تُمثِّل الصحراء في مخيلة الكثيرين ذلك المكان الواسع الرحب، الذي تنجلي فيه البصيرة، وينشرح فيه القلب باعتزال الناس، فيخلو الأمر للمتأمل لينظر في حال نفسه والآخرين. قد يكون هذا الوصف حقيقيا وصادقا عندما يتعلق بالصحاري مترامية الأطراف الموجودة في كل بقاع العالم، لكنه قطعا لا ينطبق على منطقة رقان بالصحراء الجزائرية التي يرتبط اسمها بالتشوهات الخلقية والسرطان والأمراض المزمنة، بعد أن كانت المنطقة مسرحا للتجارب النووية الفرنسية في عهد كانت تتلهَّف فيه باريس للانضمام إلى القوى النووية.
رغم مرور زهاء ستة عقود على استقلال الجزائر عن الاحتلال الفرنسي، تظل ملفات الإرث الاستعماري عالقة بين البلدين، ولعل ملف التجارب النووية يُعَدُّ من أهم النقاط الخلافية بين حكومتَيْ باريس والجزائر العاصمة، خصوصا أن معاناة سكان المناطق التي احتضنت هذه التجارب ما زالت قائمة حتى يومنا هذا.
عندما كانت النيران تلتهم مدينتَيْ هيروشيما وناغازاكي اللتين تعرَّضتا لقصف أميركي بالقنابل النووية في الحادثة الشهيرة، كان الجنرال شارل ديغول، أحد أهم رجال الجمهورية الفرنسية، يرسم في خياله أحلاما وردية لبلاده وهي تحوز السلاح النووي، حتى تتمكَّن هي الأخرى من فرض نفسها دولة قوية في عالم لا يعترف إلا بالبأس العسكري الشديد. جاء قرار ديغول باتخاذ هذه الخطوة سريعا في أكتوبر/تشرين الأول 1945، أي بعد شهرين فقط من الحادثة النووية التي أنهت الحرب العالمية الثانية.
على الفور، أصدر الجنرال الفرنسي أوامره بإنشاء محافظة للطاقة الذرية الفرنسية بهدف صناعة القنبلة النووية، التي كانت من وجهة نظره الضامن الوحيد لقدرة باريس على البقاء مستقلة في خضم الحرب الباردة الدائرة بين واشنطن وموسكو. تضمَّنت هذه العملية ثلاث مراحل ما بين عامَيْ 1945-1960، وبعد انتهائها، كانت فرنسا في حاجة إلى فضاء كبير يمكنها من خلاله تجريب النتيجة النهائية لهذا السلاح الذي عملت عليه طيلة عقد ونصف، ووقع اختيارها على صحراء الجزائر.
لم يكن اختيار باريس للجزائر لتشهد هذا الحدث المرعب مفاجئا. فمنذ أواخر الخمسينيات، قرَّرت السلطات الفرنسية أن تكون صحراء الجزائر مسرحا لعمليات تفجير القنبلة النووية التي تعمل عليها. ونتيجة لذلك، في يناير/كانون الثاني 1957، زار الجنرال “شارل إيلغيي” المناطق المرشَّحة من أجل اختيار المكان الأصلح للقيام بالتجارب الأولى، حيث أعدَّ تقريرا تقنيا خلص إلى أن منطقة تنزروفت جنوب البلاد هي الأنسب لاحتضان هذا النوع من التجارب. ودوليا، قالت فرنسا على منبر الأمم المتحدة إنها اختارت الصحراء الجزائرية للقيام بتجاربها النووية كون المنطقة مهجورة وقاحلة وغير مأهولة بالسكان.
