يطفو ملف التطبيع من حين إلى آخر فوق السطح، مثيراً جدلاً واسعاً في تونس، كان آخره لمّا تداول ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، غالبيتهم من مناهضي الرئيس التونسي قيس سعيّد ومسار 25 تموز/ يوليو 2021، مقالاً نشرته صحيفة “إسرائيل اليوم” اليومية الإسرائيلية تدّعي فيه وجود محادثات سرية بين تونس وإسرائيل لتطبيع العلاقات.
نقلت الصحيفة عن مصدر سياسي لم تسمِّه، أن المحادثات المزعومة وجدت معارضةً قويةً في تونس ورفضاً جزائرياً، موضحاً أن تونس تخشى على مصالحها في الجزائر من أن تضيع خصوصاً في مجالات الطاقة والتجارة.
وتناقلت وسائل إعلام تركية وقطرية الخبر معتمدةً الصحيفة الإسرائيلية مصدراً لتثير بذلك الجدل مجدداً حول ملف التطبيع الذي ما فتئ يطفو فوق السطح في كل مرة، خصوصاً بعد الثورة.
تكذيب رسمي
وزارة الشؤون الخارجية التونسية تفاعلت فورياً مع الخبر لتكذيبه وتفنيد أي ادعاء بوجود أي نوع من أنواع العلاقات بين تونس وإسرائيل. إذ سارعت بنشر بيان على موقعها الرسمي بتاريخ 9 حزيران/ يونيو 2022، جاء فيه: “تنفي وزارة الشؤون الخارجيّة والهجرة والتونسيين بالخارج نفياً قاطعاً ما تروّج له بعض المواقع التابعة للكيان الاسرائيلي المحتل من ادعاءات باطلة عن وجود محادثات دبلوماسية مع تونس”.
وأوضح البيان “أن هذه المواقع قد دأبت على نشر هذه الإشاعات في محاولات متكررة للمسّ بصورة بلادنا وموقفها الثابت الداعم للحق الفلسطيني غير القابل للتصرف والسقوط بالتقادم”.
وأكد البيان “أن تونس غير معنية بإرساء علاقات دبلوماسية مع كيان محتل، وأنها ستظل رسمياً وشعبياً، كما أكد على ذلك سيادة رئيس الجمهورية في عديد المناسبات، سنداً للأشقاء الفلسطينيين في نضالهم إلى حين استرداد حقوقهم المشروعة، وفي مقدمتها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف”.
جدل مستعاد
ليست المرة الأولى التي يشتعل فيها الجدل حول التطبيع في تونس، فخلال مداولات المجلس التأسيسي حول كتابة الدستور في 2014، تعالت أصوات حتى من داخل البرلمان مناديةً بضرورة التنصيص في توطئة الدستور على “مناهضة كل أشكال الاحتلال والعنصرية وعلى رأسها الصهيونية”، وهو المقترح الذي أسقطته حركة النهضة صاحبة الأغلبية حينها في المجلس التأسيسي، إذ تحفّظ على المقترح 57 من نوابها ووافق عليه 9 وعارضه 11 نائباً ونائبةً.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2020، أودعت الكتلة الديمقراطية (معارضة) المكوّنة من حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب مبادرةً تشريعيةً لتجريم التطبيع في مجلس نواب الشعب، ظلت منسيةً فوق رفوفه، بالرغم من إيداع الكتلة يوم الثلاثاء 18 أيار/ مايو 2021، طلب استعجال النظر فيها.
وبالرغم من ذلك، فإن أكثر الأخبار المتعلقة بالتطبيع تأتي من مصادر إعلامية ومنصات إما تركية أو قطرية موالية للإخوان في تونس وداعمة لسياساتهم، ربما بغاية المزايدة السياسية على رئيس الجمهورية وإحراجه أمام ناخبيه، هو الذي صرح خلال حملته الانتخابية بأن التطبيع “خيانة عظمى”.
بالونات اختبار
في تصريح لرصيف22، يؤكد الصحافي التونسي محمد اليوسفي، أنه لا يعتقد بصحة أخبار التطبيع المنتشرة مؤخراً، ويقول: “عملياً لا أعتقد أن هناك أي اتصالات رسمية بين الدولة التونسية والكيان الصهيوني في علاقة بإمكانية التطبيع، نظراً إلى اعتبارات عدة أولها طبيعة مواقف الرئيس قيس سعيّد من هذه المسألة بالذات، وهي في تقديري مسألة محسومة بالنظر إلى شخصية الرجل، ثانياً على اعتبار المزاج العام الشعبي في تونس الرافض بشكل قطعي وكلّي لخيارات وممارسات كهذه”.
