باعت والدتي وشقيقتي مصاغهما لتأمين تكلفة هجرتي سنة 2018 عبر سواحل جزيرة قرقنة نحو السواحل الإيطالية”؛ هكذا يقول الشاب و.ف ابن محافظة قابس (جنوبي تونس).
و.ف (27 عاما) الذي فضّل عدم التصريح باسمه كان بطل تونس في رياضة الكونغ فو على مدى 3 أعوام متتالية (2012 و2013 و2014)، وحصل على جائزة رئيس الجمهورية في سباق الخيول العربية البربرية سنة 2015.
وفي الثاني من يونيو/حزيران 2018 تعرض المركب الذي يقلّه مع 180 مهاجرا غير نظامي آخرين للغرق، ولكنه نجا بفضل إتقانه السباحة.
دفعته مشاعر الظلم وعدم حصوله على الدعم الحكومي إلى مغادرته المنتخب الوطني التونسي (للكونغ فو)، وأجبره ضيق عيش أسرته على الانقطاع المبكر عن الدراسة وظل عاطلا عن العمل.
في يونيو/حزيران 2022 عاود المغادرة سرًّا عبر البحر ليتعرض للترحيل من مركز الإيقاف في سيسيليا الإيطالية إلى تونس بعد رفض طلب لجوئه، لكنه مصرّ على تكرار المحاولة، ويقول “المهم عندي أن لا أبقى في تونس لأن العيش في الجنوب قاس فلا مورد للرزق”.
ويؤكد و.ف أنه فقد الصبر والثقة بكل السياسيين الذين “يبيعون الكلام منذ 2011 إلى اليوم ولم يفوا بوعودهم”.
لا فرص للعمل
أما الشاب ن.ح ابن محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب)، فيقول “انقطعتُ عن الدراسة بإرادتي لأن أقربائي وأصدقائي تخرجوا منذ سنوات وما زالوا عاطلين عن العمل، ففقدتُ الأمل”.
ويعيش ن.ح (27 عاما) في أسرة متواضعة الحال، يقول “ولأجد فرصة عمل في البناء عليّ السفر مسافة 150 كيلومترا نحو محافظة صفاقس أو 300 كيلو متر باتجاه جزيرة جربة..”، ويضيف ساخرًا “إذا فكرتَ بمشروع صغير تُغلق جميع الأبواب بوجهك”.
دفعته قسوة العيش والضغوط العائلية إلى التفكير في الهجرة بطريقة غير نظامية نحو إيطاليا، والأمر متوقف على جمعه 3 آلاف دينار (ألف دولار) ثمن الرحلة، يقول “تخيلوا شابًّا لا يجد ثمن 4 سجائر وكوب قهوة بديناريْن اثنين، فما بالك بفكرة شراء قطعة أرض أو بناء منزل وتكوين أسرة؟”.
وقد فقد الأمل في تغيير أوضاع البلاد “ورئيس الجمهورية قيس سعيّد من الصعب أن يصلح خراب 10 سنوات في عام أو أكثر.. أفضّل البحر على البقاء حتى إن لم أصل”، حسب قوله.
17 عاما من المحاولات
أما التونسي عماد بكاري فخرج من سيدي بوزيد يوم 21 يوليو/تموز 2022 بطريقة غير نظامية، ووصل إلى لامبيدوزا الإيطالية وبقي محتجزا مع أصدقائه 24 ساعة، “ثم أطلقوا سراحنا داخل البلاد”، كما قال للجزيرة نت.
في عام 2005 حاول عامل البناء بكاري (42 عاما) الهجرة بطريقة غير نظامية 5 مرات، ولكنه فشل في جميعها، وظل 17 عاما ينتظر تحسّن أحواله الاجتماعية التي ازدادت سوءا وبقي عاطلا عن العمل.
دفعته الحاجة إلى المغامرة للبحث عن أسباب حياة أفضل له ولأسرته، وقال “لم يعد لدي أي أمل بتغير أوضاع البلاد نحو الأفضل، والحياة في سيدي بوزيد صعبة جدا وتغيب فيها فرص العمل والاستقرار”.
ازدياد الهجرة غير النظامية
ويرصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة حقوقية مستقلة) ارتفاع أعداد المهاجرين التونسيين غير النظاميين بين يوليو/تموز 2021 والشهر ذاته من العام الجاري 2022، إذ بلغ عدد الواصلين إلى أوروبا عبر مختلف الطرق أكثر من 20 ألف تونسي.
وتشير إحصاءات المنتدى إلى ارتفاع أعداد المهاجرين التونسيين غير النظاميين أخيرا، بالمقارنة مع الأعوام المنقضية، فقد بلغ عدد الواصلين غير النظاميين إلى إيطاليا 858 سنة 2019، و5655 سنة 2020.
ووفق المصدر ذاته، أصبحت الجنسية التونسية تحتل المرتبة الأولى في الواصلين إلى إيطاليا بنسبة 18% بعدما كانت في المرتبة الثالثة في النصف الأول من السنة الحالية، وقُدّر عدد القُصّر التونسيين الواصلين إلى إيطاليا بـ1242 وعدد الأسر الواصلة بـ300 منذ بداية 2022.
طوفان اجتماعي
يصف المتخصص في علم الاجتماع سامي نصر ظاهرة الهجرة غير النظامية في تونس “بالطوفان الاجتماعي الذي يجرف كل شيء، ولا توقفه البلاغات الرسمية أو التحذيرات ولا صور المهاجرين الموتى والغرقى”.