دون تأخير، شرعت فرنسا في إعداد هذه المنطقة الصحراوية لتجربتها، فقد أصدرت في جريدتها الرسمية يوم 10 مايو/أيار 1957 مرسوما حول تخصيص مساحة 108 ألف كيلومتر مربع على بُعد 40 كلم من مدينة رقان لإنشاء مركز عسكري صحراوي. ضمَّ هذا المركز 10 آلاف شخص من المدنيين والعسكريين، 6500 منهم من العلماء والمهندسين والجنود الفرنسيين، و3500 منهم من العمال الجزائريين وبعض السجناء الذين استعانت بهم.
وبحلول يونيو/حزيران 1958، أكَّد الجنرال ديغول نفسه انطلاق عمليات تجربة السلاح النووي الفرنسي. لم تكن المهمة سهلة طبعا، فلكي ترى القنبلة النووية الفرنسية النور، كان يجب في البداية تجاوز الخلافات في وجهات النظر بين العسكريين وبين العلماء الذين يعملون على تطوير هذا المشروع، كما كانت الدبلوماسية الفرنسية أمام مهمة صعبة لإقناع هيئة نزع السلاح التابعة للأمم المتحدة، دون نسيان أن بدء عمليات تجريب السلاح النووي الفرنسي كان في أوج الكفاح الجزائري ضد القوة الاستعمارية الفرنسية.
انطلقت التجارب النووية الفعلية في 13 فبراير/شباط 1960، حينها فجَّر الجيش الفرنسي أول قنبلة نووية تفوق قوتها بنحو 4 مرات القنبلة التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على مدينة هيروشيما اليابانية. جنَّدت فرنسا كُتَّابا ومصورين سينمائيين من أجل إعلان ذلك الخبر المهم: البلاد تلتحق رسميا بكلٍّ من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي وبريطانيا بوصفها رابع قوة نووية على الأرض. ولكن رغم تأكيد المسؤولين في باريس أن الأمور جرت كما خُطِّط لها، وأن التوقعات التقنية جاءت مطابقة للتنفيذ على أرض الواقع كما أفاد بيير ميسمير، وزير الدفاع الفرنسي حينها الذي قال إنه ليس هنالك خطر على المدن القريبة ولا البعيدة، لكن الحقيقة كانت مختلفة للغاية، فقد كشف “إيف روكار”، وهو عالم فيزياء كان يعمل على مشروع القنبلة النووية، أن الكثير من إجراءات الإطلاق فشلت “لأن جزءا حساسا من العملية أُسند إلى مجموعة من الشباب المبتدئين قليلي الخبرة”.
شكَّلت القنبلة الأولى بداية سلسلة طويلة من التجارب النووية التي وصل عددها إلى 57 تجربة فُجِّر خلالها 17 قنبلة نووية، أربع منها بالجو وكانت ملوثة للغاية، ثم بعد ذلك 13 قنبلة باطنية وسط الجبال، حيث اضطرت فرنسا لهذا النوع من التجارب بعد ضغط دولي وتخوُّف من أن تخالف التجارب طريق النجاح فتكون التكلفة المادية والبشرية عالية.
فئران بشرية من جنسيات مختلفة
بعد 15 سنة من العمل الدؤوب على القنبلة النووية، تمكَّنت فرنسا من الحصول على سلاحها الذي سيُمكِّنها من فرض نفسها بوصفها قوة عالمية، لكن باريس لم تعمل بالجدية نفسها استعدادا لمواجهة السيناريوهات الكارثية التي يمكن أن تصاحب تفجير قنبلة نووية قوتها هي 4 أضعاف قنبلة هيروشيما.
لم يقتصر قصور الاستعداد على عدم تحصين سكان المنطقة المحيطة من الجزائريين بالقدر الكافي، لكنه امتد إلى الجنود الفرنسيين أنفسهم، الذين واجهوا الإشعاعات النووية بملابس عادية، وبدون حتى نظارات للحماية، إذ كشفت بعض الوثائق التي تعود إلى الأرشيف النووي الفرنسي أن مُعدل النظارات الموزَّعة كان نظارة واحدة لكل 40 شخصا.
