العلاقات بين تونس والمغرب شبه مجمدة الآن، وما يخشاه كثيرون هو أن يقطع التونسيون شعرة معاوية مع الرباط، إن هم أقدموا على الاعتراف بالبوليساريو. لكن ألم يعد ذلك ولو نظريا على الأقل من تحصيل الحاصل؟ ألم يعترفوا بها ولو بشكل ضمني مثلما قد يقول المغاربة الآن بمزيج من الغضب والمرارة؟
لقد استقبلت تونس قبل، أكثر من شهر زعيم الجبهة، التي ما زالت الرباط تنعتها بالانفصالية، في عمل وصفته خارجيتها في ذلك الوقت، وفي بيان أول بأنه «فعل خطير غير مسبوق يؤذي كثيرا مشاعر الشعب المغربي وقواه الحية» قبل أن تقول عنه وفي بيان ثان بأنه «تصرف ينطوي على عمل عدائي صارخ وغير مبرر». لكن ذلك لم يكن على ما يبدو سوى مقدمة كان لها ما بعدها، فقد غض التونسيون الطرف أسابيع قليلة في أعقاب ذلك، كما رأت بعض وسائل الإعلام المغربية عن اندساس بعض العناصر التابعة للبوليساريو أواخر الشهر الماضي في وفد من إحدى المنظمات الإسبانية، التي شاركت في مؤتمر عالمي للمناخ أقيم في إحدى المدن التونسية الشاطئية، لتحاول تنظيم ورشة على هامش أشغاله تحت عنوان «تغير المناخ تحت الاحتلال ـ الغسل الأخضرـ». وكان ذلك في نظرهم دليلا آخر على استفزاز إضافي للمغرب و»تطاولا على السيادة الوطنية والوحدة الترابية للمملكة»، مثلما أشار إلى ذلك بيان الوفد المغربي المشارك في المؤتمر، الذي أعلن على أثره مقاطعته له والانسحاب منه. غير أن ثالثة الأثافي كانت استقبال أمين عام أحد الاحزاب التونسية الصغيرة وغير المعروفة نسبيا، السبت الماضي لسيدة قدمت على أنها مستشارة زعيم البوليساريو، وحسبما نقلته ما تعرف بوكالة الأنباء الصحراوية، فقد أكد المسؤول الحزبي لضيفته على دعم «حزبه للشعب الصحراوي وقضيته العادلة، وحقه المشروع في الحرية وتقرير المصير». وربما لم يحلم قادة التنظيم المسلح، وعلى مدى أكثر من أربعين عاما من وجوده بأكثر من ذلك. فلم يتصور أحد منهم أنه سيأتي اليوم الذي يصل فيه زعيم تنظيمهم إلى عاصمة مغاربية رابعة بعد الجزائر ونواكشوط وطرابلس، فيفرش له السجاد الأحمر في مطارها، وتقام له مراسم استقبال رسمية يحضرها الرئيس بنفسه، حتى لو أن كل ذلك تم في إطار دعوة من الاتحاد الافريقي، لا من البلد المستضيف لإحدى القمم، مثلما يصر التونسيون على تأكيده والتذكير به. ومن الواضح جدا هنا، أن البوليساريو أحرزت، على الأقل، نصف انتصار دبلوماسي، لكن ما الذي جنته تونس في النهاية؟ هل أنها حصلت على أي كسب دبلوماسي، أو سياسي، أو حتى اقتصادي ومالي معتبر، قد يغطي أو يعوض ولو جزئيا ما خسرته من وراء تلك الزيارة؟ لا شك في أن حديث البعض عن أرقام أو صفقات خيالية قد تكون عقدت، وفي علاقة بذلك الموضوع مع الجزائر، أي مع الراعي الرسمي والوحيد للجبهة، يظل إلى الآن غامضا وملتبسا، وبحاجة لكثير من التوضيحات، بل لعله يبدو أحيانا جزافيا ومبالغا بعض الشيء، لكن المؤكد بالمقابل هو أن وصول إبراهيم غالي إلى تونس في السادس والعشرين من آب/ أغسطس الماضي ضمن المشاركين في قمة تيكاد الافريقية اليابانية، لم يفتح «الآفاق الواعدة أمام تعزيز علاقات الأخوة والصداقة والتعاون بين الشعبين الشقيقين في تونس والصحراء»، مثلما جاء في رسالة زعيم البوليساريو إلى قيس سعيد ساعات بعد مغادرته العاصمة التونسية، بل أوصد الأبواب وقضى فعليا على آخر أمل في أن يلتقط الاتحاد المغاربي أنفاسه ويستيقظ من غفوته الطويلة، وتُفتح بالتالي أمام تونس آفاق رحبة وحقيقية لانتشال اقتصادها مما تردى فيه من صعوبات.
