إنّ السياسة الثقافية لفرنسا الاستعمارية في الجزائر في حاجة إلى كتابة مئات رسائل الدكتوراه، لأنّ الفعل الثقافيّ الاستعماري كان أشدّ وطأة على المجتمع. كيف لا، وقد تعرّض المجتمع الجزائري لنقمة صليبيّة دفينة، وفَعْلَة من المسخ فظيعة، ودَفْعةٌ إلى هوّة من الجهل مخيفة، هوة فصلته عن شخصيّته، وحجبته عن أصالته. من جهة أخرى، فإنّ أهمية البحث في هذا الموضوع تكمن في تداعياته التي ما تزال تلقي بظلالها في الرّاهن الجزائري.
لذا، نحاول في هذا المقال الوقوف على نَتْفٍ من ملامح توجّهات هذه السياسة الثقافية، بناء على بعض التصوّرات والدّعوات التي تشي بما كان يخامر مخيال أساطين الاحتلال وراء الفعل الثقافي تجاه المجتمع الجزائري، فمثلا يقول النقيب “شارل ريشارد” في سياق حديثه عن طبيعة “أهالي” الجزائر:»…إنّ هذا الشّعب المنتمي إلى قبيلة متوحّشة، بائسة (يقصد قريش) كادت في مسيرتها الأولى أن تسحق الحضارة المسيحية نتيجة معركة (إشارة إلى معركة بواتيي بجنوب فرنسا) تفقد جرّاءها موروثها الرّوماني القديم«. ولا شكّ إنّ المقصود هنا ليس القبيلة في حدّ ذاتها، بل إشارة إلى الرّسالة السماويّة التي عملت على نشرها.
ومن أجل التّمكين للمشروع الثقافي للمستعمِر، يقول “أ.برنارد”: »… إنّنا لم نحضر إلى الجزائر لإقرار الأمن، بل لنشر الحضارة واللّغة والأفكار الفرنسيّة… وليست الجزائر مستعمَرة كالهند الصينية، ولكنّها جزءٌ من فرنسا كما كانت أيّام روما… إنّنا نريد أن نجعل هناك جنسا يندمج فينا عن طريق اللّغة والعادات..«.
ويقول “دو لاكروا”: »… إنّ التعليم وحده كفيلٌ بالتّمهيد لا لانطلاق هذه السّفينة الرّاسية في مرساها منذ قرون، فحسب، بل إنّه سيعمل على محو هذا اللاّفهم وامتصاصه« وأنّ مَا يميّز المجتمع الجزائري هو »… الجهل الذي يحجب عنه جميل الحضارة الغربية ومزاياها، وهو الذي يُلقي به إلى التعصّب، وهو نتاج التعليم التقليدي«، كما رأى واقع الجزائر يومها كحال أوروبا قبل نهضتها »… صحيحٌ إنّنا في غمرة القرن 16م، لكن من الواجب عدم فقدان الأمل أيضا: إنّنا نعلم السّبيل التي سلكتها فرنسا لبلوغ ما هي عليه اليوم، فلنتوسّل إذن الطّريق نفسه مع العربي، لكن، ليكن ذلك إذ يقطعها بكلّ الوسائل السريعة التي خلّفتها لنا تجربة أسلافنا«. هذا الطّــرح، كان في اتّجاه دفع المجتمـع لأن يضرب صفحا عن تاريخه وحضارته، شريطة »… أن يتمّ ذلك دون دراية منه، أن لا يلحظ الطريق التي قطعها إلاّ بعد أن يكون قد بلغ غايتها«.
وبخصوص الطّريق إلى تحقيق هذا الهدف، يوضّح المفتّش “لوبيشو” العام 1848 ذلك قائلا: »…أعتقد أنّه بإمكاننا أن نشرع اليوم ولو في المدن، في غزو الأهالي أخلاقيًّا بواسطة التّربية، إنّ الحاجز بيننا وبينهم ليس بغير القابل للاختراق، إنّه في تناقص مستمرّ، وسوف يزول تماما حينما تُكلّمنا الأجيال القادمة باللغة نفسها، اللغة الفرنسية«.
هذه الإستراتيجية، أشار إليها المستشرق الفرنسي”ألفرد بل” وهو مدير مدرسة تلمسان في أحد تقاريره إلى وزير الخارجية الفرنسي عن طريق رئيس أكاديمية الجزائر عن التعليم، بعد أن بلغه أنّ “قدّور بن غبريت” قد راسل وزير الخارجية حول الموضوع نفسه، موضّحا في تقريره طبيعة التعليم الذي ينبغي توجيهه للأهالي.
وبحسب “أ.كور” فإنّ : »… إيالة الجزائر لن تصبح مُلكيّة فرنسية حقّا إلاّ حينما تنتشر في ربوعها لغتنا وتتأقلم فيها الفنون والعلوم التي هي مفخرة وطننا… إنّ المعجزة الحقيقية التي ينبغي أن تحدُث، إنّما تكمن في إحلال الفرنسية محلّ اللغة العربية تدريجيًّا، فاللغة الفرنسية التي هي لغة السلطات والإدارة من شأنها أن تنتشر في أوساط الأهالي، لاسيّما إن أقبل الجيل الجديد على تعلّمها في مدارسنا«.
