قد تبدو مسألة الهجرة إلى تونس في السنوات الـ10 الأخيرة مستغربة، بخاصة بعد أحداث سياسية وإرهابية عديدة أضرّت بالوضع الاقتصادي والسلم الاجتماعي للبلاد، حتى صار الشباب التونسيون أنفسهم يتدافعون على قوارب الموت أو أمام أبواب السفارات الأوروبية لمن استطاع سبيلاً إلى تأشيرة للعبور نحو أكثر ضفاف المتوسط حظاً.
ومع ذلك، تظلّ الهجرة في اتجاه تونس أحد الحلول المتاحة أمام شعوب دول تعيش نزاعات وحروباً أهلية وفقراً مدقعاً. ومنذ إلغاء التأشيرة لعدد من دول أفريقيا جنوب الصحراء، شهدت تونس دخول أعداد كبيرة من المهاجرين النظاميين وغير النظاميين، إما للعمل أو للدراسة وإما لاعتمادها أرض عبور باعتبارها محطة للهجرة غير النظامية نحو إيطاليا (وفق المهرّبين)، إذ لا تبعد جزيرة “لامبيدوزا” سوى 150 ميلاً تقريباً، أما جزيرة “بنتلاريا” فتبعد قرابة 50 ميلاً.
وتحمل هذه الهجرة من الجنوب في طياتها مشكلات وصعوبات كثيرة، بين الهشاشة الاقتصادية والعنصرية والابتزاز والتحيل والعنف الجسدي، ويمكن ملاحظة ذلك في أي فضاء مشترك، إذ تجد مهاجري جنوب الصحراء الأفريقية بكثافة في مهن الخدمات ويتقاضون أجوراً منخفضة، وهم يضطرون إلى العمل أحياناً في أكثر من مهنة، إن سمح لهم الوقت. فمنهم من يعملون في غسل الصحون ومسح الطاولات في المقاهي والمطاعم، ومنهم من يعمل في المنازل أو ينظّف دورات المياه في الفضاءات العامة، أو في مجال الحلاقة والتجميل في الشوارع على غرار الموجودين في محافظة صفاقس.
ويمس هؤلاء المهاجرين أنواع من الاستغلال والمعاملة السيئة وعمليات التحايل والعنف الجنسي والمادي، وهم يضطرون إلى العيش في جماعات كبيرة داخل منزل صغير بإيجار باهظ، ولا يستجيب للشروط الصحية أو حتى الإنسانية.
وبحسب رمضان بن عمر ،الناطق الرسمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن عدد مهاجري جنوب الصحراء – وفقاً لآخر إحصاء أجراه المعهد الوطني منذ شهر – فقد وصل إلى واحد وعشرين ألفاً و466 مهاجراً، وتفند هذه الأرقام معطيات ما يُروّج على مواقع التواصل الاجتماعي أن عددهم كبير، ما يعكس التمييز تجاههم.
كذلك فإن وضعية هذه الفئة في تونس تسير نحو التدهور إلى جانب الانتهاكات التي يتعرضون لها للولوج إلى الحقوق الأساسية، ومن ناحية أخرى، فإن وضعيتهم الإدارية معقدة بحسب تعبير ابن عمر، لأن القانون التونسي فيه كثير من الإقصاء، بخاصة أنه يجعل عملية الإقامة والعمل صعبة جداً، إلى جانب انتهاكات الحقوق، كالحق في التعليم والصحة والحماية الاجتماعية.
وأضاف أن المهاجرين يتعرضون للتمييز العنصري إلى جانب الهشاشة والعنف الاقتصادي، وهم يعملون ساعات أطول مما يعمل نظراؤهم التونسيون، وبأجور أقل منهم، إلى جانب ما يمكن أن تتعرض له النساء المهاجرات من تحرّش وابتزاز، مؤكِّداً أن هذا الأمر استوجب وضع حد لكل هذه الممارسات. لأن هذه الوضعية الهشة تجعل المهاجرين عرضة لشبكات الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر، وفق قوله.
يكمن الخطر في هذه السنوات الأخيرة في تصاعد الخطاب المعادي لمهاجري جنوب الصحراء الأفارقة، يقول ابن عمر، إذ يبرز ذلك على شبكات التواصل الاجتماعي، كالذي يُنشر على صفحات النقابات الأمنية، ويفيد بأن المهاجرين متورّطون دوماً في الجريمة والشعوذة، إلى جانب دور الإعلام في نشر الصور النمطية المسيئة إليهم، والتحريض عليهم في فيسبوك والوصم الاجتماعي بأنهم عنيفون بسبب حوادث عرضية، كتلك التي حصلت في محافظة صفاقس التونسية، عندما نشبت معركة بين تونسيين و مهاجرين أفارية من جنوب الصحراء بالأسلحة البيضاء، أو نشر الأفكار المغلوط فيها عنهم من قبيل أنهم زادوا الوضع الاجتماعي سوءاً، لأنهم ينتزعون حق التونسيين في العمل، وفق تعبيرهم.
