تكررت قطارات المصالحة الوطنية الفلسطينية على مدى عدة سنوات، وتحديدا بعد الشرخ العميق الذي أحدثه استيلاء حركة المقاومة الإسلامية «حماس» على السلطة في قطاع غزة وإخراجه من تحت مظلة السلطة الوطنية الفلسطينية منذ شهر يونيو 2007 بعد صدامات عسكرية عنيفة بين «حماس» وحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، ورغم كثرة هذه القطارات التي تبنى قيادتها العديد من الدول العربية في مقدمتها مصر، فإن أيا من هذه القطارات لم يصل إلى محطته الرئيسية، فبعضها تحرك مسافات قصيرة جدا ثم توقف، والبعض الآخر لم يغادر محطة وقوفه على الإطلاق، ليؤكد ما ذهب إليه البعض من أن المصالحة الوطنية الفلسطينية تحولت إلى ما يشبه المرض المزمن في الجسد الفلسطيني.
بنظرة تشخيصية للوضع الوطني الفلسطيني وتعثر قطارات المصالحة كلها، من دون استثناء، يتضح أن الخلل ليس في القاطرة ولا في من يتبنى تشغيلها ويسعى لإطلاقها نحو هدفها الاستراتيجي، أي وضع نهاية لهذا الشرخ الخطير الذي يهدد مستقبل القضية الفلسطينية، وخاصة في ظل حكومات اليمين «الإسرائيلي» المتطرف الذي يرفض بشكل قاطع الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، الخلل يكمن في الركاب وليس في العربة، أي جميع فصائل العمل الوطني الفلسطيني، وخاصة حركتي «فتح» و«حماس» باعتبارهما أكبر فصيلين وأقواهم عسكريا وجماهيريا.
تجارب مساعي المصالحة الفلسطينية السابقة -وخاصة تلك التي قادتها جمهورية مصر العربية- لم تؤد إلى أي نتيجة إيجابية لصالح القضية الفلسطينية. التجارب الفاشلة السابقة تقوي من الشكوك حول إمكانية نجاح الجهود الجزائرية الحالية حيث تحتضن جولة أخرى من جولات المصالحة الفلسطينية، لا يغير من ذلك «الجدية» والتجاوب اللذان أبدتهما الفصائل الفلسطينية و«استعدادها» للتعاطي مع المبادرة الجزائرية، فمثل هذه المواقف تكررت مع إطلاق أي مبادرة مصالحة عربية، ومع ذلك كان مصير هذه المبادرات هو الفشل والعودة مرة أخرى إلى الاقتتال السياسي بين هذه الفصائل.
تعترف جميع الفصائل الفلسطينية بتأثير الانقسام الفلسطيني على حضور القضية الفلسطينية في المحافل الدولية وعلى قوة الموقف الفلسطيني في مواجهة السياسة التعسفية التي تنتهجها سلطات الاحتلال حيال الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني وقدرة الفلسطينيين على التصدي لهذه السياسة، إذ يقر قادة الاحتلال بفائدة الانقسام الفلسطيني بالنسبة على سياسة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وهو ما تؤكده مواقف قادة الاحتلال الرافضة لتسوية الخلافات بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة «حماس» بحجة أن الاحتلال يعتبر «حماس» حركة «إرهابية».
هذا الاعتراف الفلسطيني لم نجد له أثرا على أرض الواقع، رغم الضعف والوهن الذي يعاني منه الموقف الفلسطيني في مواجهة استمرار سياسة مصادرة الأراضي والتوسع وإقامة المزيد من المستوطنات، وخاصة في الضفة الغربية المحتلة، فالشرخ داخل الجسد الفلسطيني تحول إلى شرخ مزمن، وآخذ في الاتساع كلما طالت مدة الخصومة، والفجور فيها أحيانا، إذ وصل إلى حد التخوين والتشكيك في وطنية بعض الرموز الوطنية الفلسطينية، الأمر الذي يسهم بقوة في تعميق الخلافات وعرقلة جهود المصالحة أيا يكن الواقف وراءها.
فالجزائر، التي تحتضن جهود المصالحة الحالية، لديها مواقف مبدئية ثابتة وقوية فيما يتعلق بتأييدها للقضية الفلسطينية وبحق الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه المشروعة، في مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس المحتلة، وأكد رئيسها عبدالمجيد تبون «أن القضية الفلسطينية ستكون في صلب القمة العربية المقبلة في الجزائر»، لكن هذه المواقف المبدئية الجزائرية حيال القضية الفلسطينية ليست كفيلة بنجاح المصالحة بين الفصائل الوطنية الفلسطينية، لأن العلة، كما سبق القول، ليست في من يتبنى تجهيز العربة، وإنما في ركابها.
تأتي الجهود الجزائرية الأخيرة قبيل القمة العربية المنتظر أن تستضيفها الجزائر قريبا (في هذا العام)، لتضع الفصائل الفلسطينية من جديد أمام امتحان آخر، إذ يجب أن يكون «الجانب الفلسطيني المشارك في القمة يتحدث بصوت يعبر عن جميع الفصائل»، بحسب ما صرح به وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، وهذا من شأنه أن يزيد الضغط على الفصائل الفلسطينية من أجل إنجاح الجهود الجزائرية ووضع المصلحة الوطنية الفلسطينية في قمة سلم الأولويات الوطنية.
فإطالة عمر الخلافات الفلسطينية الفلسطينية يساهم في استفحالها وتعقيدها، وفي الوقت نفسه يقوي من رعونة وتزمت سلطات الاحتلال «الإسرائيلي»، باعتبار أن هذه الخلافات بمثابة هدية لا تقدر بثمن بالنسبة إلى سلطات الاحتلال، ورغم هذه الحقيقة التي تتحدث عنها جميع الفصائل الفلسطينية، فإن هذه الفصائل أخفقت حتى الآن، في تذليلها وتجاوز المصالح الحزبية والأيديولوجية الضيقة التي عادة ما تكون على حساب المصالح الوطنية وعلى حساب الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني.
المصدر أخبار الخليج