إن فقدان ذلك الأمل يمثل وبالنسبة لها وعلى المديين القريب والمتوسط خسارة استراتيجية فادحة، قد لا تعوضها أي مكاسب آنية أو ظرفية أخرى. ومع أن التونسيين كانوا وما زالوا يأملون في توثيق علاقاتهم مع الجزائر، إلا أنهم لم يكونوا مستعدين أبدا لأن يتم ذلك على حساب علاقتهم ببلد آخر، قد يكون أقرب لهم من نواح كثيرة وهو المغرب. لكن الآن وقد حصل ما حصل بين البلدين، فإن السؤال الأهم هو، هل أن الامور تتجه نحو مزيد من التصعيد، بما قد يصل مثلا حد قطع العلاقات الدبلوماسية؟ أم أنهما لم يصلا بعد، ورغم كل شيء، إلى خط اللارجعة ولم يغلقا الباب تماما أمام مصالحة بينهما؟ إن الامر يرتبط وبدرجة كبيرة بالمدى الذي ستأخذه علاقة تونس بالبوليساريو، فمن الواضح أنه لن يكون بإمكان المغاربة أن يفتحوا صفحة جديدة في علاقتهم بالتونسيين ما لم يحدد هؤلاء وبشكل مباشر موقفهم من النزاع الصحراوي. لقد قال العاهل المغربي وقبل أسبوع واحد من تفجر الأزمة مع تونس، إن «ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم وهو المعيار الواضح والبسيط الذي نقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات»، ما يعني أن عودة المياه إلى مجاريها بين العاصمتين التونسية والمغربية سترتبط وبشكل وثيق باقتراب تونس أو ابتعادها عن البوليساريو. ولعل كثيرين قد يتساءلون الآن عما يخفيه الصمت الرسمي التونسي. فهل ستعلن الخارجية التونسية وفي خطوة دراماتيكية ومفاجئة، عن إقامة علاقات رسمية مع البوليساريو؟ من الواضح أنه من هنا إلى الأول من الشهر المقبل، على الأقل «أي إلى الموعد المفترض للقمة العربية المزمع عقدها في الجزائر، سيكون الإقدام على خطوة مثل تلك نوعا من الانتحار السياسي وعملا قد يؤدي وبشكل مباشر إلى نسف القمة. لذا فإنه سيكون من المستبعد جدا أن تقدم تونس على أخذ ذلك القرار. لكن هل سيعني ذلك أنه سيكون أمامها مجال لتجد مخرجا لأزمتها مع المغرب في قمة الجزائر؟ سيرتبط الأمر هنا بعاملين اثنين وهما، استعداد الجزائر لأي مسعى للمصالحة مع جارتها الغربية، وتصفية الأجواء معها في إطار تلك القمة، إذ أنه وفي صورة وجود تلك الرغبة الجزائرية، فإنه لن يعود هناك من معنى أبدا للأزمة بين تونس والمغرب، وسيجد التونسيون في تلك الحالة أنه من الافضل لهم أن يتوصلوا إلى صيغة قد تعيد علاقتهم بالرباط إلى ما كانت عليه على الأقل، قبل السادس والعشرين من أغسطس الماضي. أما العامل الثاني فهو قدرة تونس على أن تتحمل التكاليف العالية لقطيعة محتملة مع المغرب، قد تتعداه لتشمل أيضا باقي شركائه وحلفائه الخليجيين بوجه خاص، لكن حتى إن لم يتوفر لا العنصر الأول ولا الثاني فإنه سيكون من غير المتوقع أيضا أن تصل تونس إلى مرحلة الاعتراف الرسمي بتنظيم مسلح، بدأ يفقد يوما بعد آخر من كانوا وإلى وقت قريب يعدون أصدقاء تقليديين له في افريقيا وأمريكا اللاتينية. إن أقصى ما ستفعله هو أنها ستحاول التلويح للمغرب وبين الحين والآخر بورقة البوليساريو. أما إلى أين ستنتهي بها تلك اللعبة؟ وما الغاية اصلا منها؟ فربما لن يقدر حتى الدبلوماسيون التونسيون على الجواب.
كاتب وصحافي من تونس
القدس العربي