لم تكن فرنسا مستعدة تقنيا لمواجهة الإشعاعات التي ترتَّبت على هذه التجارب، بيد أنها كانت في حاجة أكبر إلى النتائج السياسية لهذا النجاح العسكري، فبعد تجربة أولى فاشلة حسب شهادات بعض الذين عملوا على المشروع، وأثناء تجربة جديدة كان من المفترض أن تكون باطنية في 2 مايو/أيار 1962، حدث تسريب إشعاعي مفاجئ، ورغم أن هذه الحادثة تسبَّبت في مشكلات صحية وأمراض خطيرة لبعض الحاضرين حسب شهاداتهم، لكن الأهم بالنسبة للحكومة في باريس كان خبر إنهاء تجربة نووية جديدة خلال اجتماع حلف الشمال الأطلسي (الناتو) الذي كان سيُقام خلال أيام بأثينا اليونانية.
بعد التجارب النووية، كان الجنود المشاركون يمضون ساعات طويلة في الاستحمام من أجل إزالة الإشعاع النووي، كما كانت السلطات الفرنسية تُدخِل المشاركين في جهاز سمَّته “جهاز إزالة التلوث”، الذي هو في الحقيقة مجرد جهاز لكشف نسبة الإشعاع فقط، ولا يتدخَّل بحال في إنقاص معدلات التلوث النووي. ساهمت هذه التجارب في انتشار العديد من الأمراض، وعلى رأسها السرطان، في أجساد أولئك الذين تعرَّضوا للإشعاع على مدار عشرات السنين. هذه الأوضاع الصحية السيئة كانت تُقابَل أحيانا بإنكار من طرف إدارة الجيش الفرنسي، أو باعتراف جزئي بما حدث لكن دون النزول على طلبات التعويضات التي يُطالِب بها الضحايا، على اعتبار استحالة إثبات أن هذه التجارب النووية هي نفسها التي تسبَّبت في هذه الأمراض.
لم يكن تعرُّض الجنود الفرنسيين لهذه الإشعاعات ناتجا عن مجرد قصور في إعداد بروتوكولات الحماية، بل كان في بعض الأحيان مقصودا، إذ سبق أن استُعمل 195 جنديا فرنسيا في إطار محاكاة هجوم نووي بهدف دراسة الجوانب الفسيولوجية والبيولوجية والنفسية للسلاح النووي على الجنود في حالة التعرُّض لهجوم، ورغم أن عددا من المواد الأكاديمية كانت قد تعرَّضت لهذا النوع من المعلومات مثل كتاب “آثار الأسلحة النووية” الذي نُشر في الولايات المتحدة الأميركية، فإن الحكومة الفرنسية فضَّلت تعريض جنودها لهذه الإشعاعات، فيما يبقى الهدف الحقيقي لذلك مجهولا حتى الساعة بسبب السرية التي تحيط بهذا الملف.
أما بالنسبة للجزائريين الذي كانوا يقطنون المناطق المجاورة، كانت النتائج المترتبة أكثر كارثية. فقد قدَّرت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان عدد الأشخاص الذي تعرَّضوا لمشكلات بسبب هذه الإشعاعات بنحو 24 ألف شخص، من بينهم 150 سجينا جزائريا أُخرجوا من سجن سيدي بلعباس لاستعمالهم فئران تجارب بعد أن رُبطوا بالقرب من موقع التفجير لدراسة سلوكهم تجاه هذا الكم الكبير من الإشعاعات النووية الذي تعرَّضوا له، وذكرت مصادر جزائرية أخرى أن عدد الضحايا وصل إلى 30 ألف شخص على الأقل من الذين تعرَّضوا لأمراض ناجمة عن النشاط الإشعاعي.
