في الأسبوع الماضي انفردت الأسبوعية الفرنسية “لوبوان” التي تصنَّف في جهة اليمين الوسط بنشر حديث حصري مكثَف أجرته مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، تمّ التركيز فيه بلغة المصالحة الهادئة على قضايا جزائرية ومغاربية ودولية، وفي صدارتها مشكلات العلاقات الجزائرية – الفرنسية وآفاقها.
في هذا الحوار كرّر الرئيس عبد المجيد تبون مطالب الجزائر من فرنسا، وبخاصة مطلب الاعتراف بكل جرائمها أثناء حقبة احتلالها الجزائر، ويلاحظ الراصد أن الرئيس الجزائري تجنّب في هذا الحوار لهجة التشدد المعتادة في الخطاب السياسي الجزائري تجاه الماضي الاستعماري الفرنسي، فأعفى فرنسا نسبياً من أثقال التعويضات المالية المفترض أن تدفعها بعد الاعتراف بجرائمها.
وجاء في حديث الرئيس تبون: “الاعتراف هو شكل من أشكال الاعتذار والتوبة”، مضيفاً: “لسنا شعباً متسوّلاً لنطلب تعويضات عن الجرائم”، وتوحي هذه العبارة بتنازل الجزائر عن مطلب التعويضات المالية عن جرائم فرنسا التي يفترض أن تدفعها طبقاً للعرف الدولي الذي يشجع الدول الاستعمارية على أن تدفع الأموال لضحايا حروب الاستعمار وكذلك الدول المرتكبة للجرائم في حق البشر.
ولقد عبّر عدد معتبر من الفرنسيين عن تفاؤلهم، وثمّنوا خطوة أسبوعية “لوبوان” التي رأوا أنها لعبت بمحاورتها للرئيس الجزائري دوراً إيجابياً في تذليل الصعوبات التي تعترض سبيل فتح أفق جديد لعلاقات جزائرية – فرنسية، تتجاوز التوترات الناتجة من التشدد الذي ساد مرحلة طويلة من الجفاء بين البلدين بسبب أثقال التركة الاستعمارية، وميّز أيضاً تذبذب المفاوضات الجزائرية – الفرنسية حول ملف تصفية “ذاكرة الحرب الفرنسية – الجزائرية”.
والجدير بالذكر أن منابر الإعلام الجزائري الرسمي وبعض الصحف والقنوات التلفزيونية الجزائرية التابعة للقطاع الخاص رحّبت أيضاً بلفتة أسبوعية “لوبوان”، واعتبرتها بمثابة إشارة فرنسية أولية تتضمن وعداً مضمراً يمكن أن يؤدي إلى تدشين بدايات طي صفحات الحملات الإعلامية الفرنسية التقليدية ضد الجزائر عامة، وضد ما يقرب من خمسة ملايين جزائري وجزائرية مقيمين بصفة دائمة على الأراضي الفرنسية.
ولكن هذا “العرس الرومنطيقي” لم يدم طويلاً جراء اصطدام المسؤولين الجزائريين بهجوم استباقي لافتتاحية جريدة “لوموند” الفرنسية الشهيرة يوم 5 حزيران (يونيو)، وذلك فبل الانتخابات التشريعية في الجزائر، وبهجوم فضائية “فرانس 24” يوم الأحد الماضي على سير الانتخابات التشريعية الجزائرية يوم 12 من الشهر الجاري.
