أخبار فلسطين هذه الأيام تقول: “قتل 15 فلسطينياً في حوادث منفصلة بمن فيهم عدد من منفذي هجمات في أعمال عنف بحسب حصيلة أعدتها وكالة فرانس برس وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت مساء الإثنين في شارع ديزنغوف في وسط تل أبيب حيث نفذ فلسطيني من مخيم جنين هجوماً قبل أربعة أيام قتل فيه ثلاثة إسرائيليين “لن ندع عدونا يضع حداً لحياتنا “سنواصل عيش حياتنا وفي نفس الوقت سنقاتل حيث هم””. وقتلت قوات الأمن الاسرائيلية الأحد فلسطينية طعنت شرطياً وسط مدينة الخليل حيث يعيش نحو ألف مستوطن يهودي تحت حماية عسكرية مشددة بين 200 ألف فلسطيني.. في قلب أحداث الثورة التي تعصف هذه الايام في أرض فلسطين يحضرني اكثر من اي وقت مضى مثال تحرير الجزائر العربية المسلمة من طاغوت استعمار استيطاني أوحش واكبر من اي استعمار وكأن أحداث فلسطين اليوم هي ما كنا نتابعه على أمواج إذاعة (صوت الجزائر) من تونس أعوام 1956 وما بعدها وكان الزعيم بورقيبة قال في مارس 1965 بان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو واقع استعماري وأنه آخر استعمار في التاريخ الحديث. إن الاعتبار بالتاريخ القريب أمر ضروري ونحن نعيش مخاض الحرية في فلسطين.. ومثال الجزائر مثال حي قائم امامنا فالجزائر استقلت عام 1962 بعد ثورة شعبية عارمة تفاعل معها جيلي وآمن بها وتعلق بنصرتها وعاشها بتفاصيلها يوما بيوم على الانغام الرجولية الصامدة لنشيد الثورة الذي كتبه المرحوم الشاعر مفدي زكرياء: قسما بالصاعقات الماحقات وعقدنا العزم ان تحيا الجزائر فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا الله أكبر فوق كيد المعتدي…الخ ما اشبه الجزائر بفلسطين وما أشبه ثورتها الراهنة بأحداث مماثلة عاشتها شوارع القصبة وشارع ديدوش مراد وعنابة ووهران وجبال الاوراس… لكن وجه الاختلاف واضح في التعامل العربي الاسلامي مع الثورة. فالجزائر ابتليت باستعمار استيطاني فرنسي عام 1830 وقام فيها الامير الشاعر عبدالقادر مثلما قام في فلسطين الشيخ المجاهد الشهيد عز الدين القسام. الجزائر بعكس تونس والمغرب اللتين كانتا “محميتين” حسب مصطلحات فرضها الاستعمار الدموي عليهما ربما لايهام الشعبين بأنهما “تحت حماية فرنسا” وكأنهما نصف مستقلتين! وهي كذبة ما يزال بعض المغفلين من أذناب الاستعمار يسمون الاستعمار (حماية) كما يسمون المقاومين الشرفاء بالسلاح (فلاقة… بعني قطاع طرق! الى اليوم) أما الجزائر فقد تحملت وحدها كارثة الاستعمار الاستيطاني تحولت عام 1832 الى مقاطعة فرنسية مثل مقاطعات إدارية داخل فرنسا. اجتهد الاستعمار في مسح هويتها وفرنستها مثلما فعلت سلطات الاحتلال الصهيوني مع فلسطين. لم يعد بعد هزيمة الامير عبدالقادر عام 1846 هناك كفاح مسلح فاعتقد الاستعمار الفرنسي انه فرنس الجزائر مثلما اعتقد الاستعمار الصهيوني انه صهين فلسطين. ولكن روح الجزائر عادت بلظى العروبة والاسلام على ايدي جمعية العلماء المسلمين امثال