انتشرت المخدرات في تونس بشكل لافت في السنوات الأخيرة، وذلك رغم العقوبات المشددة التي يتضمنها القانون والتي تستهدف التجار والمروجين والمستهلكين على حد سواء وحتى كل من له علاقة من قريب أو من بعيد بعملية زراعة المخدرات وتصنيعها ونقلها وترويجها واستهلاكها. كما أن توسع القانون التونسي في مفهوم المواد المخدرة ليشمل حتى القنب الهندي أو الحشيش الذي لا تجرم زراعته وترويجه واستهلاكه بلدان أخرى في المنطقة، لم يحل دون القضاء على هذه الآفة.
فالأرقام تشير إلى أن حوالي مليوني تونسي يعانون من الإدمان منهم 400 ألف مستهلك لمادة القنب الهندي أو الحشيش، و33 ألفا يتعاطون المخدرات والبقية هم مدمنون على أشياء أخرى مثل التدخين وغيره. ويمثل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و35 سنة، 70 في المئة من مجموع المدمنين الذين استهلك بعضهم أخطر أنواع المخدرات على غرار حقن الهيروين التي لديها تأثيرات كارثية على صحة البشر.
لقد جاء في الفصل الأول من القانون عدد 52 لسنة 1992 المؤرخ في 18 ايار/مايو 1992 والمتعلق بالمخدرات، أنه تحجر تحجيرا باتا زراعة النباتات الطبيعية المخدرة، وكذلك استهلاكها أو إنتاجها أو حصادها أو مسكها أو حيازتها أو ملكيتها أو نقلها أو ترويجها أو إحالتها أو عرضها أو تسليمها أو الإتجار فيها أو توزيعها أو التوسط فيها أو توريدها أو تصديرها أو تصنيعها أو استخراجها أو تهريبها.
كما نص القانون المشار إليه على جملة من العقوبات لعل أهمها تلك الواردة في الفصل السادس الذي جاء فيه أنه يعاقب بالسجن من عشرين عاما إلى مدى الحياة وبغرامة من مئة ألف دينار إلى مليون دينار كل من كون أو أدار أو انخرط أو شارك في إحدى العصابات سواء كانت موجودة داخل البلاد أو خارجها لارتكاب أي من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون داخل البلاد، أو كان يعمل لحساب هذه العصابات أو يتعاون معها بأي طريقة غير قانونية ولو من دون مقابل. ورغم هذا التشدد الذي قد لا يوجد له مثيل في التشريعات العربية والأجنبية، إلا أن ذلك لم يحل دون انتشار آفة ترويج واستهلاك المخدرات في تونس، فأين مكمن الخلل خاصة وأن الظاهرة انتشرت لدى الكبار والصغار في الوسط المدرسي، ولدى عامة الناس والمشاهير على حد سواء؟
التهاون مع «الكبار»
يعيش الشارع التونسي هذه الأيام على وقع قضية مخدرات هزت الرأي العام بالنظر إلى أهمية المحجوز، تورط فيها فنان مشهور ولاعب كرة قدم وأشخاص آخرون، وقد تم في البداية الإفراج عن المعتقلين والحكم عليهم بعدم سماع الدعوى، أي البراءة، وذلك بعد أن أثبتت التحاليل المخبرية خلو أجسامهم من المواد المخدرة. لكن بضغط من الرأي العام وبعد وجود محجوز من المواد المخدرة في هذه القضية قامت النيابة العمومية باستئناف الحكم وتم فتح بحث تحقيقي بعد أن حامت الشكوك حول حصول تلاعب بالتحاليل من خلال قيام طرف ما بأخذ عينات إلى المخابر لا تتعلق بالمتهمين بل بأشخاص آخرين، فهل أن إمكانية التلاعب بالتحاليل المخبرية هي السبب في انتشار هذه الظاهرة بعد أن أصبح المتورطون يدركون أن بإمكانهم التهرب من العقاب من خلال دفع مبلغ من المال لتغيير العينات ونتائج التحاليل التي تعتبر حاسمة للإدانة؟
في الحقيقة يبدو هذا سبب من بين أسباب عديدة أخرى من بينها تشدد الدولة في ملاحقة المستهلكين وصغار المروجين، وتراخيها في ملاحقة الأباطرة وكبار التجار الذين يجلبون هذه المواد السامة إلى تونس من بلدان قريبة مثل المغرب وأخرى بعيدة على غرار بلدان أمريكا اللاتينية وذلك دون رقيب أو حسيب. فقد تم خلال الفترة الماضية، وعلى سبيل المثال، ضبط كميات هامة من الكوكايين في بلد لاتيني، وصرح الجناة في هذا البلد أن شحنتهم كانت موجهة إلى تونس، ورغم ذلك لم يفتح الطرف التونسي بحثا تحقيقيا ولم يبادر إلى طلب معونة السلطات في هذا البلد اللاتيني للكشف عن هوية الأطراف التي كانت ستتلقى هذه البضاعة والتي لا يمكن تصور أن الأجهزة الأمنية ستعجز عن معرفتها لما عرفت به من كفاءة عالية.