وبسبب هذين الهجومين، قرّر النظام الجزائري، يوم الأحد الماضي، سحب اعتماد الفضائية الفرنسية “فرانس 24″ وإنهاء عمل طاقمها الصحافي في الجزائر فجأةً. وينبغي التذكير هنا أن هذه الحادثة الإعلامية المزلزلة سبقها حدث إعلامي آخر تسببت به افتتاحية جريدة” لوموند” التي أشرنا إليها باقتضاب آنفاً، ما يعني أن النظام الجزائري يجد الآن نفسه أمام مواقف متعددة لمنابر إعلامية فرنسية مختلفة، بعضها تابع سراً أو جهراً للقطاع لإعلام الدولة الفرنسية مثل “لوموند” وفضائية “فرانس 24″، وبعضها الآخر تابع للقطاع الخاص مثل أسبوعية “لوبوان”. وهنا نتساءل: ماذا فعلت للجزائر، أو لنقل للسلطات الجزائرية، كل من صحيفة “لوموند” وفضائية “فرانس 24″؟
إذاً، تفاجأت السلطات الجزائرية في الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية للتشريعيات الجزائرية بالنقد العنيف في افتتاحية “لوموند” تحت عنوان “الجزائر في مأزق سلطوي”، وورد فيها حرفياً: “من المقرر أن تكون الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها يوم السبت 12 حزيران (يونيو) موعداً آخر ضائعاً للديموقراطية الجزائرية”، وأكثر من ذلك وصفت هذه الافتتاحية الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بأنه مثل أسلافه الرؤساء السابقين: “واليوم يؤكد رئيس الدولة الجديد أنه، مثل كل من سبقوه، رجل الجيش، يمارس واقع السلطة، من خلال السعي بكل الوسائل إلى خنق مطالب الشفافية والانفتاح والحريات”، وتشير أيضاً إلى ما تعتبره الواقع المفروض على الحراك الشعبي حالياً بـ: “في مناخ مشحون بالخوف، نجح النظام في القضاء بالقوة، باستثناء القبائل، على التظاهرات الأسبوعية التي تحدّت سلطته. يتم تطويق الجزائر العاصمة بشدة كل يوم جمعة، وتمّ اعتقال ما لا يقل عن 2000 شخص في غضون أسبوعين خلال التظاهرتين الأخيرتين”.
أما رد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على هذه الحملة النقدية فقد جاء في شكل عتاب شخصي اعتبر فيه سلوك صحيفة “لوموند” بمثابة نكران للجميل الذي قدمته السلطات الجزائرية لهذه الصحيفة، ويعتقد المراقبون أن الرئيس الجزائري يقصد أن “لوموند” تتلقى معاملة استثنائية، وإلى جانب هذا فهناك شائعات تروّج لاستفادتها استفادة غير مباشرة من الدعم المالي الجزائري أسوة بما كانت عليه في زمان حكم الرئيس الراحل هواري بومدين، حينما كان مراسلها ورئيس مكتبها في الجزائر حينذاك بول بالطا يعتبر رسمياً الشخصية الإعلامية الفرنسية المقربة من خفايا الرئاسة الجزائرية.
أما خلاف السلطات الجزائرية مع فضائية “فرانس 24” الذي أدى إلى إلغاء اعتماد نشاطها في الجزائر، بدءاً من هذا الأسبوع، فمرده، بحسب تصريحات هذه السلطات، إلى تراكمات قديمة تميزت بتحذيرات المسؤولين الجزائريين وبالأخذ والرد بينها وبين المسؤولين في أعلى هرم الحكومة الجزائرية. ولقد اتّهم هؤلاء المسؤولون فضائية “فرانس 24” بالتحامل على الجزائر وبعدم تغطية تفاصيل الحياة الوطنية وما تنجزه الجزائر على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بموضوعية، وإنما حصرت مهمتها في مكانين محددين في العاصمة الجزائرية فقط وهما ساحة أودان، وساحة البريد المركزي حيث تمعن في رصد تحركات الحراك الشعبي وصراعات أحزاب المعارضة مع النظام الحاكم.
ويبدو أن تعليق الصحافي وأستاذ الإعلام الجزائري عبد العالي رزاقي الذي ورد في نشرة أخبار “فرانس 24” يوم الانتخابات التشريعية، ووصف فيه النظام الجزائري الحالي بعديم الشرعية وشكّك في نزاهة هذه الانتخابات البرلمانية وفي صحة نسبة المشاركين فيها، ليس إلا القشة التي قصمت ظهر البعير.
المصدر: النهار العربي