احتضنت الجزائر مؤخراً اجتماعا للفصائل الفلسطينية الـ 14 بهدف إنهاء انقسام النظام السياسي الفلسطيني. هذا الاجتماع سعى إلى استعادة الوحدة الوطنية، واستنهاض الكيانات الجامعة كمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. كما سعى اجتماع الجزائر إلى إنهاء حال الانقسام الفلسطيني والخصام بين فتح وحماس اللتين تحولتا على التوالي إلى سلطة في الضفة وسلطة أخرى في غزة.
حوار الجزائر هو الـ16 من نوعه. وسبق لحماس وفتح وعموم الفصائل عقد اجتماعات ثنائية وجماعية على مدار الأعوام الـ17 الماضية. واستضافت مصر اجتماعات الفصائل في أعوام 2005 و2009 و2011 و2012 و2014 و2017. أما قطر فاستضافت اجتماعين في عامي 2012 و2014. وعقدت الفصائل ثلاثة اجتماعات في الضفة الغربية وغزّة في أعوام 2018 و2020. وفي نفس السياق، تم عقد ثلاثة اجتماعاتٍ لرأب الصدع الفلسطيني في عامي 2018 و2021 في لبنان وتركيا وروسيا. وإلى جانب ذلك، فقد أصدر الأسرى الفلسطينيون وثيقة في عام 2006 للإسهام في محاولات تحقيق الوفاق الوطني الفلسطيني.
الاتفاقات التي توصّلت لها الاجتماعات السابقة بقيت حبرا على ورق أو تم نقضها قبل أن يجف حبرها . وأبسط مثال على ذلك عودة القيادة الفلسطينية للتنسيق مع إسرائيل بعد تجميده لأشهر في عام 2020. ويندرج في نفس الإطار قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتجميد الانتخابات الفلسطينية في أبريل 2021.
على أي حال ثمة قضايا رئيسية ينبغي حسمها لإنجاز المصالحة، لعل أهمها:
أولا، حسم فتح وحماس لمسألة الشراكة. وتتصرف فتح وكأنها وحدها وليّة أمر الفلسطينيين، وأنها وحدها تقرر خياراتهم الوطنية وتدير أحوالهم. وباتباعها لهذه المنهجية، فإن فتح تتعامل مع الفلسطينيين وكأن شيئا لم يحصل لهم خلال السنوات الخمسين الماضية بسبب إخفاق الخيارات التي انتهجتها. وتشمل تلك الإخفاقات خيار المضي قدماً في مسار التسوية والمفاوضة، وتخبط إدارة فتح للسلطة، وتهميش منظمة التحرير والهيئات المنبثقة عنها. وينطبق الأمر نفسه على حماس التي لا أحد يعرف إن كانت اقتنعت بأنها لم تستطع أن تشكل بديلا عن فتح. كما أنّ حماس تذهب إلى اجتماعات التوافق دون مراجعة خطوة الانقسام أو انتقاد تجربتها في إدارة قطاع غزة بطريقة إقصائية. يضاف إلى ذلك إخفاق خيارات الحركة في المقاومة أو في السلطة.
وبكلماتٍ أخرى، فإنّ على الحركتين الإقرار بأن استنهاض الوضع الفلسطيني يتطلب منهما أكثر من التوافق والشراكة وتقاسم للسلطة. وبكلماتٍ أخرى، ينبغي على الحركتين التحرك باتجاه إعادة بناء الكيانات الفلسطينية على أسس جمعية ومؤسسية ووطنية ووديمقراطية وكفاحية.
ثانيا، لا بدّ من إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية. والقول بالتفعيل وحده دون إعادة البناء غير ممكن، خاصةً وأن تم اللجوء إلى تفعيل عمل المنظمة عبر تغيير أسماء القائمين عليها. ويعود السبب وراء تلازم إعادة بناء وتفعيل عمل المنظمة إلى ترهل بنى المنظمة وضرورة إدخال دماء شابة وجديدة إليها. وباختصار، فإننا بحاجة إلى تجديد شرعية الهيئات التابعة لمنظمة التحرير. كما أننا بحاجة إلى إعادة صوغ الخيارات الوطنية الممكنة، بناء على التجربة والواقع، والمعطيات الجديدة فلسطينيا وعربيا ودوليا.
