يتجسد الماضي البطولي في تاريخ الجزائر مع الاحتلال الفرنسي (1830-1962)، اليوم في حركة سينمائية محلية بنكهة ثورية، إذ تشهد البلاد تصوير 3 أفلام دفعة واحدة، عن تلك الحقبة المجبولة بالدم، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ السينما الجزائرية، تزامنا مع الذكرى الـ60 لاستقلال “بلد المليون شهيد”.
وتروي الأعمال السينمائية قيد الإنجاز، سيرة 3 مناضلين وطنيين استشهدوا خلال ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962) ضد المحتل الفرنسي، بتمويل مشترك بين وزارتي المجاهدين (المحاربين القدماء) والثقافة.
الأفلام الثلاثة تعيد إلى الأذهان بدايات العصر الذهبي للسينما الجزائرية، من بوابة الأعمال الثورية التي حققت نجاحا عالميا في سبعينيات القرن الـ20، ودخلت أروقة مهرجانات سينمائية دولية، وأشهرها “وقائع سنين الجمر” الذي نال السعفة الذهبية عام 1975 بمهرجان كان السينمائي لمخرجه محمد الأخضر حامينا، وكان الفيلم العربي الوحيد الذي فاز بهذه الجائزة. وكذلك فيلم “زاد” للمخرج الفرنسي، اليوناني الأصل، كوستا غافراس، وكان الفيلم الجزائري والعربي الوحيد الذي فاز بجائزة الأوسكار عام 1970.
أفلام ثورية جزائرية أخرى تعدت شهرتها حدود الجزائر، من بينها “معركة الجزائر” و”ريح الأوراس” (1966)، و”الأفيون والعصا” (1969)، و”دورية نحو الشرق” (1971)، وهي أعمال سينمائية وثّقت وحاكت بطولات الشعب الجزائري وتضحياته ومعاناته مع الاحتلال الفرنسي، اعتمادا على حقائق تاريخية ومؤثرات بصرية حقيقية من أراضي المعارك التي حدثت بين ثوار الجزائر والجنود المحتلين، وأرَّخت فنيا بعض الجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق الشعب الأعزل.
3 أفلام ثورية
أول الأفلام السينمائية الثورية الجديدة بدأ تصويره في محافظة قسنطينة (شرقي الجزائر) في أغسطس/آب 2022 عن الشهيد زيغود يوسف (1921–1956)، والذي أُطلق اسمه على مقر المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الثانية للبرلمان الجزائري)، وهو قائد المنطقة العسكرية الثانية خلال الثورة الجزائرية ومن أبرز قادتها.
وأسندت وزارة المجاهدين وذوي الحقوق الجزائرية الفيلم إلى المخرج الشاب مؤنس خمار. ويروي الفيلم كفاح المناضل يوسف منذ التحاقه بالحركة الوطنية في خمسينيات القرن الماضي، ثم انضمامه إلى الثورة التحريرية وما تخللها من بطولات، حتى استشهاده في 23 سبتمبر/أيلول 1956.
والفيلم الثاني تدور أحداثه في محافظة المدية (وسط الجزائر)، وبدأ تصويره في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن الشهيد العقيد أحمد بوقرة (1928–1959) قائد الولاية الرابعة (منطقة عسكرية خلال الثورة التحريرية) والذي استشهد في الخامس من مايو/أيار 1959. وأُسند إخراجه لجعفر قاسم الذي أخرج فيلم “هيليوبوليس” (2020) والسلسلة الدرامية “عاشور العاشر” التي لاقت رواجا وجدلا واسعين في الجزائر (2015–2017).
أما الفيلم الثالث، فعن الشهيد أحمد بن عبد الرزاق حمودة (1923–1959)، المعروف باسم سي الحواس، للمخرجة ياسمين شويخ، والذي يتم تصويره في منطقة مشونش في محافظة بسكرة الصحراوية. واختير للفيلم اسم “حامي الصحراء”، وهو يرصد حياة الشهيد وبطولاته التي خاضها ضد الاحتلال الفرنسي، وهي المعارك التي صعّبت من تقدم جيش الاحتلال إلى بقية المناطق الصحراوية الجزائرية، حتى آخر معركة خاضها في “جبل ثامر” بمنطقة بوسعادة حيث استشهد في 29 مارس/آذار 1959.
أهداف إستراتيجية
وكانت وزارة المجاهدين أعلنت في أكتوبر/تشرين الأول 2020، إطلاق مسابقة وطنية لإنجاز وتمويل 3 أعمال سينمائية عن شهداء في ثورة التحرير الجزائرية، تتحدث سيناريوهاتها عن الثورة ومسارات أبطالها.
وفي العام ذاته، أعطى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تعليمات لوزارتي المجاهدين والثقافة لـ”إيلاء الأهمية البالغة لتوثيق تاريخ الجزائر وكل ما يتعلق بالذاكرة الوطنية، وترسيخه عن طريق كل الوسائل المتاحة، لا سيما الإنتاج السمعي البصري والتلفزيوني والإذاعي”.
واستنادا إلى تصريحات مسؤولي الوزارات الممولة لهذه المشاريع السينمائية الثورية، فقد تحددت 4 أهداف من إعادة بعث “السينما الثورية”، وتتمثل في:
إعادة معايشة الملاحم الكثيرة التي شهدتها الثورة التحريرية.