ويؤكد رجل الشارع العادي على أن أجهزة الأمن تعرف جيدا من هم أباطرة وزعماء عصابات جلب المخدرات إلى تونس فردا فردا لكنها مكبلة بتعليمات تأتي من قبل مسؤولين كبار وسياسيين إما لديهم ارتباطات ومصالح مع هذه العصابات أو أنهم يخشون نفوذ وبطش وسطوة زعمائها. وبالتالي لا يمكن الضرب على أيدي هؤلاء العابثين بأمن البلاد واستقرارها في غياب الشجاعة والإرادة، فيتم الاكتفاء بملاحقة صغار المروجين والمستهلكين من عموم المواطنين الذين يتم بعد الاشتباه فيهم القبض عليهم وإجراء التحاليل اللازمة لمعرفة استهلاكهم من عدمه للمواد المخدرة.
معضلة حقيقية
كما بامكان الدولة التونسية وعوض ملاحقة تلاميذ وطلبة استهلكوا مواد مخدرة للمرة الأولى ومحاكمتهم وإيداعهم في السجون والقضاء على مسيرتهم الدراسية ومستقبلهم، أن تتوجه إلى البلدان التي تأتي منها هذه السموم على غرار المغرب وكولومبيا وغيرها، وإيجاد الحلول مع حكوماتها لإيقاف هذا النزيف الذي يدمر المجتمع ويستهدف تماسكه. أيعقل أن يدفع ثمن انتشار المخدرات في البلاد مراهقون وشباب يقضون أجمل سنوات عمرهم خلف القضبان، في سجون أثبتت الدراسات أنها لا تصلح ولا تردع بل تدفع إلى مزيد الإنحراف والنزوع إلى الإجرام، في حين أن كبار التجار في الخارج ومن يتعاملون معهم في الداخل ينعمون برغد العيش؟ هل يعقل أن يغادر هؤلاء الشباب والمراهقون السجن وقد بلغوا من العمر عتيا وبسجل جنائي يحول دونهم والحصول على عمل يقتاتون منهم بكرامة، ويجعلهم منبوذين من قبل المجتمع وعرضة لمضايقات الأجهزة الأمنية؟ ألم يحن الوقت للتفكير جديا بالتخفيض في العقوبات المسلطة على المستهلكين والاكتفاء بالتشدد مع التجار والمروجين لهذه المواد السامة؟
في الحقيقة حصلت في السابق مطالبات من بعض منظمات المجتمع المدني التونسي دفعت باتجاه عدم التشدد مع المستهلكين، مقابل الضرب بقوة مع من يبثون هذه الآفة في صفوف المجتمع، ولقيت هذه المطالبات في وقت ما آذانا صاغية من عديد الأطراف. وهناك أيضا من ذهب بعيدا إلى حد المطالبة برفع التجريم عن القنب الهندي أو الحشيش وجعل استهلاكه مباحا أسوة ببعض البلدان في المنطقة وخارجها، لكن مطالب هؤلاء لم تحصل على إجماع التونسيين.
«القدس العربي»