بالنسبة “ج. هاردي” فإنّ »… انتصار السلاح لا يعني النّصر الكامل، إنّ القوة تبني الإمبراطوريات ولكنّها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدّوام، إنّ الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظلّ القلوب تُغذّي نار الحقد والرّغبة في الانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تمّ إخضاع الأبدان… لا بدّ من أن تكون المواد العامّة التي ستتخلّل التعليم هي اللغة الفرنسية التي بواسطتها سنتمكّن من ربط التلاميذ بفرنسا«.
الرأي
ملامح من السياسة الثقافية الفرنسيّة في الجزائر المستعمَرة (الجزء الأول)
الأستاذ: فريد حاجي
2023/07/12
350
0
ملامح من السياسة الثقافية الفرنسيّة في الجزائر المستعمَرة (الجزء الأول)
إنّ السياسة الثقافية لفرنسا الاستعمارية في الجزائر في حاجة إلى كتابة مئات رسائل الدكتوراه، لأنّ الفعل الثقافيّ الاستعماري كان أشدّ وطأة على المجتمع. كيف لا، وقد تعرّض المجتمع الجزائري لنقمة صليبيّة دفينة، وفَعْلَة من المسخ فظيعة، ودَفْعةٌ إلى هوّة من الجهل مخيفة، هوة فصلته عن شخصيّته، وحجبته عن أصالته. من جهة أخرى، فإنّ أهمية البحث في هذا الموضوع تكمن في تداعياته التي ما تزال تلقي بظلالها في الرّاهن الجزائري.
لذا، نحاول في هذا المقال الوقوف على نَتْفٍ من ملامح توجّهات هذه السياسة الثقافية، بناء على بعض التصوّرات والدّعوات التي تشي بما كان يخامر مخيال أساطين الاحتلال وراء الفعل الثقافي تجاه المجتمع الجزائري، فمثلا يقول النقيب “شارل ريشارد” في سياق حديثه عن طبيعة “أهالي” الجزائر:»…إنّ هذا الشّعب المنتمي إلى قبيلة متوحّشة، بائسة (يقصد قريش) كادت في مسيرتها الأولى أن تسحق الحضارة المسيحية نتيجة معركة (إشارة إلى معركة بواتيي بجنوب فرنسا) تفقد جرّاءها موروثها الرّوماني القديم«. ولا شكّ إنّ المقصود هنا ليس القبيلة في حدّ ذاتها، بل إشارة إلى الرّسالة السماويّة التي عملت على نشرها.
ومن أجل التّمكين للمشروع الثقافي للمستعمِر، يقول “أ.برنارد”: »… إنّنا لم نحضر إلى الجزائر لإقرار الأمن، بل لنشر الحضارة واللّغة والأفكار الفرنسيّة… وليست الجزائر مستعمَرة كالهند الصينية، ولكنّها جزءٌ من فرنسا كما كانت أيّام روما… إنّنا نريد أن نجعل هناك جنسا يندمج فينا عن طريق اللّغة والعادات..«.
ويقول “دو لاكروا”: »… إنّ التعليم وحده كفيلٌ بالتّمهيد لا لانطلاق هذه السّفينة الرّاسية في مرساها منذ قرون، فحسب، بل إنّه سيعمل على محو هذا اللاّفهم وامتصاصه« وأنّ مَا يميّز المجتمع الجزائري هو »… الجهل الذي يحجب عنه جميل الحضارة الغربية ومزاياها، وهو الذي يُلقي به إلى التعصّب، وهو نتاج التعليم التقليدي«، كما رأى واقع الجزائر يومها كحال أوروبا قبل نهضتها »… صحيحٌ إنّنا في غمرة القرن 16م، لكن من الواجب عدم فقدان الأمل أيضا: إنّنا نعلم السّبيل التي سلكتها فرنسا لبلوغ ما هي عليه اليوم، فلنتوسّل إذن الطّريق نفسه مع العربي، لكن، ليكن ذلك إذ يقطعها بكلّ الوسائل السريعة التي خلّفتها لنا تجربة أسلافنا«. هذا الطّــرح، كان في اتّجاه دفع المجتمـع لأن يضرب صفحا عن تاريخه وحضارته، شريطة »… أن يتمّ ذلك دون دراية منه، أن لا يلحظ الطريق التي قطعها إلاّ بعد أن يكون قد بلغ غايتها«.
من أجل التّمكين للمشروع الثقافي للمستعمِر، يقول “أ.برنارد”: »… إنّنا لم نحضر إلى الجزائر لإقرار الأمن، بل لنشر الحضارة واللّغة والأفكار الفرنسيّة… وليست الجزائر مستعمَرة كالهند الصينية، ولكنّها جزءٌ من فرنسا كما كانت أيّام روما… إنّنا نريد أن نجعل هناك جنسا يندمج فينا عن طريق اللّغة والعادات..«.