الشيخ عبدالحميد بن باديس والشيخ البشير الابراهيمي ثم اندلعت شرارة الثورة المسلحة عام 1954 مثلما انطلقت ثورة فلسطين على يدي فتح ثم استمرت جذوتها على ايدي حماس والجهاد. لكن لماذا اختلف تعامل الجيران العرب مع ثورة الجزائر ومع ثورة فلسطين وبين الثورتين جيل عربي مسلم. صحيح بأن التاريخ لا يعيد نفسه ولا يكرر احداثه لكننا لابد ان نقرأ الاحداث لنعتبر. وجدت ثورة الجزائر من جمال عبدالناصر نصيرها الكبير باسم القومية العربية وقد قال لي وزير الخارجية الفرنسي الاسبق مهندس العدوان الثلاثي على مصر كرستيان بينو حرفيا: لقد قمنا بالعدوان الثلاثي لمعاقبة عبدالناصر على تأييده للجزائر جاء ذلك العدوان بأيدي كرستيان بينو عن فرنسا وايدن عن بريطانيا وبن جوريون عن اسرائيل. كما وجدت الجزائر نصرة بطلة من تونس وعوقبت تونس بوابل من القنابل على قرية ساقية سيدي يوسف يوم 8 فبراير 1958… كما عوقبت تونس لمناصرتها لقضية فلسطين عندما اعتدت الطائرات الاسرائيلية على مقر المنظمة بحمام الشط يوم 1 اكتوبر 1985… ووجدت ثورة الجزائر كذلك مناصرة المغرب وملكها الراحل المغفور له محمد الخامس وكانت الاسلحة بأنواعها تعبر حدود الجزائر وتصل الى المجاهدين ولم تتخلف لا تونس ولا المغرب ولا ليبيا عن واجبها المقدس وتزويد الثورة بالسلاح وجرى الدم المغاربي هنا وهناك رمزا من رموز الوحدة والصمود. وبالطبع لا يمكن ان ينسى اي عاقل تضحيات اخوتنا المشارقة الى جانب فلسطين فقد خاضت مصر وسوريا والاردن ولبنان حروبا معروفة وهب العرب اجمعين ولم يترددوا في نصرة فلسطين انطلاقا من ان قضية القدس قضية المسلمين في مشارق الارض ومغاربها.. لكن وجه الاختلاف بين مثال الجزائر ومثال فلسطين هو ما حدث من تداعيات استراتيجية اقليمية ودولية حالت دون تواصل النصرة بدعوى انجاح عملية السلام فعاد ابو عمار الى جزء ضئيل من الارض المحتلة وتم تأجيل كل الملفات الساخنة الى اجل غير مسمى واهمها ملف القدس وملف اللاجئين واقامة الدولة… واصبحت كل حدود الدول العربية حدودا آمنة لاسرائيل دون ان تتفاعل اسرائيل بإيجابية مع ما سمي بخيار السلام العربي بعد ان تأكدت اسرائيل من ان خيار المقاومة تم اسقاطه واجهاضه مما يجعل (السلام) استسلاما. وهنا مربط الفرس… لأنه تم خنق الشعب الفلسطيني بإرادة اسرائيلية ـ امريكية محضة… وانا واثق من ان اسرائيل استفادت من درس الجزائر ونسيه العرب مع الاسف. لكن يبدو ان شعب فلسطين لم ينس حقه في وطنه المغتصب ولم ينس القدس الشريف ولم ينس ان ما استعمر بالقوة لن يحرر الا بالقوة. وبالطبع صحت جماهير العرب على نواقيس الحق والواجب ورفضت الاذلال والهوان وبدأت الثورة تخرج عن نطاق الحل الاسرائيلي الامريكي وتعيد ترتيب الخريطة العربية حسب ارادة الشعوب… وطوبى للقادة الذين استوعبوا هذا التحول في ابانه ولم يوقفوا التيار التاريخي الجارف. فإن ارادة الشعوب جزء من ارادة الله… وارادة الله لا تغلب لأنه سبحانه غالب على أمره.
الشرق