على بعد أمتار من سواحل حلق الوادي في الضاحية الشمالية للعاصمة لا يزال مطعم “جاكوب لولوش” من بين العشرات من المطاعم اليهودية التي هجرت أغلبها البلاد، يمثل علامة راسخة لعراقة المطبخ اليهودي في تونس.
عكس الآلاف من أفراد الطائفة اليهودية في تونس الذين رحلوا عنها إبان الحروب العربية الإسرائيلية، فضل لولوش البقاء في تونس.
عاد “لولوش” من فرنسا في تسعينات القرن الماضي بعد حصوله على الدكتوراه في الإدارة وفتح مطعمه المختص في الأكلة اليهودية، التي تمثل أحد المكونات الرئيسية للمطبخ التونسي.
ولكن لولوش ليس وحده من ذاع صيته من الطائفة اليهودية في قطاع المطاعم والمشروبات. فعلى الضفة المقابلة في “حي الحفصية” وسط المدينة القديمة بالعاصمة لا يزال مقهى “الكاستيلو” يمثل قبلة رئيسية للكهول والشباب للعب الورق والدومينو.
هناك يلتقي رضا شارني المتقاعد مع جمع من أصدقائه في موعد يومي لا يتخلف عنه منذ نحو عقدين. ولا تخلو جلساتهم عن ذكريات الماضي المخيمة على أرجاء المقهى الذي تعود ملكيته إلى يهودي في ما مضى وغادره منذ عقود قبل أن يتوفى.
وقبل أن يتحول إلى هيئته الحالية كمقهى، يذكر رضا أنه كان في بداياته أحد أشهر المطاعم يعج بالحرفاء لأكل الأطباق اليهودية وشرب البيره. ويضيف رضا “كانت أياما جميلة. الجميع في الحفصية كانوا يحبون كاستيلو ويذكرونه بخير”.
ويتابع رضا “كان اليهود في الحفصية يحسنون إدارة أعمالهم بشكل لافت. لديهم عدة عقارات هنا لكنها اليوم لم تعد ملكهم. هجروها منذ عقود وتركوا كل شيء خلفهم”.
يقدر عدد أفراد الطائفة اليهودية في تونس اليوم بنحو 2000 بعد أن كان في حدود 100 ألف في منتصف القرن الماضي، حيث غادر أغلبهم البلاد.
وعلى الرغم من تقلص أعدادهم بشكل كبير إلا أن الأقليات اليهودية تملك بصمة واضحة في تاريخ تونس، وفي عاداتها التي تطال حتى المطبخ التونسي المتنوع. ويشمل ذلك أشهر الأكلات في البلاد والأكثر إقبالا عليها من قبل التونسيين في المطاعم.
وما يميّز المطبخ اليهودي أنه ليس مكلفا ولا يعتمد كثيرا على اللحوم، ويعتمد على الخضار الرخيصة حسب الفصول، ويسهل طبخها، كما أنها تباع بأسعار عادية في كل المطاعم الشعبية، وطبق “الكفتاجي”، المكوّن من خضار مقلية مع الفلفل والبندورة والبطاطا، وأيضا مع البيض المقلي والبهارات، أحد أهم هذه الأكلات اللذيذة والشهيرة جدا في تونس.
وقبل عقود طويلة كانت مطاعم اليهود منتشرة في العاصمة وفي عدة مدن أخرى في الجنوب، مثل مطاعم حلق الوادي ذات الإرث اليهودي الواضح ومنطقة لافيات وسط العاصمة فضلا عن رواج تجارتهم في أسواق الذهب والمجوهرات بالمدينة العتيقة.
ويقول الباحث عبدالستار عمامو المتخصص في التراث، “بعض أسواق العاصمة على ملك يهود على غرار سوق القرانة بالمدينة العتيقة، وتياترو (مسرح) كوهين في شارع روما هو كذلك على ملك يهودي. وهناك نزل الماجستيك وثلثا منطقة حلق الوادي، كلها ممتلكات يهود تونس القدامى”.
لكن خلف تلك الحقبة الذهبية ليهود تونس يتصدر اليوم واقع معقد بسبب النزاعات حول الأملاك التي تركها الآلاف من بينهم بعد مغادرتهم لتونس للعيش في إسرائيل أو في بعض الدول الأوروبية. وأدى التوتر السياسي بين إسرائيل وتونس بسبب حرب التصريحات في السنوات الأخيرة إلى تعزيز مطالب داخل إسرائيل بالتعويض عن تلك الممتلكات لمواطنيها اليهود.
وتحدثت تقارير إعلامية في إسرائيل عن تجهيز الحكومة لمطالب ستوجه إلى إيران وسبع دول عربية من بينها تونس، من أجل مطالب بتعويض مواطنيها من أقلية اليهود عن ممتلكاتهم التي تركوها خلفهم إبان هجراتهم عقب قيام دولة إسرائيل.
ويقدر حجم تلك التعويضات حسب تقارير إسرائيلية بنحو 250 مليار دولار من بينها 35 مليار دولار قيمة تعويضات اليهود الذين رحلوا عن تونس.
ويذكر عمامو أن بعض اليهود باعوا ممتلكاتهم لتونسيين مسلمين قبل رحيلهم، ومنهم من كتب رزقه لجيرانه أو عماله من التونسيين المسلمين حتى لا يكون عرضة للنهب.
وأوضح “بعض العقارات والدكاكين التي تركها أصحابها استولى عليها تونسيون مسلمون وأصبحت ملكهم بحكم رحيل أصحابها اليهود إلى الأبد”.
وبينما تنفي الحكومة في تونس أي استيلاء ممنهح على أملاك اليهود أو غيرهم من الأجانب الذين غادروا البلاد عقب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، فقد أعلن غازي الشواشي الذي شغل منصب وزير أملاك الدولة في وقت سابق، عن “وجود لجنة لإدارة شؤون اليهود وهي تقوم بتكليف محامين لحل المشكلات العقارية العالقة لليهود مثل باقي المواطنين”.
وقال بيريز الطرابلسي رئيس هيئة كنيس الغريبة الشهير في جزيرة جربة جنوب البلاد “لا وجود لممتلكات لليهود في جربة، ولكن في العاصمة تونس هناك حوالي 80 في المئة من اليهود فرطوا في ممتلكاتهم دون أن يعرفوا مصيرها، وهناك من توفي منهم وليس له أبناء وجميع هذه الممتلكات تم الاستيلاء عليها، ولم يكن هناك ممثل لليهود في تونس بسبب وفاة الأعضاء المشرفين على اليهود في البلاد”.
صحيفة العرب