لا وقت للتعويض.. أو الاعتذار
لم تكن الجزائر المنطقة الوحيدة التي عاشت كابوس التجارب النووية، بل شاركتها في ذلك بولينيزيا الفرنسية، وهي مجموعة من الجزر التي تقع جنوبي المحيط الهادي، وهي أراضٍ تابعة لفرنسا منذ وضعتها تحت الحماية منتصف القرن التاسع عشر. فبالتوازي مع التجارب في الصحراء الجزائرية، بدأت فرنسا تجارب أخرى على أراضي بولينيزيا، حيث فجَّرت أكثر من 200 قنبلة نووية دون تحذير سكان الجزر. وفي حين كان الجنود الفرنسيون يلجأون إلى المخابئ المحصَّنة، فإنهم كانوا يخبرون السكان المحليين أن الاحتماء بأوراق أشجار الموز سيكون كافيا لحمايتهم، حسب شهادات بعض الناشطين المحليين. ونتيجة لذلك، انتشرت الأمراض وعلى رأسها السرطان في أجساد السكان، مبيدة عائلات بأكملها، وإلى اليوم، تحتل النساء البولينيزات البالغات ما بين 40-50 سنة المرتبة الأولى عالميا في سرطان الغدة الدرقية.
حاولت الحكومة الفرنسية إيجاد حل يحميها من غضب السكان، فدعت في يوليو/تموز الماضي عددا من الجمعيات المحلية للنقاش حول القضية والوصول إلى حل بالنسبة للتعويضات الممكنة، لكن أهم الجمعيات الناشطة رفضت هذا الاجتماع، ليضطر إيمانويل ماكرون للسفر بنفسه إلى الأرخبيل الواقع في المحيط الهادي لوقف التصعيد، خصوصا مع تقديم بعض الحركات الانفصالية دعوى ضد الدولة الفرنسية في المحكمة الجنائية الدولية. اعترف الرئيس الفرنسي بالمأساة ولكنه رفض تقديم أي اعتذار، فيما تعهَّدت حكومته بتسهيل عملية التعويضات -التي لم يستفد منها سوى العشرات- ودعم الأبحاث حول السرطان وإرسال الدعم الطبي إلى هذه الجزر.
لا يختلف الحال كثيرا في الجزائر، حيث ترفض باريس حتى الآن إيجاد حل نهائي والاعتذار عن جرائم جنودها في البلد المغاربي. ولم تُعوِّض فرنسا إلا جزائريا وحيدا من ضحايا التجارب النووية، فيما يظل التعويض حلما مستحيلا للباقين، لأن المساطر الفرنسية تجعل من المستحيل قبول ملفات الأشخاص الذين لم يحضروا التجارب بأنفسهم، كما أن عددا كبيرا من الجزائريين الذين يعيشون أوضاعا صعبة بسبب السرطان أو التشوهات الجسدية لن يتمكَّنوا من إثبات أن ما يواجههم هو بسبب التجارب النووية التي حدثت في ستينيات القرن الماضي. هذا وتطالب الجزائر السلطات الفرنسية بتعويض الضحايا والكشف عن أرشيف هذه التجارب النووية، بعد أن كانت وزارة الجيوش الفرنسية قد أقرَّت في وقت سابق بدفن شاحنات وبعض العتاد العسكري الذي استُخدم في الاختبارات النووية في الصحراء الجزائرية، لكن هذه المطالبات لا تلقى صدى، فيما لا يزال الملف حبيس أدراج الإليزيه كما هو حال عدد من الملفات العالقة بين البلدين.
في قرارة أنفسهم، يدرك القادة الفرنسيون أن السلاح النووي الذي يُكلِّلون به ترسانتهم العسكرية اليوم دفع ثمنه آلاف الضحايا الأبرياء الذين يعيشون الموت في كل لحظة بسبب أمراض مختلفة تنهش أبدانهم. ومع دخول العالم في خضم أزمة جديدة، وتلويح بعض القوى باستخدام السلاح النووي في فرض رؤيتها للعالم، ربما يكون الأوان قد حان لفتح ملف ترسانة فرنسا النووية، وتجاربها الكارثية في صحراء الجزائر.