ثالثا، من المهم أن تدرك قيادتا فتح وحماس بأن الانتخابات هي المدخل الأسلم لحسم الخلافات حول القضايا المطروحة حول الانقسام الفلسطيني. ويشمل ذلك الخيارات الوطنية التي ينبغي اعتمادها في ضوء الإخفاقات السياسية الحاصلة، وضمنها إخفاق خيار أوسلو، وانسداد الأفق أمام إمكان قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.
وفي هذا السياق، ليس من المعقول المراوحة عند خيار أوسلو العقيم، الذي لم يعد بالإمكان تجسيده. ويعود السبب في عقم هذا الخيار إلى استشراء الاستيطان وهيمنة إسرائيل على الكيان الفلسطيني من النواحي الاقتصادية والأمنية والإدارية.
وبديهي أن تشمل الانتخابات انتخابات المجلس التشريعي والمجلس الوطني ورئاسة السلطة. ومن الأفضل إجراء انتخابات المجلسين التشريعي والوطني بالطريقة النسبية الكاملة وعلى الصعيد الوطني، لأن هذا المسار هو المدخل الصحيح للخروج من الفصائلية والمناطقية والعشائرية.
رابعا، لا يمكن الحديث عن اتفاق منجز دون تخلّي حماس وفتح عن واقعهما كسلطتين، مع أجهزة أمنية وموارد مالية. ويكمن المخرج في استعادة الحركتين لطابعهما كحركتي تحرر وطني. وبكلماتٍ أخرى، يجب على الحركتين تغليب طابع التحرر على طابع السلطة، وطابع الصراع مع إسرائيل على طابع الصراع الداخلي. وباختصار، فإن الأزمة الفلسطينية ستبقى قائمة دون وقوع تغيير في إدراكات وثقافات الحركتين.
إنّ أي حوار فلسطيني مطالبٌ بحسم هذه الإشكاليات لأن بقاءها عالقة سيجعل اللقاءات مجرد متاهة، أو حوارات للاستهلاك. وهذا ما يفسر إخفاق كلّ المحاولات السابقة، آملين ألّا يحصل ذلك هذه المرة في الجزائر.
في خضم صراع الحركتين على القيادة والسلطة، ينبغي على القيادات المعنية إدراك وجود خيار آخر وهو استمرار الاحتلال المريح والمربح. ويعني هذا الخيار استمرار الاستيطان وتهويد القدس ومصادرة الأراضي. كما أنه يؤدي إلى الإبقاء على الجدار الفاصل، وتحويل المدن الفلسطينية إلى تجمعات محاصرة، مع التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية والهيمنة الإدارية. والقصد أن خيارات الواقع الفلسطيني لم تعد محصورة بين فتح وحماس، سيّما وأن هناك خيار إسرائيلي يشق طريقه بطريقة ممنهجة ومتدرجة، لكن عميقة ووطيدة. وكلّ هذه الخيارات تتأسس على إبقاء الفلسطينيين في وضع أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي، تحت السيادة الإسرائيلية، الظاهرة أو المبطنة.
أخيرا، قد يغيب عن بال المجتمعين في الجزائر وجود خيار رابع وهو إعادة بناء الكيانات الفلسطينية، بما في ذلك منظمة التحرير، والسلطة، والفصائل والمنظمات الشعبية. والحديث هنا ليس عن بديل، فذلك ليس ممكنا في ظل الظروف الراهنة، ولأنه رهن ديناميات ومعطيات داخلية وخارجية مستقبلا.
الخيار الرابع لا بدّ وأن يقود إلى بناء كيانات فلسطينية على أسس تعزز طابعها كحركة تحرّر وطني، على حساب طابعها كسلطة. كما أن هذه الكيانات بحاجة لأن تستند على قواعد كفاحية وتمثيلية وانتخابية ومؤسسية لإعادة رسم التوازنات في الساحة الفلسطينية، وصوغ رؤية سياسية جديدة قد لا تتوافق مع خيار الدولة المستقلة. ومع ذلك، فإن هذه الرؤى السياسية قد تفتح الأفق لاستعادة التطابق بين قضية التحرير وقضية الحرية. كما أنها تقود إلى تناغم الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، بعد أن تم الانزياح عن كل ذلك وتفكيكه.
وبعد إخفاق الخيارين الأول والثاني وغلبة الخيار الثالث، قد لا يكون أمامنا سوى الخيار الرابع، فلم لا يشتغل الجميع لتحقيق هذا الخيار الذي قد يكون خياراً للشعب الفلسطيني بأكمله؟
fanack