ويؤكد اليوسفي “أن العملية تتعلق بنوع من بالونات الاختبار الإعلامية، ونوع من الفرقعات التي يراد منها جسّ النبض، والتي يراد منها أيضاً التأثير اليوم في العملية السياسية في تونس ومحاولة إرباك الأوضاع”.
وتُعد القضية الفلسطينية في الشارع التونسي مسألةً محسومةً بوصفها أم القضايا، تعبّر عن هذا الموقف عشرات التظاهرات التي تقام من حين إلى آخر داعمةً للشعب الفلسطيني ومناديةً بحقه في دولة مستقلة عاصمتها القدس، وهي تظاهرات تدعو لها في كثير من الأحيان أكبر المنظمات الوطنية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي طالب مراراً في بياناته بضرورة تجريم التطبيع على الصعيد الرسمي. هذا بالإضافة إلى جمعيات عديدة تتبنى القضية الفلسطينية وتدافع عنها وتحيي ذكرى تورايخها المعروفة، كيوم الأرض وغيره.
لذلك يرى اليوسفي أنه “لا يمكن وجود تطبيع من هذا الجانب أو من ذاك، سواء كان اقتصادياً أو ثقافياً، لكن أن يكون هناك تطبيع رسمي مع الكيان الصهيوني في تونس نتيجة خيار واضح من الدولة التونسية، فهذا أمر مستبعد جداً، لأن من يفكر في يوم من الأيام في هذه المسألة أعتقد أنه يقوم بعملية انتحارية أكثر منها عملية سياسية أو عملية دبلوماسية، وتالياً صعب جداً أن تمتطي تونس في يوم ما قطار التطبيع، طالما لم يُحسم الحق الفلسطيني ولم يستردّ الشعب الفلسطيني حقه”.
سؤال التوقيت
في كل عام يشتعل جدل مسألة التطبيع مع موسم الحج إلى معبد “الغريبة” اليهودي في مدينة جربة التونسية التي يتوافد إليها اليهود في كل موسم من كل بلدان العالم لأداء مناسك الحج، وتالياً فمسألة توقيت نشر الخبر مهمة أيضاً، إذ يقول اليوسفي: “أعتقد أيضاً أن توقيت نشر هذا الخبر الزائف، الذي هو أقرب إلى بالون اختبار منه إلى حقيقة أو وقائع ثابتة، يتزامن أيضاً مع بعض المسائل التي أثارت التباسات في تونس، المسألة الأولى متعلقة بالصورة التي أثارت جدلاً بين رئيسة الحكومة وأحد عرّابي التطبيع في المنطقة، أقصد حسن الشلغومي لما زار تونس في حج الغريبة، المناسبة السنوية، وأيضاً في علاقة بمشاركة وزير الدفاع التونسي في مؤتمر دولي تحت لواء حلف شمال الأطلسي، وكان قد حضر هذا اللقاء وزير دفاع الكيان الصهيوني”.
منذ قرارات سعيّد، في 25 تموز/ يوليو 2021، بتجميد عمل البرلمان وحل الحكومة، دخلت تونس في مسار انتقالي قلق أفقد حركة النهضة وحلفاءها السلطة، واشتعل الجدل السياسي بشأن المسار الانتقالي الذي لم يبدِ فيه الرئيس آذاناً صاغيةً لدعوات الحوار التي ارتفعت من هنا وهناك مطالبةً بمسار تشاركي، لكنها قوبلت بالصمت، ودخلت البلاد في مرحلة تشنج سياسي وجو اجتماعي مشحون فيه الكثير من العداء بين السلطة والمعارضة وما زال مستمراً حتى اللحظة.
لا شك في أن خبراً زائفاً كهذا ليس بعيداً عن هذا السياق، خصوصاً أن مصادره العربية التي روّجت له معروفة بولائها المطلق لحركة النهضة التونسية ودعمها لها منذ عقود. ولا يمكن استبعاد معطى المزايدة السياسية على الرئيس من قبل خصومه ومحاولة تعميق الهوة بينه وبين داعميه في الساحة السياسية وإفقاده “المشروعية الشعبية” التي يتحدث عنها دوماً أو على الأقل محاولة الحد منها.