وبخصوص الطّريق إلى تحقيق هذا الهدف، يوضّح المفتّش “لوبيشو” العام 1848 ذلك قائلا: »…أعتقد أنّه بإمكاننا أن نشرع اليوم ولو في المدن، في غزو الأهالي أخلاقيًّا بواسطة التّربية، إنّ الحاجز بيننا وبينهم ليس بغير القابل للاختراق، إنّه في تناقص مستمرّ، وسوف يزول تماما حينما تُكلّمنا الأجيال القادمة باللغة نفسها، اللغة الفرنسية«.
هذه الإستراتيجية، أشار إليها المستشرق الفرنسي”ألفرد بل” وهو مدير مدرسة تلمسان في أحد تقاريره إلى وزير الخارجية الفرنسي عن طريق رئيس أكاديمية الجزائر عن التعليم، بعد أن بلغه أنّ “قدّور بن غبريت” قد راسل وزير الخارجية حول الموضوع نفسه، موضّحا في تقريره طبيعة التعليم الذي ينبغي توجيهه للأهالي.
وبحسب “أ.كور” فإنّ : »… إيالة الجزائر لن تصبح مُلكيّة فرنسية حقّا إلاّ حينما تنتشر في ربوعها لغتنا وتتأقلم فيها الفنون والعلوم التي هي مفخرة وطننا… إنّ المعجزة الحقيقية التي ينبغي أن تحدُث، إنّما تكمن في إحلال الفرنسية محلّ اللغة العربية تدريجيًّا، فاللغة الفرنسية التي هي لغة السلطات والإدارة من شأنها أن تنتشر في أوساط الأهالي، لاسيّما إن أقبل الجيل الجديد على تعلّمها في مدارسنا«.
بالنسبة “ج. هاردي” فإنّ »… انتصار السلاح لا يعني النّصر الكامل، إنّ القوة تبني الإمبراطوريات ولكنّها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدّوام، إنّ الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظلّ القلوب تُغذّي نار الحقد والرّغبة في الانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تمّ إخضاع الأبدان… لا بدّ من أن تكون المواد العامّة التي ستتخلّل التعليم هي اللغة الفرنسية التي بواسطتها سنتمكّن من ربط التلاميذ بفرنسا«.
بخصوص الطّريق إلى تحقيق هذا الهدف، يوضّح المفتّش “لوبيشو” العام 1848 ذلك قائلا: »…أعتقد أنّه بإمكاننا أن نشرع اليوم ولو في المدن، في غزو الأهالي أخلاقيًّا بواسطة التّربية، إنّ الحاجز بيننا وبينهم ليس بغير القابل للاختراق، إنّه في تناقص مستمرّ، وسوف يزول تماما حينما تُكلّمنا الأجيال القادمة باللغة نفسها، اللغة الفرنسية«.
ولكي يتسنّى للمحتلّ تحويل هذا التصوّر والتّمكين له على أرض الواقع، كان عليه زحزحة ما يُعيق هذا المسار. وفي هذا الإطار، تأتي عملية التّضييق على اللغة العربية الفصحى بالدّرجة الأولى، ولم تكن تلك الإجراءاتُ المتّخذة بشأنها لتخرج عن نطاق تحييد الدّين وتهميشه في المجتمع، إذ يقول المـؤرخ “موريس فاهل” أحـد غُلاة الاحتـلال المتحمّسين للإشعاع الثقافـي الفرنسـي في الجزائر: »… لقد شرعنا بادئ ذي بدء في هدم كلّ المسايد تقريبا (وهي المدارس الابتدائية) والزوايا (الرّيفية) والمدارس (الثانوية) وبعض المدارس الإسلامية الأخرى الموجودة قبل 1830، وبعدها انهمكنا في إجراء تجارب ارتجالية لم تنجرّ عنها سوى نتائج هزيلة وأحيانا سلبية«. هذا القول، يعني -فيما يعني- إقرارا بعدم القدرة على قبر العربية الفصحى بمثل هذه الإجراءات، لأنّ بعض مؤسّسات الزّوايا ممّن سُمح لها بالنّشاط التعليمي ظلّت تُقاوم، كما حافظت المساجد الرّسمية هي الأخرى على الفصحى إلى حدّ كبير عبر بعض الدروس التي رخّص بها المستعمِر، حتّى وإن كانت الدروس في أوّل الأمر مقتصرة على جمهور محدود من عامّة الناس القريبين من المسجد وعلى موضوع محدّد هو الفقه والتوحيد.
مهما يكن، فقد أعلن السّاسة والعسكريون، ورجال الدّين في تكبّر وعجرَفَة بأنّهم الورثة المباشرون للإمبراطوريّة الرومانيّة- المسيحيّة، وأنّهم قدِموا لإرجاع الرّوح الحضارية لهذه الرّقعة من الأرض. وللتّعبير عن هذه الرّوح، راحوا يبحثون عن بقايا “أسلافهم” التي تعبّر -في نظرهم- عن “السّخاء” الذي منّوا به على هذا “العَجَاج” حين وجدوهم لا يعرفون معنى للاستقرار، فوفّروا لهم سُبُل ذلك، وقضوا على التّناحر فيما بينهم، وعلى الفوضى التي كانت خاصّيتهم.
