدرت عن المسؤولين الجزائريين بشأن شروط التوقيع على معاهدة الصداقة مسؤولة ومبررة·
أما محمد القورصو رئيس جمعية 8 مايو 1945 ، فقد أرجع التغير في الموقف الرسمي الجزائري إلى تداعيات قانون 23 فبراير الذي أحيا الجرح الاستعماري في الجزائر، وألمح إلى أن هناك تسابقا أميركيا ـ فرنسيا على الجزائر، والرئيس شيراك الذي يدرك بأن الشركات والمستثمرين الفرنسيين ترددوا وتأخروا في الدخول إلى السوق الجزائرية، يحاول من خلال ‘معاهدة الصداقة’ تدارك هذا التأخر، في الوقت الذي حققت دول مثل الولايات المتحدة و الصين مكانة متميزة في السوق الجزائري والجزائر اليوم استرجعت مكانتها على المستوى الإقليمي والدولي، ومن حقها أن تختار الطرف الذي تتعامل معه بما يحقق مصالحها، ومن حقها أن تضبط رزنامة التوقيع على المعاهدات الدولية بما يخدم تلك المصالح· وخلاصة القول إن قانون 23 فبراير 2005 وبرغم التخلي عنه، جاء ليلقي بظلاله القاتمة على ‘معاهدة الصداقة’ الجزائرية- الفرنسية ويفتح ملفات تأجلت طيلة 44 سنة من استقلال الجزائر وفي مقدمتها رفض فرنسا الاعتراف بالجرائم الاستعمارية وتقديم اعتذار علني عنها· وقد أكد تصريح بلازي لإذاعة مونتي كارلو مدى إصرار الساسة الفرنسيين على تمجيد ماضي بلدهم·
وفي الجهة المقابلة، تصر الجزائر على الاعتراف والاعتذار كشرط أساسي لتوقيع معاهدة صداقة حقيقية بين البلدين··وفي ظل تناقض مواقف البلدين وتباين رؤيتهما للإرث التاريخي، يمكن القول : إن التوقيع على المعاهدة لن يكون غدا وقد صرح مسؤول فرنسي أنه يتوجب انتظار 10 إلى 15 سنة لتجاوز خلافات البلدين وإمضاء معاهدة الصداقة ، ويمكن لهما الآن الاكتفاء بعلاقاتهما ‘الوثيقة’ في شتى المجالات وبخاصة الاقتصادية والثقافية، حتى وإن أبدت الجزائر في الأسابيع الأخيرة ميلا واضحا للإتجاه إلى إقامة علاقات اقتصادية وعسكرية وأمنية وثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية، إلى درجة أن وزير الخارجية الجزائري الذي طار إلى واشنطن بعد يومين فقط من فشل زيارة بلازي للجزائر ولم يجد حرجا من التصريح هناك بأن ثقل الولايات المتحدة الاقتصادي في الجزائر بات أكثر من ثقل فرنسا·
المصدر : الاتحاد