ويقول نصر للجزيرة نت إن هذا الطوفان أصبح يشمل الكهول والأطفال والفتيات والحوامل وأسرًا بأكملها والمتعلّم وغير المتعلم، فغدا من الظواهر ذات الحجم الثقيل.
وبرأيه، فعلى كل الأطراف في تونس دراسة هذه الظاهرة كرسالة مشفرة مفادها أن التونسيين بمختلف فئات مجتمعهم “فقدوا الأمل بغد أفضل في بلدهم ورأوا ذلك الأمل في بلد المهجر، وذلك ما دفعهم إلى التضحية بحياتهم”.
ويرى نصر أن اختزال دوافع الهجرة غير النظامية في الأحوال المادية والبطالة مقارَبة خاطئة، مستشهدًا بوجود مهاجرين غير نظاميين تونسيين من ميسوري الحال أو ممن تولوا مناصب في الدولة.
عوامل محفزة
بدوره، عدّد المتحدث الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، العوامل المحفزة للهجرة، فقال إن أولها “وضع البلاد الاقتصادي الصعب والمعقد الذي يلقي بظلاله على الفئات الأكثر هشاشةً، إضافة إلى تداعيات جائحة كورونا”.
وتحدث بن عمر للجزيرة نت عن العامل النفسي الذي يرتبط بتصورات الأفراد لبلدهم “حيث لا يتفاءل أغلب التونسيين تقريبًا بمستقبل تتجاوز فيه تونس أزمتها الحالية”.
وأشار بن عمر إلى واقع الحريات الذي يراه التونسيون أفضل في بلد المهجر “لأننا نعلم اليوم السطوة الأمنية على الفضاء العام في تونس وعلى الفئات الأكثر هشاشة المعنية بالهجرة”، إلى جانب العامل العائلي للتخلص من الضغط الأسري ولمساعدة الأسرة.
ولفت إلى إحباط كبير من الأداء السياسي “الذي لمسناه في سنتي 2017 و2018 ثم منذ 25 يوليو/تموز 2021 (الإجراءات الاستثنائية للرئيس قيس سعيّد) بتدفق أرقام الهجرة غير النظامية ورسائلها التي تقول إن تونس ومن يحكمونها ليسوا من سيحققون طموحات المهاجرين، وعلى السلطات السياسية أن لا تتدخل في مسألة ترحيلهم القسري”.
ولوضع حد لهذه الظاهرة، يشدد سامي نصر على حاجة التونسيين إلى مشاهدة بلادهم أفضل بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، “لأننا أصبحا نشعر كأننا نعيش الغربة في بلادنا”.
ودعا المتحدث باسم المنتدى الدولة التونسية إلى وضع إستراتيجية لخلق الأمل لدى التونسيين من خلال مشاريع جدية وبخطة تواصل ناجعة “لأنهما أمران مفقودان في تونس اليوم مع الأسف”.
مسؤولية الدولة
من جهته، يحمّل بن عمر من تعاقبوا على الحكم في السنوات الأخيرة والسلطة الحالية المسؤولية السياسية “لإنتاجها ممارسات المنظومات السابقة نفسها من خلال سياسات اقتصادية تعتمد على صندوق النقد الدولي، وتؤدي إلى الضغط على الفئات الهشّة ولا تذهب نحو تحقيق عدالة فعلية وبديل اقتصادي واجتماعي”.
وينتقد قبول السلطة الحاكمة اليوم “لعب دور الحارس للحدود الأوروبية، وتسخير كل الإمكانات البشرية واللوجستية للانصياع للضغوط الأوروبية، وجعل أولوياتها مقاومة الهجرة غير النظامية عوض مقاومة التهريب والتلوث والإرهاب وموافقتها على ترحيل التونسيين”.
ويشدد على أن الدولة “بخاصة رئيس الجمهورية الذي قضى 3 سنوات على رأس الدبلوماسية لم يقم بأي مجهود لإعادة العمل بعقود العمل وفتح مجالات للهجرة الآمنة والمنظمة لهؤلاء”.
ويرى بن عمر أن إيجاد حلول لهذه الظاهرة “في ظل هذا المشهد السياسي الذي ليس له بديل ورؤية واضحة أمر صعب”، وأن الأولوية اليوم في تكريس حرية التنقل والمعاملة بالمثل مع دول الشمال؛ “في انتظار وجود سلطة سياسية قادرة على فرض ذلك”.
ويؤكد أهمية إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والتنموية، وتنقية المناخ السياسي العام، واحترام الحريات، وتركيز دولة حقيقية ديمقراطية تفرض تطبيق القانون لا سياسة الإفلات من العقاب لتحقيق الاستقرار الذي يعيد الأمل للتونسيين.
مسؤولية نسبية
ويرى الكاتب والمحلل السياسي محمد ذويب أن السلطة الحالية لا تتحمل كل الذنب “وإنما مسؤولة فقط عن غياب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية”، مشيرا إلى “بوادر لحل الأزمة عاجلا بخاصة مع إيقاف السلطات منظمي رحلات هجرة غير نظامية في جزيرة جربة وفي الساحل التونسي”.
ويقول للجزيرة نت إن الحكومة هي المستفيدة من عدد الشباب الكبير المغادرين نظرا إلى التحركات الاحتجاجية التي ينفذونها للمطالبة بالتشغيل، إضافة إلى استفادتها من تسوية أوضاع الشباب المهاجر في دول الاستقبال الأوروبية إذ سيكونون رافدًا كبيرًا للعملة الصعبة للبلاد.المصدر : الجزيرة