وإذا، كان “الأسلاف” قد آلوا على أنفسهم إعادتهم إلى “الآدمية” وأدّوا المهمّة” على أكمل وجه”، إلاّ أنّ “الغازي” العربي (هكذا) لم يمهلهم لإتمام مهمّتهم “الحضارية”. ومرّة أخرى، ها هي الفرصة أمام “أحفادهم” لاستكمال مسيرة “التّمدين” والقيام بمحو آثار “الخراب” الذي طال الأرض والبشر طيلة 12 قرنا المنقضية جرّاء “همجيّة” العرب (هكذا) الذين أعادوهم إلى نقطة الصّفر بفعل تلك المرجعيّة العاقرة (أي الإسلام)!؟
لقد كان الجانب الثّقافي، رهانا وأداة سياسية ضروريّة لخلق الشّروط الملائمة للاحتفاظ بالسّيادة الفرنسية على الجزائر؛ وكان الجميع منتشيا بالعودة إلى “أرض الأجداد” بعد انقطاع دام 12 قرنا، ذلك أنّ التّجربة الإسبانية في الأندلس ووهران، لم تبارح مخيال العسكريّين، وإنّ أمجاد روما القديمة، كانت تراود المعمّرين والكتّاب والصِّحَافِيّين، ولم يبق سوى محو آثار ورموز “المغتصِب” العربي (هكذا)، مادّية كانت أو معنويّة، واستعاضتها برموز الوافد الجديد.
في هذا الإطار، جاءت الخطوات الأولى منذ ثلاثينات القرن 19م، لإقامة تماثل ثقافي بين دولة “المتروبول” والجزائر المستعمَرة، وتحويلها إلى مقاطعة فرنسية جسدا وروحا، بدءا بإنشاء مختلف المؤسّسات التي ستؤدّي وظيفة سياسيّة وثقافيّة؛ فهي تعكس صورة فرنسا من ناحيّة، وهي أدوات تأثير على “الأهالي”. واستكمالا لهذه الخطوة، لجأ إلى طمس التّراث الثّقافي العمراني الأصيل للمجتمع، كونه تراثا يرمز -في نظره- إلى ثقافة “سكونيّة” مؤطّرة بعقيدة اسمها “الإسلام”.
لقد شرع المستعمِر في تغيير الطّابع العمراني الذي يحيل في معماره وهندسته إلى مرجعيّة المجتمع، واستبداله بمعمار ذي طابع أوروبّي مسيحي، ومنه تحوير واجهات بعض المساجد واستحالتها إلى كنائس، وإقامة مؤسّسات مختلفة تعكس صورة فرنسا وقيمَها. لكن، إذا كان ذلك ممكنا بحكم امتلاك المحتلّ للقوّة، فإنّ هذه الأخيرة لا تُجدي في إخضاع الأنفس، وتغيير ما بها من ثقافة تحتيّة. لذا، ارتأى أنّه من الأجدر بداية، فهم طبيعة هذه الثّقافة التّحتية و/ أو النّظام المعرفي.
لأجل ذلك، جنّد المستعمِر مختلف الفاعلين، العسكري والمدني، العلماني ورجل الدّين، اليساري والليبرالي، الذين أضفوا على أنفسهم -بحقّ أو بغير حقّ- صفة المؤرِّخ، الأركيولوجي، الإثنولوجي، الأنتروبولوجي، اللّساني. وقد جعلوا من الجزائر أرضا وشعبا وثقافة وتاريخا، مسرحا لتحرّياتهم ودراساتهم. وقد خلُصوا إلى شطط من الأحكام، مفادها؛ أنّ المجتمع مجرّد “عَجَاج” يقطن حيّزا جغرافيّا، تعاقبت عليه الدّول، ولم يكن بإمكانه دحرُ أيّ غاز إلاّ حين الاستنجاد بآخر، وإنّ مرجعيّته الدّينيّة، هي أنموذجٌ للتعصّب والجمود..!؟ هذه الأحكام، لم تكن تنمّ عن خلفيّة إيديولوجية محدّدة مسبقا فحسب، بل، ومُطعَّمة بنزعة عُنصرية رائجة آنذاك.
إنّ هذا التّنميط للمجتمع ولمرجعيّته، يعني فيما يعني، أنّ فرنسا “الحضارة” لم تأت إلاّ لانتشال المجتمع من هذا الواقع، ولن يتأتّى ذلك إلاّ بطرح المجتمع لثقافته، واستعاضتها بالثّقافة المتميّزة بالديناميّة والتجدّد مثلما عبّر عن ذاك “ريموند بيروني” في العام 1924م بالقول: “إنّ التساؤل الذي تبدّى لنا حتى قبل أن تطأ أقدامُنا الأرض الإفريقية، وهو نفسه حين فتح لنا الربّ آفاق إفريقيا: كيف ينبغي لفرنسا أن تتصرّف لكي تجعل من شمال إفريقيا أرضا فرنسية بالأساس؟ لقد أدركنا بشكل واضح أنّ هذا الفعل الوطني يستند إلى دعامتين: عدم تضييع امتلاك شمال القارّة الإفريقية، والعمل على تشكيلها على النّمط الفرنسي”.
