في ظل الاعتقالات المستمرة للسياسيين والناشطين والنقابيين والصحافيين في تونس، تتورط تونس في عزلة دولية يوماً بعد آخر، لترتفع مع ذلك الانتقادات للسلطة بقيادة الرئيس قيس سعيّد، ما يثير مخاوف من اتجاه البلاد إلى العزلة.
وما يفاقم ذلك المشاكل المتلاحقة والأخطاء الدبلوماسية، فلتونس مشاكل جنوباً مع أفريقيا، وغرباً مع المغرب، وشمالاً مع الاتحاد الأوروبي، وخلافات مع الصناديق المانحة ومع الولايات المتحدة وغيرها من الملفات الكبيرة.
ومساء الأول من أمس الجمعة، اعتبرت أربع مجموعات حقوقية، في بيان مشترك، أن على وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في اجتماعهم المقبل في 20 مارس/آذار الحالي، الضغط علناً على السلطات التونسية للتراجع عن قمعها المنتقدين. والمنظمات هي الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان، ولجنة الحقوقيين الدولية (منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، ومنظمة العفو الدولية، و”هيومن رايتس ووتش”.
وأضافت في بيانها: “تنبغي على وزراء الخارجية مراجعة تعاونهم مع تونس بشكل حاسم، لتجنب المساهمة في التقويض المستمر لحقوق الإنسان واستقلال القضاء التي جاهد التونسيون لنيلها منذ ثورة 2011”.
انتهاكات الحقوق والحريات في تونس
وكانت لائحة معروضة على البرلمان الأوروبي حصلت، الخميس الماضي، على موافقة 496 صوتاً من أصل 537، في خطوة تكشف مخاوف الاتحاد الأوروبي بشأن انتهاكات الحقوق والحريات التي انعكست في الاعتقالات الأخيرة في تونس.
ودعت اللائحة إلى الإفراج عن جميع المعتقلين في إطار الحملة التي استهدفت المعارضة، واحترام حرية التعبير، والإفراج الفوري عن مدير إذاعة “موزاييك” نور الدين بوطار وجميع المعتقلين تعسفياً، بمن فيهم الصحافيون والقضاة والمحامون والنشطاء السياسيون والنقابيون، واحترام حرية التعبير وتكوين الجمعيات وحقوق العمال، بما يتماشى مع الدستور التونسي والمعاهدات الدولية.
وأعرب البرلمان الأوروبي عن قلق عميق إزاء “الانجراف الاستبدادي” للرئيس قيس سعيّد واستغلاله الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي في تونس لعكس مسار التحول الديمقراطي التاريخي في البلاد، داعياً إلى إنهاء الحملة المستمرة على المجتمع المدني.
وفي أول ردوده على هذه التطورات، دعا سعيّد إلى “ضرورة تطبيق القانون على الجميع، والتمسك بالسيادة الوطنية، خصوصاً في ظلّ محاولات التدخل من بعض الجهات من الخارج التي إما أنها لا تعرف الحقيقة، وإما، وهو الأغلب، تتجاهلها”.
وفي لقائه رئيسة الحكومة نجلاء بودن، مساء الأول من أمس الجمعة، تساءل سعيّد: “هل إن تزوير الأختام يدخل في العمل النقابي، وهل إن تبييض الأموال يندرج في إطار حرية الإعلام، وهل تم إغلاق مؤسسة إعلامية واحدة أو تم منع صحيفة واحدة من الصدور؟”. وأشار سعيّد، بحسب بيان للرئاسة، إلى أن “البعض ما زال يهزّه الحنين إلى الوصاية والاستعمار وهو مخطئ في التاريخ وفي الأشخاص”.
وفي سياق متصل، ستزور مساعدة وزير الخارجية الأميركي، باربرا ليف، عددا من الدول العربية، ومنها تونس. وذكر بيان للخارجية الأميركية أن ليف ستزور تونس بين 20 و23 مارس الحالي، و”تعيد التأكيد على الدعم الأميركي للشعب التونسي وتطلعاته إلى حكم ديمقراطي وخاضع للمساءلة”.
كما “ستجري مشاورات بشأن الإصلاحات الاقتصادية الحاسمة، وتشدد على دعم الولايات المتحدة لعمل دبلوماسيينا في العواصم التي يتمركزون فيها”.
تونس تعزل نفسها
وأكد الدبلوماسي السابق عبد الله العبيدي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الخريطة الجيوسياسية الجديدة في العالم بصدد التشكل، وكل الدول لديها شبكات تواصل وعلاقات، ولكن تونس للأسف بعيدة عن هذا التصور الآن، ووضعت نفسها في عالم منغلق ومنفصل، مليء بالشعارات والكلام غير ذي جدوى”.
وبيّن أن “تونس تعزل نفسها عن كل المكونات السياسية ومراكز السياسة والنفوذ في العالم، فالعلاقة متدهورة بعدة جهات وبالصناديق المانحة، والأخطاء تتكرر وتتلاحق في كثير من الملفات”. وأضاف: “نحن بصدد عزل أنفسنا في عقر دارنا”.
