تمنّى كثيرون أن تكون القمة العربية الأخيرة التي أنهت أعمالها في العاصمة الجزائرية أمس (الأربعاء 2 تشرين الثاني/نوفمبر) مختلفة عن سابقاتها، وذلك لأسباب كثيرة أهمها:
أولاً: أنها تعقد بعد فترة توقف استمرّت أكثر من 3 سنوات، رغم وجود نص في ميثاق جامعة الدول العربية يلزم الدول الأعضاء بعقد جلسة سنوية لمجلس الجامعة على مستوى القمة خلال شهر آذار/مارس من كلّ عام.
ولتبرير هذا التقاعس عن الوفاء بالتزام دستوري صريح، تم التعلل بجائحة كوفيد 19، غير أنَّ السبب المعلن ليس مقنعاً على الإطلاق، ولا يمكن أن يكون كذلك لسبب بسيط، وهو أنَّ الجائحة لم تحل دون انعقاد عشرات القمم الدولية في أنحاء مختلفة من العالم.
لقد ظلّ الحرص على عقد العديد من القمم الإقليمية والعالمية في موعدها قائماً، حتى في الأوقات التي تعذر فيها الحضور وجهاً لوجه بسبب أوضاع الجائحة في الدولة المضيفة، بدليل الإصرار على تنظيمها والمشاركة من بعد عبر تقنيات التواصل الحديثة، بل إنَّ بعض القادة العرب الذين استكانوا لجمود مؤسَّساتهم شاركوا بأنفسهم في قمم أفريقية نظمت خلال فترة توقف القمم العربية! وأوضح مثال على ذلك هو مشاركتهم في مؤتمر القمة الأفريقية الثالث والثلاثين، رغم انعقاده في أديس أبابا في شباط/فبراير 2020، أي في ذروة الجائحة، ما يرجح أن تكون الخلافات بين الدول العربية هي السبب الحقيقي لتوقف انعقاد القمم العربية منذ عام 2019 حتى الآن.
لذا، يمكن القول من دون تردد إن موضوع الجائحة كان مجرد تكأة تم استخدامها لتبرير تقاعس القادة العرب وعدم تحمسهم للعمل العربي المشترك طوال السنوات الثلاث السابقة، وللتغطية على غياب الإرادة لديهم.
ولأنَّ إنهاء حال التقاعس هذه بعد طول غياب، عبر الشروع بعقد قمة الجزائر، ينطوي على افتراض ضمني مفاده زوال الأسباب التي حالت دون انعقاد القمم العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فقد كان من الطبيعي أن يعلّق كثيرون آمالاً كبيرة على قمة الجزائر، آملين أن تشكل نقطة انطلاق جديدة نحو تفعيل العمل العربي المشترك.
ثانياً: أنها تعقد في عاصمة دولة تحظى بمكانة خاصة في قلوب الشعوب العربية من دون استثناء، فللجزائر تاريخ نضالي طويل يجعلها من أكثر الدول العربية تأهيلاً وقدرةً على لم الشمل العربي في المرحلة الصعبة التي يمر بها النظام العربي حالياً، وخصوصاً أنها تعد من بين الدول العربية القليلة التي ما تزال متمسكة بالثوابت العربية، ومدافعة عن القضية الفلسطينية، ورافضة للتطبيع مع العدو الإسرائيلي.
ولأنها قمة تعقد في ذكرى اندلاع الثورة الجزائرية التي قدمت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد من أجل الاستقلال ونيل الحرية، فقد تمنى كثيرون أن يشكل ذلك حافزاً إضافياً يذكّر القادة العرب بالمخزون النضالي الهائل للشعوب العربية، وبقدرة الأمة العربية على مواجهة أعتى التحديات حين تتسلح بالعزيمة وبإرادة المقاومة.
ثالثاً: أنها تعقد في وقت يتهيأ فيه النظام الدولي الحالي الذي ما زال يتسم بالهيمنة الأميركية المنفردة عليه منذ سقوط الاتحاد السوفياتي للدخول في مرحلة جديدة يرجح أن تسفر عن تغيير كبير في بنيته وعن إعادة تشكيل منظومة القيم السائدة فيه.
وبقدر ما تطرح هذه المرحلة من تحديات تفرض على العالم العربي أن يبذل كل ما في وسعه لمواجهتها، فإنها تتيح في الوقت نفسه فرصاً ينبغي أن يسعى العرب جاهدين لاستغلالها والعمل على توظيفها لمصلحة شعوبهم وأمتهم.
ولأنَّ قمة الجزائر هي أول قمة عربية تُعقد بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وهي حرب يعتقد على نطاق واسع أنها قد تشكل البداية الفعلية لاندلاع حرب عالمية ثالثة، حتى ولو لم يتم فيها استخدام السلاح النووي، فلا شكّ في أنها تتيح أمام العالم العربي فرصة فريدة للمّ الشمل والنهوض من جديد، وخصوصاً إذا ولدت إرادة عربية حقيقية لإعادة بناء النظام العربي على أسس مختلفة تستفيد من دروس الماضي القريب والبعيد على حدٍ سواء.
لم يكن غريباً، في سياق كهذا، أن تعقد قمة الجزائر تحت شعار “لمّ الشمل”، وأن تبذل الدولة المضيفة جهوداً كبيرة ومضنية قبل انعقادها لضمان تحقيق هذا الهدف، غير أن هذه الجهود التي بدأت بمحاولة البحث عن مخرج لتمكين سوريا من استعادة عضويتها المجمدة في جامعة الدول العربية، ثم بمحاولة تحقيق مصالحة شاملة بين الفصائل الفلسطينية المتصارعة قبل انعقاد القمة، لم تُكلل جميعها بالنجاح المطلوب، وراحت نتائجها تتأكل بمرور الوقت تحت وطأة الخلافات العربية المزمنة التي استحال تجاوز معظمها.
