يبدو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في صدد سنّ تقليد بدأه عام 2017، حين زار الجزائر بعد شهر واحد من فوزه في الانتخابات الرئاسية، فها هو يزور الجزائر مجددا بعد أربعة شهور من فوزه الرئاسي الثاني، وبدلا من البقاء 12 ساعة، كما فعل في الزيارة الأولى، فإنه سيبقى في الجزائر ثلاثة أيام رفقة وفد كبير (يضم 90 شخصية)، مع برنامج واسع تشتبك فيه قضايا السياسة بالاقتصاد والتاريخ بالثقافة والأديان بالتطبيع.
تطلق كل زيارة مسؤول فرنسي إلى الجزائر دائما مشاعر متناقضة لدى الجزائريين الذين تحمل أزمات بلادهم العميقة آثارا ملحوظة تمتد من فترة الاستعمار المديد حتى اليوم، وتنسحب آثار هذه الحقبة، أيضا، على شكل أزمات داخل المجتمع الفرنسي، وخصوصا في علاقات أجهزة الحكم والأمن ووزارات الداخلية، وحاضنتها السياسية من اليمين العنصري الذي يشغل المستوطنون الفرنسيون السابقون قوة فيه، مع المواطنين من أصول جزائرية (ومغاربية).
حمل التوقيت السريع للزيارة الأولى لماكرون بصمات تلك العلاقة المعقدة، حيث اعتبرت تحيّة من الرئيس الفرنسي الشاب لتصويت مجمل الفرنسيين من أصول جزائرية له، الذين ارتبط تصويتهم بمقاومة مد “الجبهة الوطنية” العنصرية المعادي لهم، كما عكست تفاعلا مع شعارات ماكرون الانتخابية التي اعتبرت الاستعمار جريمة ضد الإنسانية.
بين الزيارتين، حصلت تقلّبات عميقة، بدأت بفتح الرئاسة الفرنسية “ملف الذاكرة”، فتم فتح جزء من الأرشيف الفرنسي الخاص بالثورة الجزائرية، وكلّف المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا بدراسة تلك الحقبة المرعبة وتقديم توصياته للرئيس في بداية العام الحالي، وجرى بعدها الاعتراف بتعذيب وقتل القائد الجزائري علي بو منجل، وتسليم جماجم مقاومين جزائريين لدفنها رسميا في الجزائر.
في تذبذبه بين مطالب “تفكيك ألغام الذاكرة” لحصد رضا الجزائريين (وإغضاب اليمين العنصري)، والشعبوية التي يستلزمها جمع أصوات المحافظين الفرنسيين، قام ماكرون بنفي وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، فاستدعت الجزائر سفيرها في باريس، ومنعت الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق في أجوائها.
توحّد الجمع مجددا خلال الانتخابات الأخيرة، فاختار المغاربيون، والجزائريون بينهم، ماكرون مجددا لصد مارين لوبين (مرشحة اليمين العنصري المعادي للمسلمين والأقليات)، وقام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بتهنئته بالفوز… ودعوته لزيارة الجزائر.
لا تتعلق شؤون الزيارة كلّها طبعا بالتاريخ والحملات الانتخابية، فبعد الحرب الأوكرانية، والعقوبات الأوروبية على النفط والغاز الروسي، صار الغاز الجزائري، القريب من أوروبا، سلعة استراتيجية سيكون لها، بدورها، تأثيرها على الانتخابات الفرنسية والأوروبية، وخصوصا مع احتمال قطع روسيا، في الشتاء المقبل، إمدادات الغاز على فرنسا، والتي تعادل 17% من كامل احتياجاتها.
تدخل في هذا السياق، ولو بشكل غير مباشر، الأزمة الجزائرية مع المغرب، والتي انعكست على إمدادات الغاز الجزائري على إسبانيا نتيجة اقترابها من الموقف المغربي، ففرنسا تعوّل على بنية إسبانيا التحتية الكبيرة لتأمين الغاز المعالج، ومن مصلحتها ألا تسوء العلاقات بين مدريد والجزائر، وهو يجعل موقف باريس حساسا، وخصوصا مع ضغوط الرباط المطالبة بموقف فرنسي أكثر وضوحا من سيادتها على الصحراء الغربية.
إضافة للغاز فهناك قضايا اقتصادية عديدة تهم باريس، ويمكن فهم زيارة ماكرون لوهران ضمنها، حيث يوجد مشروع لتركيب سيارات رينو الفرنسية، ومشروع إنشاء مجمع بتروكيميائي، وكذلك قضايا عسكرية – أمنية، منها استعادة جزء من النفوذ الفرنسي المتهاوي بعد تراجع باريس في مستعمراتها الافريقية السابقة، كما حصل في مالي التي تشهد تصاعدا في الهيمنة الروسية، وكذلك في التشاد والنيجر وبوركينا فاسو.
تبدو أجندة ماكرون الكبيرة صعبة التطبيق، فتدخّلات بلاده العسكرية في افريقيا، من ليبيا إلى مالي، تبدو استعادة بائسة وفاشلة لزمن الاستعمار القديم، ومحاولاته لإعادة فرنسا إلى موقع الشريك الاقتصادي الأول للجزائر تبدو نوعا من الحنين للهيمنة الامبريالية أكثر منه تعاونا بين بلدين.
من المفيد، في هذا السياق، أن يسمع الجزائريون اعتذارا رسميا فرنسيا عن جزائر الاستعمار في بلادهم، وأن يقوم الفرنسيون بمشاريع تتجاوز استيراد الغاز وصناعة السيارات، وأن يحتسبوا، أيضا، لمستقبل الأجيال الشابة، الطامحة لنظام أكثر ديمقراطية ومدنية وشفافية في الجزائر، وكذلك في فرنسا نفسها، التي تعاني من أمراض سياسية كبيرة، وهذا هو الخيار الأنسب لضمان حياة أفضل للشعبين.
القدس العربي