ولفت العبيدي إلى أن “هناك في العالم كثيرين يريدون التواصل ودعم تونس، لكنهم لم يجدوا مخاطباً أو طرفاً يتواصلون معه”. وأشار إلى أن “البرلمان الأوروبي اليوم في حيرة، وهذا الموقف متناسق مع زيارات وفود كثيرة أخرى، من بينها من قدم من الولايات المتحدة مراراً لمحاولة فهم ما يحدث في تونس، ممثلو الخارجية والدفاع الأميركي والأمن القومي والكونغرس وغيرهم، وهو ما يعكس حيرة وعدم فهم ما يحدث في تونس”.
واعتبر “أن تونس في عزلة دولية وهي ليست بصدد التواصل والكلام، فالمستوى الرسمي في تونس غير مفهوم على مستوى العالم”. وعن تداعيات ذلك اقتصادياً، أفاد بأن “تونس أصلاً في عمق الوضع الاقتصادي المتأزم”، مشيراً إلى “انعكاسات ذلك السلبية على تونس”، قائلاً “لم يعد هناك دولة في تونس”.
من جهته، قال المحلل السياسي قاسم الغربي، لـ”العربي الجديد”، إن “قرارات البرلمان الأوروبي، وإن كانت غير ملزمة، إلا أنها مهمة، لأن البرلمان الأوروبي يؤثر على حكومات الأعضاء بشكل منفرد في كل دولة على حدة، وفي البيان، جرت الإشارة إلى أنهم سيصدرون قرارات، وهذا ملفت للانتباه.
وأضاف: “بالعودة إلى تصريح رئيسة الحكومة الإيطالية (جورجيا ميلوني، التي ذكرت في خطاب أمام البرلمان الإيطالي، الأربعاء الماضي، أن تونس تواجه أزمة عميقة مع عواقب يمكن أن تكون مقلقة للغاية ليس فقط لإيطاليا)، فإن تونس قادمة على فوضى، ما يشكل قلقاً متزايداً لإيطاليا، ومن هنا نفهم أن هناك قلقاً أوروبياً”.
وأوضح الغربي أن “قلق إيطاليا يتركز أساساً حول مسألة الهجرة، أما بقية دول الإتحاد الأوروبي فكل ينظر للمسألة في علاقة بمصالحه وهذا طبيعي، إضافة إلى ذلك، فإن جزءاً من المعارضة التونسية له ارتباطات مهمة مع الأوروبيين، خصوصاً ما يمكن تسميته بوسط اليسار في تونس، وبالتالي، نفهم أن الأوروبيين لا يقبلون أن يُزج بالأشخاص الذين تربطهم بهم علاقات تاريخية في السجون بتهمة العمالة للأجنبي، وهي مسألة حساسة جداً، خصوصاً أنه حُشرت سفارات أوروبية في التحقيقات”.
العزلة الدولية والأفريقية
ولفت الغربي إلى أن “الوضع يتجه إلى تزايد عزلة الدولة التونسية، عزلة دولية وأفريقية وإقليمية، كما أن المفاوضات مع البنك الدولي عُلّقت إلى أجل غير مسمى، وفي روزنامة اجتماعات صندوق النقد الدولي، تونس غير مذكورة تماماً حتى الخريف المقبل، أي تقريباً إلى حدود شهر سبتمبر/أيلول المقبل، بمعنى أن العزلة ليست سياسية فقط بل أكبر وستتبعها عزلة اقتصادية”.
وتابع الغربي: “حتى في فترة (الرئيس الراحل زين العابدين) بن علي، كانت هناك قرارات من هذا النوع بخصوص وضع الحريات، ولكن كانت لدى النظام ميزة وهي أن هناك استقراراً على المستوى الداخلي وعلى المستوى الاقتصادي أيضاً، إذ نجح في توفير الاستقرار الاجتماعي، وبالتالي، كان قادراً على العمل، وكانت هناك مقومات للتغاضي عن الجانب السياسي، لكن الوضع الآن مختلف، فليس هناك أي سلاح للصمود أمام الضغوط”.
ولفت الغربي إلى أن “الحاضنة الشعبية والاستفتاء والانتخابات فشلت، حتى داخل مشروع سعيّد نفسه هناك فشل، وهو ما تبيّن في الجلسة الافتتاحية لمجلس النواب، فسياسياً، المجموعة المساندة لقرارات 25 يوليو انقسمت، واستفادت المنظومة القديمة”.
ورأى أنه “لا بد من حوار وطني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”، مشيراً إلى أنه لا يتوقع هذا “إذ سيواصل سعيّد الهروب إلى الأمام، وبالتالي نحن مقبلون على سيناريوهات سيئة”.
وفي الجهة المقابلة، أكدت كتلة “لينتصر الشعب” الداعمة سعيّد، في بيان لها الجمعة، أن تكريس السيادة الوطنية والشعبية عبر استقلالية القرار الوطني أولوية في المرحلة المقبلة، معتبرة أنها “أساس إقامة الديمقراطية السليمة وتغيير منوال التنمية الاقتصادي خدمة لصالح عموم أبناء الشعب”.
واعتبرت الكتلة بيان البرلمان الأوروبي “تدخلاً في الشؤون الداخلية للبلاد، وتضمّن مغالطات”. ودعت البرلمان إلى عقد جلسة طارئة للرد “دفاعاً عن سيادة تونس وحرية قرارها”، معتبرة أن ”معركة السيادة هي جوهر معارك التحرر الوطني، وجوهر النضال الديمقراطي والاجتماعي”.
العربي الجديد