أثارت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بخصوص حل البرلمان التونسي والدعوة إلى انتخابات جديدة حفيظة الرئيس التونسي قيس سعيد، ما جعله يرد بشكل عاجل عليه بأن تونس ليست إيالة عثمانية، في حين استدعت وزارة الشؤون الخارجية التونسية السفير التركي المعتمد لديها، وسلمته مذكّرة احتجاجٍ عبرت فيها عن رفضها التدخل في الشؤون الداخلية التونسية، واتصل وزير الخارجية التونسي بنظيره التركي من أجل الموضوع نفسه.
وقد ذكر بيان وزارة الشؤون الخارجية التونسية أن “تونس بقدر التزامها بثوابت سياستها الخارجية وحرصها على بناء علاقة وثيقة مع الدول الشقيقة والصديقة، قوامها التعاون والتضامن والتشاور والثقة المتبادلة، فإنها أيضاً تتمسك باستقلال قرارها الوطني، وترفض بشدة كل محاولة للتدخل في سيادتها وخيارات شعبها أو التشكيك في مسارها الديمقراطي الذي لا رجعة فيه”.
أولاً، ينبغي التأكيد أن من حق القيادة التونسية، سواء اتفق البعض أو اختلف معها، تقديم مذكرة احتجاج على تركيا، لأن مثل هذه التصريحات غير المسؤولة التي أطلقتها الحكومة التركية يعدّ تدخلاً سافراً في شؤون دولةٍ مستقلةٍ ذات سيادة، وبالتالي إنّ رد فعلها يبقى مسألة مفروغة منها، لأنها الجهة المخولة اتخاذ ما تراه مناسباً من القرارات التي تراها تصب في مصلحة البلاد، ولأن هذا الأمر لا يخص سوى الشعب التونسي وحده، الذي يملك حق اتخاذ المتعين من دون تدخلٍ أو تأثيرٍ من أية جهاتٍ خارجيةٍ في ما يخص مستقبله السياسي، وهو ما تكفله له المواثيق والأعراف الدولية.
منذ اندلاع ما سُمي بأحداث “الربيع العربي”، لم يتورع الرئيس إردوغان المهووس والمسكون بتحقيق حلم الخلافة العثمانية البائدة عن التدخل بشتى الوسائل في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية والعربية، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا، كما لو أنها ما زالت تشكل جزءاً من الإمبراطورية العثمانية التي ترامت أطرافها بين أوروبا وشمال أفريقيا.
سعت تركيا منذ اندلاع الثورة التونسية في العام 2011، التي أطاحت حكم الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، إلى دعمها بكل الوسائل المادية واللوجستية، لمعرفتها المسبقة بأن المنطقة الإسلامية والعربية مقبلة على تحولات دراماتيكية تمس المشهد السياسي وتصب في مصلحة تيار الإسلام السياسي الذي يشكل حزب العدالة والتنمية التركي أحد روافده.
وقد سهل وجود حزب “النهضة” التونسي في سدة الحكم، توسيع مجال النفوذ السياسي والاقتصادي لتركيا إدوغان -بسبب وحدة الأيديولوجيا التي تربط بين الحزبين- من خلال الاستثمارات التركية والمبادلات التجارية بين البلدين، التي لم تكن متكافئة بين الطرفين التونسي والتركي، إذ تميل كفتها لمصلحة الأخير، بسبب رفع الصادرات التركية نحو تونس، من دون رفع صادرات الأخيرة نحو تركيا.
وصول عجز الميزان التجاري إلى حوالى مليار دولار بين تونس وتركيا شكل عبئاً كبيراً على الاقتصاد التونسي الذي يعاني أزمات عدة، ما دفع السلطات التونسية مؤخراً إلى مراجعة كل الاتفاقيات التجارية المبرمة مع أنقرة.
كما أن البرلمان التونسي صوت قبل سنتين على مشروع قانون ينص على فرض رسوم جمركية على 90% من السلع والبضائع التركية، ما أثار غضب نواب حركة “النهضة” التي رفضت هذا الإجراء، وانسحبت فور بدء عملية التصويت عليه، إرضاء للحليف التركي.
ويبدو أن الدافع الحقيقي وراء تصريحات الرئيس التركي تجاه تونس هو توجيه من خسارة حزب “النهضة” التونسي الانتخابات التشريعية المقبلة، وبالتالي تقهقره في المشهد السياسي التونسي، بعد أن تداعت إحدى قلاع الإسلام السياسي المتمثلة بحزب العدالة والتنمية المغربي الذي يتزعمه الأمين العام الحالي عبد الإله بن كيران، الذي مني بخسارةٍ فادحةٍ في الانتخابات التشريعية التي نظمت في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، في ضربة جديدة لأحلام إردوغان الذي كان يمنّي النفس بحكم حزام إخواني يمتد من سوريا، مروراً بمصر، إلى دول الاتحاد المغاربي، بدعم ومساندة من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
وتأسيساً على ذلك، يرى إردوغان أن هزيمة حزب “النهضة” في الانتخابات التشريعية، في حال إجرائها، ستكون ضربةً قاصمةً للنفوذ التركي في تونس، وبالتالي تقويض بنيان ما بناه الرئيس التركي طيلة سنواتٍ بتحالفٍ مع صديقه زعيم حركة “النهضة” راشد الغنوشي، الذي يرعى المصالح التركية في تونس، لأن انحسار حضور الأخير يعني عملياً تراجع، إن لم يكن أفول، نجم التأثير السياسي والاقتصادي التركي في تونس، ونهاية أحلام إردوغان في بسط سيطرته على الدول التي كانت واقعة تحت الحكم العثماني.
زد على ذلك، أن الرئيس التركي، ورغم كل ما يشهده من أزمة داخلية بسبب سياساته، يفتعل أزمة خارجية لصرف أنظار الرأي العام التركي عن الداخل. هذا السلوك إن دل على شيء، إنما يدل على أن الرئيس إردوغان أضحى يعيش أسوأ حياته السياسية.
لا شك في أن القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد منذ 25 يونيو/تمور 2021، من قبيل تجميد عمل البرلمان لمدة 30 يوماً، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي حليف حزب “النهضة”، طبقاً للمادة 80 من الدستور التونسي، إضافةً إلى العديد من الإجراءات الأخرى المصاحبة لها، أطاحت طموحات إردوغان.
ختاماً، إن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لم يستوعب بعد حقيقة أن عهد وصاية الباب العالي وحكم الدايات والبايات والإيالات ولى إلى غير رجعة، وأن عقارب التاريخ لا يمكن إرجاعها إلى الوراء، لأن الشعب التونسي ليس قاصراً، وهو قادر على قيادة سفينة بلاده نحو بر الأمان، من دون تدخل جهات خارجية تملي عليه ما يجب أن يفعله. لذا، يمكن القول إن تونس ليست إيالة عثمانية يا إردوغان.
الميادين