إنّ القيّمين على هذه العمليّة، لم يروموا الوقوف على بُنْيَة المجتمع السوسيو- ثقافية وحسب، بل هناك طعنٌ في تاريخيه، وتشكيك في هويّته، ونفي لوجوده كأمّة، وما على المجتمع إلاّ أن يتقبّل بأنّ الله “سخّر” فرنسا “المتفوّقة” عرقيّا وأخلاقيّا وحضاريّا، لـ”تمدين” هذا “العجاج” وإعادة هذه الأرض إلى مسيحيّتها، مثلما سخّر اللّهُ “المطهّرين” في أمريكا.
الرأي
ملامح من السياسة الثقافية الفرنسيّة في الجزائر المستعمَرة (الجزء الأول)
الأستاذ: فريد حاجي
2023/07/12
350
0
ملامح من السياسة الثقافية الفرنسيّة في الجزائر المستعمَرة (الجزء الأول)
إنّ السياسة الثقافية لفرنسا الاستعمارية في الجزائر في حاجة إلى كتابة مئات رسائل الدكتوراه، لأنّ الفعل الثقافيّ الاستعماري كان أشدّ وطأة على المجتمع. كيف لا، وقد تعرّض المجتمع الجزائري لنقمة صليبيّة دفينة، وفَعْلَة من المسخ فظيعة، ودَفْعةٌ إلى هوّة من الجهل مخيفة، هوة فصلته عن شخصيّته، وحجبته عن أصالته. من جهة أخرى، فإنّ أهمية البحث في هذا الموضوع تكمن في تداعياته التي ما تزال تلقي بظلالها في الرّاهن الجزائري.
لذا، نحاول في هذا المقال الوقوف على نَتْفٍ من ملامح توجّهات هذه السياسة الثقافية، بناء على بعض التصوّرات والدّعوات التي تشي بما كان يخامر مخيال أساطين الاحتلال وراء الفعل الثقافي تجاه المجتمع الجزائري، فمثلا يقول النقيب “شارل ريشارد” في سياق حديثه عن طبيعة “أهالي” الجزائر:»…إنّ هذا الشّعب المنتمي إلى قبيلة متوحّشة، بائسة (يقصد قريش) كادت في مسيرتها الأولى أن تسحق الحضارة المسيحية نتيجة معركة (إشارة إلى معركة بواتيي بجنوب فرنسا) تفقد جرّاءها موروثها الرّوماني القديم«. ولا شكّ إنّ المقصود هنا ليس القبيلة في حدّ ذاتها، بل إشارة إلى الرّسالة السماويّة التي عملت على نشرها.
ومن أجل التّمكين للمشروع الثقافي للمستعمِر، يقول “أ.برنارد”: »… إنّنا لم نحضر إلى الجزائر لإقرار الأمن، بل لنشر الحضارة واللّغة والأفكار الفرنسيّة… وليست الجزائر مستعمَرة كالهند الصينية، ولكنّها جزءٌ من فرنسا كما كانت أيّام روما… إنّنا نريد أن نجعل هناك جنسا يندمج فينا عن طريق اللّغة والعادات..«.
ويقول “دو لاكروا”: »… إنّ التعليم وحده كفيلٌ بالتّمهيد لا لانطلاق هذه السّفينة الرّاسية في مرساها منذ قرون، فحسب، بل إنّه سيعمل على محو هذا اللاّفهم وامتصاصه« وأنّ مَا يميّز المجتمع الجزائري هو »… الجهل الذي يحجب عنه جميل الحضارة الغربية ومزاياها، وهو الذي يُلقي به إلى التعصّب، وهو نتاج التعليم التقليدي«، كما رأى واقع الجزائر يومها كحال أوروبا قبل نهضتها »… صحيحٌ إنّنا في غمرة القرن 16م، لكن من الواجب عدم فقدان الأمل أيضا: إنّنا نعلم السّبيل التي سلكتها فرنسا لبلوغ ما هي عليه اليوم، فلنتوسّل إذن الطّريق نفسه مع العربي، لكن، ليكن ذلك إذ يقطعها بكلّ الوسائل السريعة التي خلّفتها لنا تجربة أسلافنا«. هذا الطّــرح، كان في اتّجاه دفع المجتمـع لأن يضرب صفحا عن تاريخه وحضارته، شريطة »… أن يتمّ ذلك دون دراية منه، أن لا يلحظ الطريق التي قطعها إلاّ بعد أن يكون قد بلغ غايتها«.
من أجل التّمكين للمشروع الثقافي للمستعمِر، يقول “أ.برنارد”: »… إنّنا لم نحضر إلى الجزائر لإقرار الأمن، بل لنشر الحضارة واللّغة والأفكار الفرنسيّة… وليست الجزائر مستعمَرة كالهند الصينية، ولكنّها جزءٌ من فرنسا كما كانت أيّام روما… إنّنا نريد أن نجعل هناك جنسا يندمج فينا عن طريق اللّغة والعادات..«.