يوضح اليوسفي لرصيف22: “يبدو أنه كانت هناك محاولة اليوم لتعفين الوضع وتجييشه ولتأليب الرأي العام ضد الرئيس قيس سعيّد نتيجة الأزمة السياسية القائمة في تونس، بالرغم من أن الجميع يعلمون أن الرئيس سعيّد من المؤكد أنه من شبه المستحيل أن يمضي قدماً في خيارات كهذه، في علاقة بمسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني”.
ولا بد من تنزيل الخبر الزائف في السياق الاقتصادي الذي تمر به تونس حالياً، وما تعانيه من ضائقة مالية صعبة تخوض خلالها “ماراثون” من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. في هذا السياق نفسه، يضيف اليوسفي أن “هناك دوائر دوليةً تريد التأثير في تونس واستغلال الأزمة الاقتصادية والمالية لمحاولة دفعها نحو اختيارات كهذه، يعني قياساً إلى مقولة “النفط مقابل الغذاء”، أقصد التطبيع مقابل الدعم المالي، ولكن أعتقد أن تونس لن تقبل بهذا المنطق. المسألة مبدئية تتعلق بأسمى القضايا وهي القضية الفلسطينية”.
انفلاتات التطبيع غير الرسمي
في 20 آذار/ مارس 2021، نشر موقع “الكتيبة”، وهو موقع استقصائي إلكتروني تونسي تحقيقاً استقصائياً أعدّه رئيس القسم العربي، الصحافي محمد اليوسفي، كشف فيه بالوثائق المرئية والمسموعة وجود علاقات اقتصادية بين إسرائيل وعدد من الشركات التونسية على رأسها شركة “رندة” للصناعات الغذائية، وهي عملية معقّدة تمكّن موقع “الكتيبة” من فك شيفرتها، وكشف أن تصدير الكسكس التونسي إلى إسرائيل يتم عبر شركة “سوديك”، وفي ملك أصحاب مصنع “رندة” نفسه الذي ينشط في فرنسا بحكم القوانين الفرنسية والعلاقات الدبلوماسية القائمة بين فرنسا وإسرائيل. تسمح شركة سوديك لمجموعة الحشيشة ومن خلالها شركة رندة، بتوريد الحبوب التي يستخرج منها منتوج الكسكسي إلى تونس قبل أن يعاد تصديرها إلى العديد من الوجهات التجارية من بينها إسرائيل، حيث يتم تعليب منتوج الكسكسي الذي يُصنع في تونس بحسب فحوى الاتفاق اعتماداً على العديد من التسميات التسويقية، من بينها تسمية قرطاج”، حسب ما ذكره التحقيق.
وقد أثار حينها زوبعةً في الشارع التونسي وجدلاً دفع بعض النواب إلى مناقشته في مجلس النواب وتوجيه أسئلة شفاهية إلى وزير التجارة حينها الذي تعهد بفتح تحقيق في المسألة، غير أن اليوسفي الذي أعد التحقيق يؤكد أن نتائجه لم تنشر إلى اليوم.
يقول: “في علاقة بالتحقيق الذي سبق أن نُشر في موقع الكتيبة، كانت آنذاك هناك مساءلة برلمانية لوزير التجارة في علاقة بهذا الموضوع، وأعلن وزير التجارة عن فتح تحقيق لم تُنشر نتائجه إلى حد الآن. لكن النائب نعمان العش، قدّم السؤال الشفاهي الموجه إلى ذاك الوزير آنذاك، حسب اتصالات تمت بينهما، وأكد الوزير أن نتائج التحقيق أثبتت أن شركة ‘رندة’ فعلاً لها علاقات تجارية واقتصادية بشركات صهيونية”.
ليست شركة رندة سوى مثال عن الانفلاتات غير الرسمية المهرولة نحو “التطبيع”، فكثيراً ما أثيرت شبهات تطبيع ثقافي مع إسرائيل منها مثلاً ما تعلق بفنانين تونسيين أقاموا حفلات غنائيةً في إسرائيل والنماذج كثيرة للتطبيع الثقافي. وبين الموقف الرسمي الحازم الواضح والمواقف غير الرسمية التي تقابَل بالصمت يظل سؤال التطبيع في تونس مطروحاً بشدة، ويسمح لأخبار وشائعات زائفة بأن تطفو فوق السطح في كل مرة، كما يسمح أيضاً باستغلال القضية الفلسطينية للمزايدة السياسية على الخصوم والمتاجرة بقضية التطبيع.
وكالات