صحيح أنَّ سوريا أعلنت عدم رغبتها في حضور هذه القمة، حتى لا تضع القيادة الجزائرية في موقف حرج، ولإفساح المجال أمام الجهود الرامية للمّ الشمل، ولكي لا يتسبب حضورها بمزيد من الانقسام في صفوف الدول العربية، وصحيح أيضاً أنَّ الجزائر نجحت في مساعيها الرامية للتوصل إلى صيغة لمصالحة فلسطينية مقبولة من معظم الفصائل الفلسطينية الرئيسية، لكن ذلك لم يكن كافياً وحده لإحداث نقلة نوعية في الموقف العربي تسمح بتقديم دعم حقيقي وفعال للقضية الفلسطينية، وبوقف وتيرة التطبيع المتسارع مع الكيان الصهيوني، أو لحدوث اختراق يسمح بتجسير الفجوة بين مواقف الدول العربية إزاء العديد من القضايا والأزمات الأخرى التي تهز العالم العربي، كالحرب في اليمن، والأزمات المحتدمة في ليبيا ولبنان والعراق وسوريا، وقضية الصحراء الغربية، وقضية سد النهضة، والعلاقة المتأزمة مع دول الجوار الإقليمي (وخصوصاً إيران وتركيا وإسرائيل وإثيوبيا)…
ولا شكّ في أن غياب عدد لا يستهان به من قادة الدول العربية، كالسعودية والإمارات والكويت والبحرين وسلطنة عمان والأردن والمغرب، وعزوفهم عن المشاركة بأنفسهم في هذه القمة المفصلية، كان مؤشراً واضحاً على حجم الصعوبات التي ما تزال تكتنف الجهود الرامية إلى لمّ شمل القادة العرب والساعية للتأليف بين قلوبهم.
الكلمات التي ألقيت في الجلسة الافتتاحية لقمة الجزائر عكست وعياً بحجم التحديات التي تواجه العالم العربي في المرحلة الراهنة، لكني لم أجد فيها اختلافاً كبيراً عما اعتدنا سماعه في مثل هذه المناسبات من قبل، خصوصاً فيما يتعلق بالخطط المستقبلية لانتشال العالم العربي من الهوة السحيقة التي سقط فيها.
صحيح أنَّ بعض هذه الكلمات تضمن أفكاراً تستحق التشجيع والمتابعة، كاقتراح الرئيس تبون بالدعوة إلى عقد جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة للنظر في طلب منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة، وتشكيل لجنة اتصال منبثقة عن القمة العربية لمتابعة هذا الموضوع، واقتراحه الخاص بإقامة تكتل اقتصادي عربي قادر على الصمود في وجه التحديات الاقتصادية التي تطرحها التحولات التي يمر بها النظام الدولي حالياً، غير أنني أعتقد أنَّ هذه الأفكار، على أهميتها، لن تؤدي إلى إحداث نقلة نوعية في العمل العربي المشترك تساعد على تمكين الشعوب العربية من تحقيق أهدافها في الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية أو لتخليصها من إسار التبعية.
وحتى بافتراض نجاح المساعي العربية الرامية إلى عقد جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة للبحث في منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة، وفي استصدار قرار من الجمعية العامة يعترف بحق فلسطين في الوجود كدولة مستقلة يحق لها الانضمام إلى الأمم المتحدة، فلن تؤدي هذه الخطوة لا إلى قيام دولة فلسطينية حقيقية على أرض الواقع، ولا حتى إلى قبول هذه الدولة المتخيلة عضواً في الأمم المتحدة، وذلك لسبب بسيط، هو استحالة تجاوز دور مجلس الأمن عند بت طلبات العضوية الجديدة، إذ يتعين في هذه الحالة صدور توصية من مجلس الأمن (يشترط أن تحظى بموافقة 9 دول، على أن يكون من بينها الدول الخمس الدائمة العضوية مجتمعة، وهو ما يستحيل تصور حدوثه في ظل موازين القوى الدولية الحالية).
أما الاقتراح الخاص بإقامة تكتل اقتصادي عربي، فهو مجرد حلم بعيد المنال، وبالتالي يستحيل تحقيقه في ظل البنية المؤسسية الحالية لجامعة الدول العربية، وهي بنية فشلت حتى الآن في تحقيق أي خطوة على طريق التكامل الاقتصادي العربي، مهما كانت متواضعة، بما في ذلك توحيد التعريفة الجمركية وإنشاء منطقة جمركية موحدة.
تحية للجزائر التي بذلت جهداً كبيراً في تمكين القمة العربية من الالتئام مرة أخرى، غير أن مجرد النجاح في عقد قمة عربية تضاف إلى قمم كثيرة سبقتها لا يعد إنجازاً يستدعي الفخر، وما لم تتمكن الجزائر من استغلال فترة قيادتها القمة العربية للقيام بعملية إصلاح حقيقي وشامل لمؤسسات العمل العربي المشترك، فسيظل العالم العربي يدور في الحلقة المفرغة نفسها التي يدور فيها منذ 77 عاماً هي عمر جامعة الدول العربية.
بقلم: حسن نافعة
الميادين