وجرى تداول مقاطع فيديو عديدة توثّق ممارسات استغلال واستعباد واعتداء جسدي على عمال وعاملات من أفريقيا جنوب الصحراء، على غرار مقطع فيديو وثّق ضرب مهاجر من قبل مؤجره في محافظة سوسة، وتبقى الحالات غير النظامية أشد سوءاً، حيث يجري ابتزازهم والمتاجرة بهم في مقابل خوفهم من التسليم للسلطات والترحيل، وتحجز في أحيان كثيرة جوازات سفرهم.
لا خدمات صحية للمهاجرين الأفارقة
كثيرة هي التعقيدات، فوضع الطلبة ليس أفضل حالاً، فيستلزم الحصول على بطاقة إقامة تقديم ملف يحوي أوراقاً عديدة منها: شهادة تسجيل في الجامعة وشهادة حضور وشهادة في الوضع المالي، إضافة إلى عقد إيجار بيت، وبطاقة صالحة لمدة سنة وتجديدها مكلف.
وقد أفادت دراسة كمية أجراها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تعود إلى عام 2019 بتنوع حالات التمييز التي يعانيها المهاجرون من بلدان جنوب الصحراء في تونس، ذلك ما يعادل 9.60% منهم تعرّضوا للإهانة، فيما تعرضت 33.90% للعنف الجسدي.
بثغر ٍباسم، تقول ماتيلدا (مهاجرة من غانا)، إنها جاءت إلى تونس عام 2018، اشتغلت في مهن عدّة، وهي اليوم عاملة في مصنع أحذية، إن الأجور التي يتلقاها المهاجرون في تونس قد لا تكفيهم لاستئجار منزل إلى جانب وضعها الرديئة، وهم في حال المرض يضطرون إلى التكفل بكل مصاريف العلاج، إذ لا يتمتعون بتغطية اجتماعية أو بطاقة علاج في المستشفيات العمومية.
ويحدد القانون التونسي التمييز العنصري على أنه تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسَب أو الأصل القومي أو الإثني أو غيره من أشكال التمييز العنصري، ومن شأنه أن ينتج عنه تعطيل أو عرقلة أو حرمان من التمتع بالحقوق والحريات، أو ممارستها على قدم المساواة، أو أن ينتج عنه تحميل واجبات وأعباء إضافية.
لذلك، يمكّن القانون رقم 50 الصادر عام 2018 ضحايا التمييز من اللجوء إلى القضاء للإنصاف وطلب العدالة، وكطذلك صادقت تونس عام 1967 على الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري.
وعلى عكس الإعلام التونسي، الذي يستعمل في جل مضامينه كلمة “أفارقة” وينشرها في المجتمع وكأن تونس تقع على تخوم أوروبا مثلاً، يناضل المجتمع المدني للحد من الممارسات المسيئة إلى هذه الفئة، وكشف شبكات الاتجار بالبشر وحالات العنف الجنسي، ومنح الاتحاد العام التونسي للشغل مهاجري جنوب الصحراء العاملين في تونس إمكانية الانتساب إليه.
كسر الصورة النمطية
وفي مقابل ذلك، ثمة صور مشرقة لمن استطاعوا الاندماج في المجتمع التونسي، إدريسه من مالي مثلاً درس في تونس ، ويقول إنه وجد ترحيباً من الشعب التونسي، ووصفه بالفضوليّ واللطيف والمتنوّع جداً. ويلفت إلى أن الاندماج سهل يسير لأن التواصل موجود بشكل إيجابي، مؤكّداً أن من صادفهم من التونسيين يجعلون الوافد إليهم يرغب في اكتشاف بلادهم وتقاليدهم وذويهم.
وذكر أنه لم يشعر بأي تمييز في مسيرته الجامعية، وعلى العكس تماماً، لديه كثير من الأصدقاء، ما زال على تواصل معهم حتى الآن، وحتى في المرات القليلة التي تعرض فيها لفعل عنصري كان مردّ ذلك إلى أن الناس لم يكونوا معتادين مقابلة أفارقة من جنوب الصحراء، بسبب الصور النمطية سيئة عنهم.
وفي السياق نفسه، ترى نادية، وهي طالبة تونسية في السنة الثانية من الماجستير، أن التونسيين متسامحو ن ويتقبّلون الاختلاف وأن حالات العنف والكراهية شاذة وفردية، ولا تلزم إلا أصحابها وأن التمييز موجود في كل دولة وثقافة في إطار صراع الهويات.
وأردفت قائلة إن التونسيين يتعرضون للتمييز في أوروبا مثلاً وللاتهامات نفسها كالجريمة والعنف.
أما سلوى، صاحبة مشروع في محافظة نابل، فتقول إن مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء ودودون جداً، لافتة إلى تشغيلهم، وبخاصة النساء منهم، ومساعدتهن، أمر يسعدها، في ظل الوضع الاقتصادي المتردي.
الميادين