تمسك الجزائر بذكرى شهدائها وتعزيز كل ما يخص تاريخها بصريا.
تكريم ذاكرة شهداء الجزائر وتناول الحوادث المهمة عبر الصورة.
تبليغ رسالة نوفمبر/تشرين الثاني (الشهر الذي اندلعت فيه الثورة الجزائرية عام 1954) للأجيال الجديدة.
غير أن مخرجين ونقاد سينمائيين تحدثوا إلى “الجزيرة نت” عن أهداف أخرى من إنتاج 3 أفلام ثورية دفعة واحدة، وحدّدوها في النقاط التالية:
تسويق بطولات الثورة الجزائرية عالميا عبر الأعمال السينمائية.
فضح جرائم الاحتلال الفرنسي عالميا بمحاكاتها بصريا.
إعادة الاعتبار إلى الأعمال السينمائية التاريخية المرتبطة بالثورة الجزائرية.
وأعادت الأعمال السينمائية الأخيرة طرح النقاش في الأوساط الفنية في البلاد عن مدى قدرتها على استعادة مجد السينما الجزائرية من خلال الأفلام الثورية، وإن كانت قادرة على رفع سقف التوقعات بأن تخترق المهرجانات العالمية، وأن تتسابق على كبرى الجوائز السينمائية، أم أنها ستبقى رهينة السينما المحلية. وهل هي مؤشر على بداية “ثورة سينمائية” في الجزائر من بوابة ثورة التحرير الوطنية؟
المجد السينمائي
المخرجة ياسمين شويخ دحضت أطروحة “توقف مجد السينما الجزائرية عند فترة سبعينيات القرن الماضي”، وقالت لـ “الجزيرة نت” إنه لا يوجد مخرج ليس لديه طموح بنجاح أعماله، محليا ودوليا، مشيرة إلى أن هذه الصناعة تشهد سنويا إنتاج أفلام مهمة تشارك في مهرجانات دولية، وتحصد جوائز كبيرة.
ولا تتفق شويخ مع الآراء التي ترى أن إنتاج هذه الأعمال الثورية دفعة واحدة مؤشر على “بداية ثورة سينمائية في الجزائر”، معتبرة أن “صناعة أفلام ثورية لا يعني ثورة سينمائية، فالسينمائيون الجزائريون في ثورة دائمة منذ عقود لإثبات قدراتهم. نحن نصنع أفلاما سينمائية ثورية واجتماعية، والمهم أن تكون صورة الجزائر على الشاشة الكبيرة. أما الثورة السينمائية في البلاد، فلن تحدث إلا إذا كان هناك اهتمام كامل بالسينما”.
وتؤكد أن “الأفلام الثلاثة -التي يتم تصويرها حاليا- هي عن شهداء حاربوا من أجل تحرير الوطن، وشرف كبير لنا أن نخرج أعمالا سينمائية عن هذه الشخصيات التاريخية”.
وعن سر منح إخراج هذه الأعمال السينمائية الثورية لمخرجين وصلت أعمالهم إلى مهرجانات عالمية، تقول شويخ إن عوامل نجاح الفيلم ليست مرتبطة بالمخرج فقط، بل بالفنانين الكبار وطبيعة الشخصيات الثورية وتاريخ شعب الجزائر.
نحو نهضة سينمائية
وعن دلالات إنتاج هذه الأعمال الثورية، يقول عادل مخالفية، مدير “المركز الجزائري للسينما”، إن ثمة إستراتيجية لدى القيادة السياسية الجزائرية الحالية تهدف إلى النهوض بالصناعة السينمائية في البلاد وتحقيق وثبة مهمة على هذا الصعيد، لافتا إلى أن تاريخ الجزائر “بحاجة ماسة إلى تنوير الرأي العام”.
ويرى مخالفية، في حديثه إلى “الجزيرة نت”، أن “هذه الأعمال تُنتج بنظرة حديثة تنسجم مع سياسة الجزائر الجديدة والتوجه الرسمي نحو مواكبة السينما العالمية. والسلطات تحاول، من خلال هذه الأفلام، التسويق عالميا للثورة الجزائرية وأبطالها الذين ساهموا في تحرير الوطن”، مشيرا إلى وجود توجه رسمي موازٍ نحو التكوين (التدريب) وإنشاء معهد للسينما، وإعطاء فرصة للشباب لمواكبة التطورات الحاصلة في المجال السينمائي العالمي.
معضلة الجماليات الفنية
ويرى المخرج وكاتب السيناريو جمال محمدي أن “نقطة ضعف” بعض الأعمال السينمائية الثورية تكمن في “غياب الجماليات الفنية”، مضيفا في حديثة إلى “الجزيرة نت” “ما يعاب على هذه الأفلام تصويرها وكأنها وثائقيات أو نماذج مسطحة تخلو من الجماليات الفنية والتعابير الشعرية الواجب توظيفها في مثل هذه الأعمال بهدف تسويقها عالميا. ويجب التفريق، هنا، بين ما هو تاريخي لا يجوز تجاوزه، وبين الترويج للخطاب الذي يتضمنه هذا العمل أو ذاك، وهذا ما ينقص الأفلام الثورية على الرغم من قلتها”.
المصدر : الجزيرة