وبخصوص الطّريق إلى تحقيق هذا الهدف، يوضّح المفتّش “لوبيشو” العام 1848 ذلك قائلا: »…أعتقد أنّه بإمكاننا أن نشرع اليوم ولو في المدن، في غزو الأهالي أخلاقيًّا بواسطة التّربية، إنّ الحاجز بيننا وبينهم ليس بغير القابل للاختراق، إنّه في تناقص مستمرّ، وسوف يزول تماما حينما تُكلّمنا الأجيال القادمة باللغة نفسها، اللغة الفرنسية«.
هذه الإستراتيجية، أشار إليها المستشرق الفرنسي”ألفرد بل” وهو مدير مدرسة تلمسان في أحد تقاريره إلى وزير الخارجية الفرنسي عن طريق رئيس أكاديمية الجزائر عن التعليم، بعد أن بلغه أنّ “قدّور بن غبريت” قد راسل وزير الخارجية حول الموضوع نفسه، موضّحا في تقريره طبيعة التعليم الذي ينبغي توجيهه للأهالي.
وبحسب “أ.كور” فإنّ : »… إيالة الجزائر لن تصبح مُلكيّة فرنسية حقّا إلاّ حينما تنتشر في ربوعها لغتنا وتتأقلم فيها الفنون والعلوم التي هي مفخرة وطننا… إنّ المعجزة الحقيقية التي ينبغي أن تحدُث، إنّما تكمن في إحلال الفرنسية محلّ اللغة العربية تدريجيًّا، فاللغة الفرنسية التي هي لغة السلطات والإدارة من شأنها أن تنتشر في أوساط الأهالي، لاسيّما إن أقبل الجيل الجديد على تعلّمها في مدارسنا«.
بالنسبة “ج. هاردي” فإنّ »… انتصار السلاح لا يعني النّصر الكامل، إنّ القوة تبني الإمبراطوريات ولكنّها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدّوام، إنّ الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظلّ القلوب تُغذّي نار الحقد والرّغبة في الانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تمّ إخضاع الأبدان… لا بدّ من أن تكون المواد العامّة التي ستتخلّل التعليم هي اللغة الفرنسية التي بواسطتها سنتمكّن من ربط التلاميذ بفرنسا«.
بخصوص الطّريق إلى تحقيق هذا الهدف، يوضّح المفتّش “لوبيشو” العام 1848 ذلك قائلا: »…أعتقد أنّه بإمكاننا أن نشرع اليوم ولو في المدن، في غزو الأهالي أخلاقيًّا بواسطة التّربية، إنّ الحاجز بيننا وبينهم ليس بغير القابل للاختراق، إنّه في تناقص مستمرّ، وسوف يزول تماما حينما تُكلّمنا الأجيال القادمة باللغة نفسها، اللغة الفرنسية«.
ولكي يتسنّى للمحتلّ تحويل هذا التصوّر والتّمكين له على أرض الواقع، كان عليه زحزحة ما يُعيق هذا المسار. وفي هذا الإطار، تأتي عملية التّضييق على اللغة العربية الفصحى بالدّرجة الأولى، ولم تكن تلك الإجراءاتُ المتّخذة بشأنها لتخرج عن نطاق تحييد الدّين وتهميشه في المجتمع، إذ يقول المـؤرخ “موريس فاهل” أحـد غُلاة الاحتـلال المتحمّسين للإشعاع الثقافـي الفرنسـي في الجزائر: »… لقد شرعنا بادئ ذي بدء في هدم كلّ المسايد تقريبا (وهي المدارس الابتدائية) والزوايا (الرّيفية) والمدارس (الثانوية) وبعض المدارس الإسلامية الأخرى الموجودة قبل 1830، وبعدها انهمكنا في إجراء تجارب ارتجالية لم تنجرّ عنها سوى نتائج هزيلة وأحيانا سلبية«. هذا القول، يعني -فيما يعني- إقرارا بعدم القدرة على قبر العربية الفصحى بمثل هذه الإجراءات، لأنّ بعض مؤسّسات الزّوايا ممّن سُمح لها بالنّشاط التعليمي ظلّت تُقاوم، كما حافظت المساجد الرّسمية هي الأخرى على الفصحى إلى حدّ كبير عبر بعض الدروس التي رخّص بها المستعمِر، حتّى وإن كانت الدروس في أوّل الأمر مقتصرة على جمهور محدود من عامّة الناس القريبين من المسجد وعلى موضوع محدّد هو الفقه والتوحيد.
مهما يكن، فقد أعلن السّاسة والعسكريون، ورجال الدّين في تكبّر وعجرَفَة بأنّهم الورثة المباشرون للإمبراطوريّة الرومانيّة- المسيحيّة، وأنّهم قدِموا لإرجاع الرّوح الحضارية لهذه الرّقعة من الأرض. وللتّعبير عن هذه الرّوح، راحوا يبحثون عن بقايا “أسلافهم” التي تعبّر -في نظرهم- عن “السّخاء” الذي منّوا به على هذا “العَجَاج” حين وجدوهم لا يعرفون معنى للاستقرار، فوفّروا لهم سُبُل ذلك، وقضوا على التّناحر فيما بينهم، وعلى الفوضى التي كانت خاصّيتهم.
وإذا، كان “الأسلاف” قد آلوا على أنفسهم إعادتهم إلى “الآدمية” وأدّوا المهمّة” على أكمل وجه”، إلاّ أنّ “الغازي” العربي (هكذا) لم يمهلهم لإتمام مهمّتهم “الحضارية”. ومرّة أخرى، ها هي الفرصة أمام “أحفادهم” لاستكمال مسيرة “التّمدين” والقيام بمحو آثار “الخراب” الذي طال الأرض والبشر طيلة 12 قرنا المنقضية جرّاء “همجيّة” العرب (هكذا) الذين أعادوهم إلى نقطة الصّفر بفعل تلك المرجعيّة العاقرة (أي الإسلام)!؟
لقد كان الجانب الثّقافي، رهانا وأداة سياسية ضروريّة لخلق الشّروط الملائمة للاحتفاظ بالسّيادة الفرنسية على الجزائر؛ وكان الجميع منتشيا بالعودة إلى “أرض الأجداد” بعد انقطاع دام 12 قرنا، ذلك أنّ التّجربة الإسبانية في الأندلس ووهران، لم تبارح مخيال العسكريّين، وإنّ أمجاد روما القديمة، كانت تراود المعمّرين والكتّاب والصِّحَافِيّين، ولم يبق سوى محو آثار ورموز “المغتصِب” العربي (هكذا)، مادّية كانت أو معنويّة، واستعاضتها برموز الوافد الجديد.
في هذا الإطار، جاءت الخطوات الأولى منذ ثلاثينات القرن 19م، لإقامة تماثل ثقافي بين دولة “المتروبول” والجزائر المستعمَرة، وتحويلها إلى مقاطعة فرنسية جسدا وروحا، بدءا بإنشاء مختلف المؤسّسات التي ستؤدّي وظيفة سياسيّة وثقافيّة؛ فهي تعكس صورة فرنسا من ناحيّة، وهي أدوات تأثير على “الأهالي”. واستكمالا لهذه الخطوة، لجأ إلى طمس التّراث الثّقافي العمراني الأصيل للمجتمع، كونه تراثا يرمز -في نظره- إلى ثقافة “سكونيّة” مؤطّرة بعقيدة اسمها “الإسلام”.
لقد شرع المستعمِر في تغيير الطّابع العمراني الذي يحيل في معماره وهندسته إلى مرجعيّة المجتمع، واستبداله بمعمار ذي طابع أوروبّي مسيحي، ومنه تحوير واجهات بعض المساجد واستحالتها إلى كنائس، وإقامة مؤسّسات مختلفة تعكس صورة فرنسا وقيمَها. لكن، إذا كان ذلك ممكنا بحكم امتلاك المحتلّ للقوّة، فإنّ هذه الأخيرة لا تُجدي في إخضاع الأنفس، وتغيير ما بها من ثقافة تحتيّة. لذا، ارتأى أنّه من الأجدر بداية، فهم طبيعة هذه الثّقافة التّحتية و/ أو النّظام المعرفي.
لأجل ذلك، جنّد المستعمِر مختلف الفاعلين، العسكري والمدني، العلماني ورجل الدّين، اليساري والليبرالي، الذين أضفوا على أنفسهم -بحقّ أو بغير حقّ- صفة المؤرِّخ، الأركيولوجي، الإثنولوجي، الأنتروبولوجي، اللّساني. وقد جعلوا من الجزائر أرضا وشعبا وثقافة وتاريخا، مسرحا لتحرّياتهم ودراساتهم. وقد خلُصوا إلى شطط من الأحكام، مفادها؛ أنّ المجتمع مجرّد “عَجَاج” يقطن حيّزا جغرافيّا، تعاقبت عليه الدّول، ولم يكن بإمكانه دحرُ أيّ غاز إلاّ حين الاستنجاد بآخر، وإنّ مرجعيّته الدّينيّة، هي أنموذجٌ للتعصّب والجمود..!؟ هذه الأحكام، لم تكن تنمّ عن خلفيّة إيديولوجية محدّدة مسبقا فحسب، بل، ومُطعَّمة بنزعة عُنصرية رائجة آنذاك.
إنّ هذا التّنميط للمجتمع ولمرجعيّته، يعني فيما يعني، أنّ فرنسا “الحضارة” لم تأت إلاّ لانتشال المجتمع من هذا الواقع، ولن يتأتّى ذلك إلاّ بطرح المجتمع لثقافته، واستعاضتها بالثّقافة المتميّزة بالديناميّة والتجدّد مثلما عبّر عن ذاك “ريموند بيروني” في العام 1924م بالقول: “إنّ التساؤل الذي تبدّى لنا حتى قبل أن تطأ أقدامُنا الأرض الإفريقية، وهو نفسه حين فتح لنا الربّ آفاق إفريقيا: كيف ينبغي لفرنسا أن تتصرّف لكي تجعل من شمال إفريقيا أرضا فرنسية بالأساس؟ لقد أدركنا بشكل واضح أنّ هذا الفعل الوطني يستند إلى دعامتين: عدم تضييع امتلاك شمال القارّة الإفريقية، والعمل على تشكيلها على النّمط الفرنسي”.
إنّ القيّمين على هذه العمليّة، لم يروموا الوقوف على بُنْيَة المجتمع السوسيو- ثقافية وحسب، بل هناك طعنٌ في تاريخيه، وتشكيك في هويّته، ونفي لوجوده كأمّة، وما على المجتمع إلاّ أن يتقبّل بأنّ الله “سخّر” فرنسا “المتفوّقة” عرقيّا وأخلاقيّا وحضاريّا، لـ”تمدين” هذا “العجاج” وإعادة هذه الأرض إلى مسيحيّتها، مثلما سخّر اللّهُ “المطهّرين” في أمريكا.
بحسب “أ.كور” فإنّ: »… إيالة الجزائر لن تصبح مُلكيّة فرنسية حقّا إلاّ حينما تنتشر في ربوعها لغتنا وتتأقلم فيها الفنون والعلوم التي هي مفخرة وطننا… إنّ المعجزة الحقيقية التي ينبغي أن تحدُث، إنّما تكمن في إحلال الفرنسية محلّ اللغة العربية تدريجيًّا، فاللغة الفرنسية التي هي لغة السلطات والإدارة من شأنها أن تنتشر في أوساط الأهالي، لاسيّما إن أقبل الجيل الجديد على تعلّمها في مدارسنا«.
وإذا كان المستعمِر، قد حاول إضفاء الشّرعيّة على تواجده بالجزائر بتوظيفه للإرث الرّوماني، فإنّه عمل على التمكين لمنظومته الثقافية في الجزائر مستعملا جملة من المداخل ومنها:
1. تحويل الأهالي عن دينهم، من خلال محاولات رجال الدّين، ومن ورائهم بعض الحكّام العامّين. وإذا رافق هذه العمليّةَ تجاذبٌ بين الفاعلين الاستعماريّين، فإنّ أصل هذا الخلاف كان بشأن السّبل والوسائل والتّوقيت. لكن فشل المحاولة، وإدراك رجال السياسة بالدّرجة الأولى، استحالة تحويل المجتمع عن دينه، دفعهم إلى إعادة النّظر في هذه السياسة، وذلك بالعمل على توهين الدّين في حياة الفرد الجزائري المسلم؛ فعلى سبيل المثال، انتقد “س. مارشال” سياسة التّنصير، خلال انعقاد المؤتمر العالمي للسوسيولوجيا الاستعماريّة في باريس في شهر أوت من العام 1901م، قائلا: »… كنّا نفكّر سابقا بتحويل شعوب هذه البلدان عن دينهم، فنبعث لهم رجال ديانات مختلفة مُكلّفين بذلك، ومنذ ذلك الحين، هل خطّط سياسيّونا وأساتذتنا وبيداغوجيّونا لشيء آخر غير تحويل النّاس ليس عن دينهم فحسب، بل عن حضارتهم أيضا، أي عن سلوكهم، ممارساتهم لقوانينهم المدنيّة والإدارية ولنظامهم حتى يخضعونهم بالقوّة«؟. كذلك، انتقد أيضا أحد المتدخّلين في مؤتمر القدس بجبل الزيتون في العام 1927م محاولات التّمسيح قائلا: »…أتعتقدون أنّ غرض التّمسيح وسياسته إزاء الإسلام هو إخراج المسلمين من دينهم ليكونوا مسيحيّين؟ إن كنتم تعتقدون هذا، فقد جَهلتم التّمسيح ومراميه. إنّ الغاية التي نرومها هي إخراج المسلم من الإسلام فقط، ليكون مضطربا في دينه، وعندها لا تكون له عقيدة يدين بها ويسترشد بهديها، وعندها يكون المسلم ليس له من الإسلام إلاّ اسم أحمد أو مصطفى، أمّا الهداية فينبغي البحث عنها في مكان آخر«. ويبدو أنّ هذا الخطاب هو رسالة ضمنيّة إلى رجال الدّين بالأخصّ، للكفّ عن دعوتهم المباشرة والعلنيّة إلى التّمسيح، والتي لم تُثمر حتّى في أوساط من ادّعوا أنّ لهم الاستعداد والقابليّة لاحتضان الثّقافة الوافدة، وأنّ تلك الدّعوة ستفضي إلى عدم الثّقة لدى السكّان، والتوجّس خيفة من أيّ فعل ونشاط يصدر عن المحتلّ، حتّى ولو كان في صالحهم.
وبالنتيجة، ستشوّش تلك الدّعوة على الأساليب والمداخل الأخرى المتّبَعة لزعزعة ذلك النّظام المعرفي. وكانت تلك إحدى نقاط الخلاف بين السّاسة والعسكريّين، في ظلّ الإمبراطوريّة الثانية، والجمهوريّة الثالثة بالأخصّ -باستثناء البعض منهم- وقد ساروا على ضوء تلك الرّؤية التي طُرحت في المؤتمرين المذكورين أعلاه.
الشروق